لا يمكن لقارئ كتابات هايدجر فهم فكره إلا إذا كان مستعدا لأن يدرك في كل مرة أن ما يقرأه خطوة لا بد من التفكير فيها وانه ما يسير هايدجر نحوه؟ ربما يتوجب فهم فكر مارتن هايدجر، يقول بوجيلر، ليس كطريق تؤدي إلى عدد من الأفكار، بل كمسار يقتصر على هذا الفكر الوحيد والمتفرد الذي يأمل المفكر في توقفه يوماً ما كنجم في سماء الكون: التوجه نحو نجمة واحدة، وهذا وحده".
توجه على الطريق، وجود-على-الطريق، هكذا كان هايدجر دائما يتصور فكره. في نهاية الجزء المنشور من "الوجود والزمان"، قيل إن الصراع من أجل الوجود ما يزال يتعين القيام به، ولكن هذا يتطلب الاستعدادات: إنما نحو ذلك فقط يتوجه البحث الحالي.
نسيء دائما فهم فكر هايدجر عندما نعتبره طريقا نحو شيء جديد، أحدث ما في الحداثة. إن ما يميز الوجود-على-الطريق وفقا لهذا الفكر يتمثل على وجه التحديد في ما يفعله فقط لإخراج هذا الذي، لكونه سقط في غياهب النسيان، يدعم دائما كل فكر. هكذا لا ينتج هذا الوجود-على-الطريق شيئا جديدا ولا يمثل أبدا تقدما نحو ما لم يسبق له من قبل أن كان موجودا.
على خلاف ذلك، في هذا الفكر، الخطوة إلى الوراء، العودة إلى ما كان، إلى اللامفكر فيه من الأصل الذي يشكل الطريق إلى المستقبل. هذا المسار المؤدي إلى الخلف، هذه العودة التي ما تزال باقية هناك حيث توجد من قبل دائما هي الأصعب، هي "أكثر صعوبة بلا حدود" من سباقات الوعي العلمي-التقني المفتونة بالتقدم. ولأن الفكر الذي يذهب إلى الجوهر يسلك مسارا معينا، يحتحب عن الاهتمام العلمي، الذي يتوجه نحو النتائج االتي هي دائما الأكثر جدة ونحو خطوات التقدم التي خطاها البحث، فضلا عن التذوق الصحفي لما هو في ذلك الوقت على وجه التحديد الحديث والأكثر حداثة.
من المؤكد أن مسار فكر هايدجر يتميز بتبني مواقف نهائية، وبتحولات بطيئة التكوين وانتكاسات مفاجئة. هكذا إذن يمكننا، مثلا، أن نتساءل عن علاقة هايدجر الشاب باللاهوت المسيحي، وهي علاقة سوف يتم الحديث عنها في هذه المقالة؛ في حين لن يقول الكاتب أي شيء عن علاقة هايدجر اللاحق بلاهوت هولدرلين الأسطوري-الشعري؛ كما يمكن أيضا التشكيك في أحكام هايدجر السياسية ومحاولته فهم ما يحدث اليوم في تاريخ العالم.
قد نستطيع كذلك عند الاقتضاء إثارة مسألة المظاهر الغنوصية في "الوجود والزمان" ومسألة المحاولة اللاحقة للعودة إلى العصور القديمة، حيث "ما زال-العالم-وطنا" وحيث يقف الفكر إلى جوار الأسطورة والقول الشعري.
قد نتساءل حتى عن العلاقة التي يحتويها فكر هايدجر بمظاهر حديثة كاللاهوت "الجدلي" أو الفلسفة الوجودية. عادةً ما تحكم مثل هذه الأسئلة على علاقة هايدجر بـ... باسم الإجابة على الأسئلة النهائية للفكر والإيمان. لهذا السبب سيكون من غير المناسب محاولة وضع هايدجر على عجل في السياقات الحالية، أيا كانت، بل الجدير بنا أن نرى إلى أي مدى يقدم فكره نفسه ليس كشيء غريب عن عصرنا، بل ظاهر، ولكل ما فيه من راهنية. لا ينبغي لنا، يقول بوجلير، أن نستعجل إقامة جسر فوق هذه الخاصية غير العادية؛ يجب أن تنفجر الأخيرة أولاً بكل عمقها. في ما يتعلق بالإجابات على الأسئلة النهائية للمعرفة والإيمان، يمتنع هايدجر صراحةً عن أن ينسب إلى الفكر الادعاء المتعجرف بمعرفة حل الألغاز والإتيان بالخلاص. هو نفسه يريد فقط، كطالب مواظب، أن يفحص الفكر كما وجد حتى الآن لاكتشاف ما يحتويه من لا مفكر فيه، ربما لنتمكن من اكتشاف هكذا بطريقته مكان حقيقة الوجود كمكان للبناء والعيش في المستقبل.
ومهما يكن، يكفي أن هذه المقدمة لفكر مارتن هايدجر توضح ولو قليلاً، بالنسبة إلى مسار فكر الفيلسوف في مجمله، ما عبر عنه ذات يوم، خلال محادثة مع ضيف ياباني، عن ذلك بالطريقة التالية، في إشارة إلى مشوار محدد تماما للمسار: "لم اعمل سوى على لتباع مسار غير دقيق، لكنني تابعت. كان المسار بمثابة وعد بالكاد يمكن إدراكه، يبشر بانطلاق نحو الحرية، أحيانا غامض ومزعج، وأحيانا شبيه بالبرق، مثل لمحة مفاجئة، ما تلبث أن تحتجب مجددا لمدة طويلة عن أي محاولة للتعبير عنها.
في نهاية هذه المقدمة، ارتضى كاتب المقالة تقديم نصيحة متعلقة بالقراءة؛ مؤداها أن الإكثار من الهوامش والانهمام بها يحملان في طياتهما خطرا يتمثل في إرهاق الانتباه بالتنقل ذهابا وإيابا بين النص الرئيسي وأسفل الصفحات. ويبدو لنا أيضاً أن أ الطريقة الجيدة للمضي قدما هي قراءة الخطاب دون الاهتمام بالهوامش التي يمكن العودة إليها في النهاية. لم توجد هذه الهوامش لتأطير القراءة وتقييد المعنى بواسطة تعليق أحادي المعنى. لكنها، من الناحية العلمية والأكاديمية، لن تعدو أن تكون إحالات إلى مصادر ومراجع رئيسية أو ثانوية كان لا بد من اسشارتها خلال المراحل التي مر بها البحث.
في كلمة تمهيدية، تساءل روبنس بيليدور: هل إنجاز دراسة تتناول الحقيقة والحرية في جوهرهما أمر ممكن؟ في الوقت الذي تحرز فيه التكنولوجيا تقدما هائلا، حيث نتساءل عما إذا كانت الحقيقة ما تزال تحتفظ بمكانتها، إذا كانت الحرية موجودة بالفعل، ألا يكون المشروع بالفعل على وشك الإفلاس؟ لا شك أننا سوف نواجه المخاطر وسوف نخوض المغامرة. وهي مستبعدة كل فكرة مسبقة، لا تطمح هذه الظراسىة إلى تقديم رؤية تنبؤئة، بل الغرض والهدف الرئيسي منها هو إظهار أن الحقيقة والحرية في جوهرهما بحسب الفكر الهايدجري هما الشيء نفسه، ويشكلان بإطلاق البنية الوجودية للإنسان. هذا الإتسان باعتباره الكائن الذي هو نحن جميعا. ولكن، هل الحقيقة والحرية هما أيضا كائنان من بين كائنات أخرى؟ من السابق لأوانه الجواب على هذا السؤال الميتافيزيقي، الذي سنحصل عليه عندما نسائل الوجود وندركه كما هو في ذاته.
كيف نمضي قدما لاكتشاف ما هي الحقيقة والحرية؟ استنادا إلى قراءة وتحليل نصوص هايدجر، سوف يقدم الكاتب تعريفات مختلفة للحقيقة والحرية عند هايدجر. وانطلاقا من التعريف التقليدي الحقيقة، سوف يبين أن هايدجر وضعه جانبا ليعود إلى الأصل ذاته، ليقول ما هي الحقيقة في جوهرها، وكذلك الحرية. سوف يقوم بالتحقق من التشابهات والاختلافات (إذا كانت هناك اختلافات) بين مختلف المقاطع حول هذه المسألة؛ بمعنى آخر سوف يعرض الرابط أو العلاقة الموجودة بين هذين المفهومين. ولأن هدفه الأسمى هو أن يبين أن الإنسان يستمد أساسه أو بنيته الأنطولوجية من الحقيقة والحرية، سوف يبين، من ناحية، كيف تبلورت توليفة الفكر الهايدجري حول الحقيقة والحرية؛ ومن ناحية أخرى، سوف يعرض، وهو يفكر في الإنسان من حيث جوهره، لتحليل موجز للحرية باعتبارها شرط إمكان ظهور كينونة الوجود، أي فهم الوجود كهدف أخير. وسوف يختتم مقالته، في مقام أول، مع القطب اللاهوتي للحقيقة وتوافق الرسالة الهايدجرية مع الرسالة الإنجيلية حول الحقيقة؛ وفي مقام، ثان، سوف يتعامل بإيجاز مع التزام هايدجر القومي الاشتراكي، نظراً لإصرار فكره على العلاقة بين-الحقيقة-الحرية.هذا ما سيقف عنده القارئ في الصفحات التالية. يقول هايدجر في كتيب له بعنوان "أسئلة" (الجزء الثاني، ص: 108): "إنما في فكر الوجود يدخل تحرير الإنسان من أجل الوجود، التحرير الذي يؤسس التاريخ، في الكلمة". يؤمن هايدجر في قرارة نفسه بأنه في البدء كانت الكلمة التي ليست، في نظره، "تعبيرا" عن رأي، لكنها منذ الوهلة الأولى تعبير عن حقيقة الموجود ككل. الكلمة بما هي كلمة تتكلم. باعتبارها كلمة البدء، تفتح كل مجالات التساؤل التي تعترف الفلسفة بكونها تنتمي إليها: الكلمة تقول الوجود، الحقيقة، اللغة، المصير، الزمان.
في الفقرة الثانية من "الوجود والزمان"، يقول هايدجر إننا نتحرك قبلا ودائما في صلب فهم عادي وفضفاض للوجود، دون اعطاء أي جواب على السؤال المطروح بوضوح حول معنى الوجود ولسنا قادرين على تطوير هذا السؤال بما يناسب. يجب، في نظره، طرح هذا السؤال عدة مرات لأنه ينتمي منذ البداية إلى تاريخ الفكر الميتافيزيقي على شكل اللامفكر فيه؛ بل يجب رميه جانبا وطرحه من جديد، باسم علل موضوعية فيها تجد "الخاصية المبجلة" لأصل هذا السؤال أصلها.
أفلاطون، ارسطو، القديس توماس، لايبنتز، كل هؤلاء سموا الوجود وتحدثوا عنه دون أن يخلطوه بالموجود. لكن، بحسب هايدحر، نخلطه اليوم بالموجود، وإذا كان هناك خلط، فهو يقف فقط عند الحد الذي يقع فيه وعلى اعتبار أن ما أسماه اليونانيون ontos on أو alèthès on محدد منذ أفلاطون، وكذلك من قبل الوجود، لأن في الموجود يوجد موجود على نحو حقيقي أكثر. لكنهم لم يفكروا فيه انطلاقا من الاختلاف بين الوجود والموجود.
إنما فقط في نص تم الكشف عنه تحت عنوان "في ماهية الحقيقة" سنة 1934، طبع سنة 1943 ونشر سنة 1949، شرع هايدجر في التأمل، للمرة الأولى، عبر عودة إلى اليونان ومجاوزة التجربة اليونانية ذاتها، في الجوهر المحجوب عن المفكرين اليونانيين لما كانوا يسمونه الalèthèia، وأسموه في نفس الوقت تسمية الlèthè الذي تخرج منه الalèthèia. في هذا النص يصل الفكر إلى أعلى درجات تركيزه مع الجملة الأولى من الجزء السادس والتي تحمل عنوان "اللاحقيقة كانسحاب" (والتي سيتم لاحقا توضيحها أكثر). تمت ترجمة هذا العبارة في "أسئلة" (الجزء الأول، ص: 182) على النحو التالي: “التعتيم يرفض لalèthèia كشف الحجاب. إنه يرفض حتى كstérésis (حرمان) مع الاحتفاظ للalèthèia بما هو خاص بها".
وفقا لجان بوفريه، الترجمة هنا غير أمينة، حيث تم بشكل تعسفي استبدال العبارة الألمانية noch nicht (دون أيضا) بالعبارة الفرنسية même pas (لا حتى). قال هيدجر بالفعل: "دون ايضا". لو ترجمنا مرة أخرى عن طريق استبدال التعتيم بالانسحاب، نحصل إذن على: "الانسحاب يرفض لalèthèia أن تفقس دون أن تترك الأخيرة المجال فسيحا لأول حقوقها، إنما (الانسحاب) هو الذي يترك ما هو خاص به أكثر ينتمي إليها (alèthèia)". وبعبارة أخرى، الانسحاب في حد ذاته يلعب دورا سلبيا في تجلي الحقيقة. في "الوجود والزمان"، الانسحاب الموصوف أيضا بالانسحاب من العالم (Entweltlichung)، يسمى من جهة أخرى Veefàllen، ما يمكن ترجمتها ب"انحطاط". انحطاط مماثل بدأ في الفكر اليوناني بتثبيت الalèthèia على أنها تعني (مفتوح-بدون-انسحاب) لاإخفاء (Un-verborgenheit).
يجب أولاً أن نتعلم احترام "الإيجابي" في جوهرنا الخاص للalètheia وهذا ما سيحاول الكاتب القيام به. يجب أولا حل الأزمة الكامنة في أن الموجود الوحيد دائما، بل الوجود نفسه هو الذي يصبح جديرًا بالسؤال. لندرك أن كلمة krisis (أزمة) باللغة اليونانية تعني حكما، قرارا، اختيارا. وطالما ظلت هذه الأزمة معلقة، ما تزال بداية الحقيقة قائمة، غير مرئية في مأوى أصلها. وهذا هو الأصل الذي سيحاول الكاتب اكتشافه من خلال تتبع يؤدي إلى ماهية الحقيقة.
هوبعد عرض كلمته التمهيدية، انتقل روبنس بيليدور إلى الجزء الأول الذي أفرده لتقديم التعريفات المختلفة للحقيقة عند هايدجر، والذي بدأه بالإشارة إلى أن ما يهمه هنا بالدرجة الأولى مسألة جوهر الحقيقة وحرية الإنسان عند هايدجر، أي الحقيقة والحرية في وجودهما ذاته. من أجل شرح واضح للفكر الهيدجري، سيتم تعريف هذين المفهومين في كل جزء على حدة. في الجزء الأول سيبين الكاتب النهج الذي اتبعه هايدجر ليجعلنا نفهم ما هي الحقيقة في جوهرها، فيما سوف يتضمن الجزء الثاني دراسة الحرية. وعلى عتبة هذا الحزء، هناك توجه نحو الحقيقة وتساؤل حولها. وباقتفاء أثر هايدجر، سوف تكون البداية من التعريف التقليدي أو المفهوم الحالي للحقيقة.
يطرح النهج الهايدجري نفسه تحت بعد مثلث من الأبعاد: (1) بعد حملي أو بعد خبري، (2) بعد قبل حملي أو بعد كينوني، و(3) البعد الوجودي. لتفسير هذا النهج الثلاثي، بدأ الكاتب أولاً بالبعد الحملي منطلقا من حقيقة العبارة إلى الحقيقة الجوهرية وصولا إلى الحقيقة الحملية.
يتساءل هايدجر: ماذا نقصد عادة بكلمة "الحقيقة"؟ هناك، بحسبه، ثلاث أطروحات تميز التصور التقليدي لماهية الحقيقة والرأي الذي لدينا عن تعريفها الأساسي، وهي: (1) "مكان" الحقيقة هو العبارة، أي الحكم؛ (2) جوهر الحقيقة يكمن في "توافق" الحكم مع موضوعه؛ (3) أرسطو، أب المنطق، كان أول من نسب الحقيقة للحكم كما لو نسبها إلى مكانها الأصلي؛ وهو من روج لتعريف الحقيقة على أنها "اتفاق". وهكذا، بحسب التصور المتداول، فإن "الصادق"، سواء كان شيئا أو حكمًا صادقا، هو ما وافق، ما توافق. ولكن مهما كان مكان الحقيقة، فإن طبيعتها واحدة. العبارة الصادقة والحقيقة يعنيان الاتفاق، ويكون ذلك على وجهين: أولا كاتفاق بين الشيء وما يفترض فيه، ثم كتوافق أومطابقة بين المقصود بالعبارة والشيء. لكن هذين الشكلين من الاتفاق ليسا منفصلين: فالثاني يفترض الأول؛ لأن العبارة الصادقة من المفترض أن تعبر عن الشيء كما هو، في حقيقته الخاصة. إن هذا التصور للحقيقة هو ما تم إيداعه في تاريخ الفلسفة، وتناولته طوال تاريخها. نجده مكثفا وموضحا في التعريف الكلاسيكي: "الحقيقة هي تطابق الشيء مع المعرفة" (Veritas est adœquatio rei et intellectus). مكثف أولاً، لأن الصيغة التي تقول (في كلمة تطابق) الطبيعة الفريدة للحقيقة، يمكن تحليلها بمعنيين يتوافقان مع "المكانين" اللذين تم تمييزهما سابقا: يمكن أن تفهم إما على أنها تطابق الشيء مع المعرفة، وإما على أنها تطابق المعرفة مع الشيء. عادة، يتم التعبير عن التعريف المذكور فقط في الصيغة: "مطابقة الفكر لموضوعه في الواقع الحسي" (veritas est adœquatio intellectus ad rem).
ومع ذلك، فالحقيقة مفهومة على هذا النحو، أو حقيقة الحكم، ليست ممكنة إلا على أساس حقيقة الشيء، على أساس تطابق الشيء مع المعرفة. وبعبارة أخرى، أيا كانت الطريقة التي نفسر بها الشيء، فيتعين علبه أن يكون اولا في حد ذاته معقولا، وهذا يعني أن يكون صادقا.
بطريقة واضحة، يستهدف هذان المفهومان جوهر الحقيقة التوافق مع... التفكير بالتالي في الحقيقة باعتبارها مطابقة. مع ذلك، أحد هذين التصورين لا ينتج ببساطة عن تحول الآخر. على العكس من ذلك، يتم التفكير في المعرفة (intellectus) والأشياء (res) بشكل مختلف في الحالتين. لمعرفة ذلك، علينا أن نبحث عن أصل هذا التعريف ومشروعيته. لذلك يجب علينا إرجاع التعبير الدارج عن المفهوم العادي للحقيقة إلى أصله المباشر، في القرون الوسطى. الحقيقة المفسرة كتطابق بين الأشياء والمعرفة (Adœquatio rei intellectum)، لم تعبر بعد عن الفكر الترسندنتالي الكانطي، الذي جاء لاحقا ولم يعد ممكنا إلاىانطلاقا من الجوهر الإنساني باعتباره ذاتية، (رغم أن كانط هو الٱخر تناول الصيغة في "نقد العقل الخالص")، الفكرة الذدتي بموجبها "تتوافق الأشياء مع معرفتنا". لكنها تعود إلى الإيمان المسيحي والفكرة اللاهوتية التي بموجبها لا تكون الأشياء، في جوهرها ووجودها، إلا لكي تتوافق مع الفكرة المُتصورة سابقًا في الفهم الإلهي، أي في روح الله.
الأشياء منظمة وفقا للفكرة، متطابقة، وهي، بهذا المعنى، "صحيحة". الفهم البشري هو أيضا كائن مخلوق. تلك ملكة وهبها الله للإنسان، يحب أن يكون الفهم البشري موافقا لفكرته. ولكن الفهم البشري لا يتوافق مع فكرته إلا إذا حققىفي أحكامه تطابقا بين التصور والشيء، ويجب أن يكون الأخير، من جانبه، مطابقا للفكرة. هذه، في نهاية المطاف، مجرد نسخة لاهوتية من التصور الأفلاطوني للحقيقة الذي سيتم النظر فيه لاحقا. إذا كان كل موجود "مخلوقا"، فإمكان حقيقة المعرفة الإنسانية يتأسس على أن الشيء والحكم كلاهما مطابق للفكرة وهنا قادمان من وحدة خطة الخلق الإلهية، فهما بالتالي متناسقان مع بعضها البعض.
(يتبع)
المرجع:
RUBENS BÉLIDOR
DÉPARTEMENT DE SCIENCES HUMAINES
Faculté des lettres et sciences humaines
Université de Sherbrooke