الابستمولوجيا في الفلسفة الحديثة - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تمهيد:
مبحث الابستمولوجيا  في تاريخ الفلسفة احد الاقانيم الثلاث التي قامت عليها الفلسفة منذ عهدي اليونان والرومان حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد مع ظهور اول فيلسوف اغريقي طاليس.مبحث الوجود، مبحث المعرفة (الابستمولوجيا) والثالث مبحث القيم (الاكسيولوجيا) يهتم بالحق، الخير، الجمال ويمكننا اضافة المنطق وفلسفة الاخلاق.. وتذكر بعض المصادر ان طاليس زار مصر ودرس الفلسفة في الاسكندرية كما زار بابل لنفس الغرض. ومثله فعل فيثاغورس 570 ق .م حيث درس علوم الرياضيات والجبر والهندسة حين زار بابل والتقى علماء البابليين ونقل العديد من مباديء الرياضيات الى بلاد اليونان لعل في مقدمة هذه المباديء هو استعمالات المثلث انه شكل هندسي يتكون من ثلاثة اضلاع ومجموع زواياه 180 درجة احداها 90 درجة وهي الزاوية القائمة. كما نقل بعض المباديء الرياضية والهندسة والمعمار التي كانت تجهلها الشعوب اليونانية. المهم ليس هذا موضوعنا.

من تاريخ فلسفة مبحث الابستمولوجيا

تقول مصادر تاريخ الفلسفة الى أن هوسرل فيلسوف الظاهراتية (الفينامينالوجيا) عمد الى احياء الميراث الديكارتي العلمي في القرن السابع عشر. وكانت رسالة هوسرل ثورة على شتى النزعات اللاعقلية والارتيابية والعدمية التي كانت تنخر  عظام الحضارة الغربية في القرن العشرين .(نقلا عن د.زكريا ابراهيم).

 عند محاولتنا تقصي بعض النقاط التي تحاول ربط تفكير ديكارت فيلسوف الثورة العلمية كما يحب بعض المشتغلين بالفلسفة نعته بها وهو بريء منها. في كتابه الشهير جدا (مقال في المنهج) اثار جملة قضايا تقوم على مركزية الشك بكل شيء جاءنا كموروث يؤثر بحاضرنا ونتداوله فلسفيا. منهج الشك الديكارتي اثار ضجة كبيرة جدا ليس في عصره بل بعد وفاته عام 1900م بقرون طويلة. حتى مفكرنا الكبير عميد الادب العربي طه حسين تأثر بمنهج الشك الديكارتي فاصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) الذي اثار ردود افعال بين مؤيد ومستنكر رافض اثناء وبعد وفاة طه حسين. النقطة التي اود ذكرها ان طه حسين اراد تلبيس منهج الشك الديكارتي موروثنا الشعري العربي باعتساف وتبيئة المصطلح مصريا واسقاطه على تاريخ الشعر العربي واصفا اياه بالمنحول وهو في غالبيته جاءنا موروثا عن شعراء العصر العباسي.

التساؤل لماذا لعب شعراء العصر العباسي الاول والثاني هذه اللعبة ومعلقات شعراء عصر الجاهلية عصر ما قبل الاسلام كانت معلقة على استار الكعبة بقرنين على الاقل قبل ظهور الاسلام وحوالي اربعة قرون سبقت مجيء الشعراء العاسيين.!! من وضع هذه المعلقات الشعرية وهل شعراؤها اسماء عباسية منتحلة غير حقيقية؟  بمجيء القرن الرابع الهجري إذ قام عبقرية اللغة العربية والشعر العربي خليل بن احمد الفراهيدي 100 - 170هجرية بوضع بحور الشعر الستة عشر كما قام بتنقيط القرآن الكريم ووضع نحو وقواعد اللغة العربية وتنقيط حروف اللغة العربية ووضع العلامات النحوية الاربعة الضمة والكسرة والفتحة والسكون والتنوين والشدّة على حروف اللغة العربية التي اجملها ب28 حرفا وبعضهم يعتبرها 29 حرفا باضافة الهمزة كحرف له شكل وصوت.

لم يكن الشعر الجاهلي يسري تناقله بين القبائل العربية مكتوبا بل مشافهة. وقل مثل هذا مع اللغة العربية الفصحى الام اذ كانت تتناقلها القبائل بلهجات تقوم على سليقة وملكة فطرية خالية من النحو والقواعد. واثبت الدارسون نشأة اللغة في حياة الانسان إذ لا زالت بعض القبائل البدائية تحتفظ بلغات تقوم على السليقة والفطرة ولا يعرفون شيئا عن محكومية اللغة التزامها بقواعد نحوية وصرفية تميّزها عن اللغات واللهجات لدى اقوام اخرى. فاطلق باحثي وعلماء اللغة واللسانيات مصطلح ما فوق اللغة.(تراجع مقالتنا مصطلح مافوق اللغة في اللغة العربية فيها تفاصيل مهمة حول المصطلح).

نزعة العلم الحديثة بالفلسفة

لنعد الان هل حقا كان ديكارت فيلسوف النزعة العلمية وهوسرل بعد ثلاثة قرون اراد إحياء هذا التراث العلمي الديكارتي بمنهج الفينامينالوجيا في القرن العشرين. ولنا هنا وقفة نقدية توضيحية حول هذه الاطروحة.

اولا لم يكن ديكارت (علميا) في فلسفته بل كان في منهج الشك مثاليا ميتافيزيقيا بوضوح شديد. ديكارت وليس هذا معيبا كان متاثرا بافكار فرانسيس بيكون 1561- 1626، كما كان لثورة كوبرنيكوس 1543 في نظريته الفلكية التي قال فيها ان الشمس هي مركز مجموعتنا الكوكبية بما عرف بدرب التبانة وان الارض تدور حول الشمس مرتين احدهما يومية امدها 24 ساعة والثانية فصلية امدها 364 يوما.

محاولة ادموند هوسرل بالقرن العشرين احياء النزعة العلمية الديكارتية انما جاءت مع ظهور الفلسفة البنيوية بروادها المتطرفين الذين هاجموا بشدة كل ما جاءت به الحداثة في تمجيدها العلم والعقل ومركزية الانسان. وسنأتي لاحقا على تفسير هذه الحلقة الإنعطافية بتاريخ الفلسفة. فقد كان لشتراوس والتوسير وفوكو وجيل ديلوز وميرلوبونتي تاثيرا قويا في مهاجمتهم السرديات الكبرى تتقدمها السردية الماركسية وسرديات لاهوت الدين المسيحي ولم يسلم منهم انكارهم العقل والانسان كما فعل فوكو بكتابه (الكلمات والاشياء) ولا شتراوس في مهاجمته الماركسية في كتاب راس المال الذي احتذى حذوه التوسير بأشد إبتذالية فلسفية  مهاجمته كتاب راس المال.

انه لمن حقائق تاريخ الفلسفة الاعتراف أن ديكارت كان إبن عصره تماما لكنه كان في هذا الحضور براجماتيا في مقولته التقيّة (يسلم من يعش بالظل) وكان معذورا بهذا المنحى تجنبا بطش وتنكيل رجال الكنيسة الكاثوليكية في معاقبة كل من يخرج على ما جاء به ارسطو الذي حكمت افكاره اوربا الفي سنة بما اطلق عليه القرون الوسطى الاوربية.

تبنى ديكارت وباستماتة فلسفية أهمية الحصول على المعرفة العلمية (الابستمولوجيا) ولجأ لنوع من الترضية التلفيقية التي تبعد عنه خطر الملاحقة التي راح ضحيتها جوردون برونو حرقا على الخازوق لقوله انما الارض كوكب صغير من آلاف الكواكب. ولم يسلم من هذه الملاحقة البشعة غاليلو ما جعله يتراجع امام المحكمة حول إبطال مقولة ان الارض تدور. ماجعله يخرج من المحكمة وهو يضرب الارض بعكازه غضبا مرددا مع نفسه ولكن الارض تدور سواء قلت ذلك انا أو لم اقله.

علمية ديكارت الافتعالية انه حاول ترويج منهج الشك في طرحه توليفة لمتناقضات لا يمكنها الالتقاء المجدي مع بعضها. فقد اراد جمع (الدين والعلم والفلسفة) في نوع من التكامل المعرفي والتخارج البيني في تعايش غير متقاطع بينيا لهذه الاقانيم الثلاث. كما طرح ديكارت إحياء مقولة اليوناني برتوغوراس قوله (الانسان مقياس كل شيء بالوجود). فقال بمركزية الانسان واعتبره قيمة عليا علينا الاهتمام الكلي بها وهذه اقصى شجاعة فلسفية تنسب لقائلها ديكارت. وتمجيده العقل التجريدي واعتبره جوهرا خالدا خلود النفس.مركزية الانسان هاجمته افكار وفلاسفة ما بعد الحداثة بضراوة شديدة بعد ثلاثة قرون على وفاة ديكارت. ديكارت تجنب ليس عن عدم فهم بل لقصد ذاتي يؤمن به ان يتناول العقل بما هو جوهر بيولوجي مرتكزه الدماغ. ومقولته الابتذالية حول الغدة الصنوبرية التي تتوسط الدماغ كانت اضحوكة لا حقته حتى وفاته.

طبعا فشلت توليفة ديكارت في جمعه (العلم والدين والفلسفة) لانه حاول جمع ما لا  يمكن اجتماعهم والتعايش معا. ما دعاه  الهرب لهولندا واستقر بها متنقلا ومتنكرا تحت اسماء مستعارة عديدة خوفا من ملاحقة لجان التفتيش سيئة الصيت التابعة للكنيسة الكاثوليكية. الذي اراد ديكارت اجتناب خطرها بدون جدوى.

الاشارة التي يتوجب عدم مغادرتها حول محاولة ديكارت احياء اقنومة الفلسفة مبحث الابستمولوجيا إذ كان له الفضل الكبير بذلك بالنسبة لظروف عصره الصعبة.ديكارت بذر البذرة الاولى لاحياء مبحث الابستمولوجيا في الفلسفة الحديثة. اما مسالة أن يعتبر فلاسفة فرنسا وامريكا من بعده بقرون مبحث الابستمولوجيا مبحثا ميتافيزيقيا لا جدوى فلسفية ولا جدوى علمية منه بعد ثلاثة قرون على وفاة ديكارت من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة الذين تكلمنا عنهم في سطور سابقة. والاكثر من هذا ان الفلاسفة الاميركان ذهبوا بعيدا في التطرف الذي تبنته الفلسفة البنيوية كما سنوضحه لاحقا تحت عنوان فرعي من هذه المقالة.

مبحث الابستمولوجيا في الفلسفة الامريكية

قد يبدو غريبا قولي ان ارضية انبثاق التيارات الفلسفية الامريكية هي فرشة وصول فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى اوربيا قاريا طريقا مسدودا في تيارات مابعد الحداثة الفلسفية كما سيتضح معنا لاحقا فاستقبلت التيارات الفلسفية الامريكية حطام كل الفلسفات الاوربية الفرنسية حصرا بضمنها الوضعية التحليلية الانكليزية التي استنفدت طاقتها التجديدية في اطلاق تيارات الفلسفة الامريكية رصاصة الرحمة عليها وعلى الفلسفة الاولى التي سادت قرونا ولم يبق لها رصيد يذكر هو احتضار مبحث الابستمولوجيا والتغافل عنه من تاريخ الفلسفة امريكيا نهائيا. بعد طغيان مباحث فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى  في النصف الثاني من القرن العشرين.

كانت تغطية لما يتفرع عن الذرائعية الامريكية الفلسفة الأم من تيارت فلسفية امريكية انجبها التاثير الفلسفي المباشر الذي انبثق في فرنسا بداية القرن التاسع عشر  ووصل ذروته حين انتقلت نظريات التحول اللغوي وفلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى وعمّت المانيا وانكلترا والنمسا.

كانت هذه الانعطافة الكبيرة جدا في الفلسفة هي وليدة مفاهيم ما بعد الحداثة ممثلة في الفلسفة البنيوية الفرنسية مرتكزا اساسيا. ثم تلتها الفلسفة التاويلية لبول ريكور واخيرا فلسفتي التفكيكية لجاك دريدا والعدمية لفانتمينو التي وصل فيها التطرف اللغوي اوج ذروته قبل ان يهزل تدريجيا ويفقد بريقه في ظهور تيارات الفلسفة الامريكية الجديدة. هذه الفلسفات جاءت على انقاض موت وانحلال الوجودية والماركسية والبنيوية على السواء.

حينما كانت الوجودية والماركسية تمجدان مركزية الانسان والعقل في تبني مفاهيم الحداثة. جاء فلاسفة ما بعد الحداثة بنفي اكثر من اربعة اقانيم كانت قارة ثابتة على طول امتداد تاريخ الفلسفة مثل تعظيم شأن مبحث الابستمولوجيا ومبحث العقل وكذلك مباحث السرديات الكبرى في التاريخ ممثلة بالماركسية وسرديات الاديان وفي غيرها من سرديات مثل مركزية العقل والانسان. وكذلك مبحث القيم (الاكسيولوجيا).

الفلاسفة الاميركان حين وجدوا الفلاسفة المتأثرين في ما بعد الحداثة من البنيويين مثل شتراوس وفوكو وفريجة والتوسير وميرلو بونتي ورولان بارت وجيل ديلوز  وغيرهم جميعهم شنّوا حربا شعواء على كل مفاهيم الحداثة باستثناء الالماني المخضرم يورغن هابرماس الذي وقف ولا زال ندا قويا مناوئا لفلاسفة وطروحات ما بعد الحداثة. حينها وجد الفلاسفة الامريكان الجدد انه حان الاوان الى استلام الراية الفلسفية من فرنسا تحديدا بعد ان وجدت تفكيكية دريدا انها استجارت بالنقد الادبي القائم على ثيمة استراتيجية الهدم والتقويض اللغوي اكثر من إهتمامها بالفلسفة.

من بعض فرشة انتقال فلسفة اللغة ونظرية المعنى الى امريكا بعيدا عن الفلسفات الاوربية التي تقريبا شاخت وعجزت عن تقديم الجديد هو انحلال الوضعية المنطقية في كل من حلقتي فينا واكسفورد. بعد ان تخلى فينجشتين ومثله فعل كارناب في السفر الى بريطانيا والانضمام الى حلقة اكسفورد التي ضمت كلا من بيرتراند راسل وجورج مور وعالم الرياضيات نورث وايتهيد وكارناب . ولم يحالف الوضعية التحليلية التجريبية حلقة اكسفورد النجاح حينما عملت بنصيحة جاتلوب فريجة مخاطبا فلاسفة حلقة اكسفورد انه اصبح من المخجل ان لا نعتمد فلسفة اللغة  خلق توليفة جديدة تجعل الوضعية تجريبية قريبة من العلم والرياضيات والمنطق خاصة مع وجود نورث وايتهيد عالم الرياضيات ان تكون مباحث فلسفة اللغة تتمركز في ثنائية تجمع الرياضيات والمنطق. ما حدا ببتراندراسل ووايتهيد تاليف كتابهما المشترك (مباديء الرياضيات ) عام 1906.

وما لبثت حلقة اكسفورد ان دب الخلاف فيها فانسحب فينجشتين وتبعه جورج مور بآراء وصلت حد قول هذا الاخير اعتمدوا لغة الناس العاديين هي لغة الفلسفة. كلمة اخيرة عن ما بعد الحداثة هي في ابرز فيلسوفين فرنسيين لها هما جون بودريار وفرانسو ليوتار ورفض فوكو تصنيفه مع فلاسفة ما بعد الحداثة فاحتفظ بنسبه الى البنيوية التي لم تدّخر جهدا بمحاربتها لمفاهيم الحداثة. الفيلسوف الامريكي ريتشارد رورتي رغم انتسابه للبراجماتية الامريكية الا انه أعلن تعاطفه واصطفافه مع فلاسفة ما بعد الحداثة في نزعته اعلاء شأن العقل على خلاف البنيوية وتبنيه فلسفة اللغة ونظرية فائض المعنى اللغوي ومبحث الوعي التي تقاطعها ما بعد الحداثة جميعها.

ليوتار ابرز منظري فلسفة ما بعد الحداثة قال ابرز ثيمة تبنتها ما بعد الحداثة هي التشكيك بالسرديات الكبرى ويقصد سرديتي الماركسية وسردية اللاهوت الديني. وانتقل لطرح ما هو اكثر تطرفا في مهاجمته العقل والعلم اذ وصف العلم بانه تبريردوغماطيقي كما كان يفعل السحرعند الاقوام البدائية.

مبحث الابستمولوجيا والعلمية

ديكارت حين اراد اعلاء قيمة العقل والابستمولوجيا فقد ترك تاثيرا قويّا حول مبحث الابستمولوجيا في فلاسفة القرن الثامن عشر وشاركه هذا المنحى التأثيري مجايله اسبينوزا مع الفرق الشديد بينهما ففي الوقت الذي هادن ديكارت اللاهوت الديني بتوفيقية فاشلة هاجم اسبينوزا اللاهوت اليهودي والمسيحي بضراوة شديدة واعتبر المعجزات الدينية في التوراة والانجيل خرافة تنافي العقل.

في القرن الثامن عشر بقي مبحث الابستمولوجيا حاضرا حضورا غير مباشر ولا مؤثر في فلسفة ديفيد هيوم وجون لوك ولا يبنتيز الفيلسوف المتديّن وعالم الرياضيات باستثناء المثالي الابتذالي بيركلي. الفلاسفة الثلاث كانوا مؤسسي الوضعية التجريبية التي سبقت الوضعية التحليلية المنطقية الانجليزية. وكان تاثير كل من فرانسيس بيكون وكانط عليهم واضحا.

الشيء الغريب رغم النزعة العقلية التجريبية العلمية التي كانوا يحملونها فلاسفة القرن الثامن عشر الا انهم انكروا العقل وانكروا العالم الخارجي وانكروا السببية وهاجموا باسلوب فلسفي اراء كانط خاصة من قبل الاسكتلندي ديفيد هيوم. بمعنى هم هدموا الاركان التي تقوم عليها الابستمولوجيا. معتبرين العلم التجريبي هو وسيلة وغاية المعرفة الحقيقية الواقعية. لذا نقول انهم تاثروا بالميراث العلمي الذي تركه كل من بيكون وهولباخ الارستقراطي الذي هاجم الفلسفة على انها تجريد لغوي لا فائدة منها بشراسة سلاحه اعتماد العلم لا غيره. ونستطيع القول ان تاثير بيكون في نزعته العلمية ترك اثرا كبيرا طيلة مدة القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وتوقفت النزعة العقلية العلمية بالفلسفة بداية القرن العشرين على يد ليفي شتراوس عام 1905 في التبشير بمصطلح

الالتزام وتنحية الابستمولوجيا فلسفيا

الى هذا الحد يمكن تمرير هذا الهوس باسم التجديد على الصعيد الفلسفي في نظرية المعنى والتحول اللغوي وعلوم اللسانيات التي انبثقت بدايات القرن العشرين وبلغت اوجها منتصف ذلك القرن، لكنما كيف يمكننا تمرير وجوب ربط الفلسفة بالعلم او ربط الفلسفة بالرياضيات او ربط الفلسفة بالمنطق وعلوم الطبيعة والفيزياء التي ترى في حضور العقل هو ان نجعل من تجريد الفلسفة بلا معنى لغوي يعني انعدام امتلاكها مقبولية فكرية تداولية تلقى الاستقبالية الشعبية التي تفتقدها؟

وإن كانت هذه الطروحات الطوباوية فاشله وأن افتراض نجاحها الفلسفي لم يكن ليلغي حقيقة ثيمة الالتزام بالنسبة للفلسفة ليست اكثر من مطالبة تعجيزية لا تقبلها الفلسفة نفسها فهي رازحة تحت وطأة حقيقة الفلسفة للنخبة الاكاديمية والقراء وتلامذة الجامعات من النوابغ وبعض الفلاسفة الفرنسيين والاوربيين قاطبة.. الفلسفة تعبير مافوق اللغة. شرحت في مقال منشور لي مصطلح ما فوق اللغة بالفلسفة الغربية واجريت عليه اسقاطا عربيا على واقع لغة القران الكريم ولغة الشعر وتطورهما على يد العبقري اللغوي الخليل بن احمد الفراهيدي ت 79 هجرية.

بعد منتصف القرن العشرين تسّيدت فلسفة اللغة مكانة الفلسفة الاولى. وتلتها عشرات الاتجاهات الفلسفية التي قامت على اهمية مراجعة تصحيح تاريخ الفلسفة بضوء تصحيح تاريخ اللغة التضليلي معرفيا في نظرية المعنى وفي علوم اللسانيات ما نتج عنه تشعب تيارات فلسفية جعلت من التفكير في مسالة الالتزام بالفلسفة سذاجة لا يقبلها عصر ما بعد الحداثة الذي كفر بكل ايقونة ثابتة وردت بتاريخ الفلسفة الملازم للحداثة مثل اللغة، الذات ، السرديات الموروثة في الدين والماركسية والتاريخ.

حتى وصل الحال انكار وجود العقل عند فيلسوف العقل واللغة جلبرت رايل 1900 - 1976 الذي كان سبقه التبشير به ديفيد هيوم. في مقولته لا يوجد شيء يسمى عقلا يمتلكه الانسان أبدا. الغاء العقل ليس المقصود به الغاء الدماغ  العجينة التي تحتويها جمجمة الانسان ، بل الغاء العقل هنا على انه الغاء خاصية العقل كتفكير تجريدي معرفي فلسفي منتج للافكار.

كما برزت لنا فلسفات عديدة قامت بتعميق الشرخ الفاصل بين الفلسفة والالتزام في ابسط معانيه ابرزها الفلسفات الفرنسية فقط مثل تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا وعدمية فانتيمو. اعقبهم العشرات من الفلاسفة الاميركان امثال ريتشارد رورتي ،جون سيرل، سيلارز، سانتيانا، نعوم جومسكي ، فريدريك سكينر، وكارناب ، وفينجشتين المحسوب على فلسفة بيرتراند راسل الانجليزي قبل احترابهما الابيض بينهما بعد نيل فينجشتين شهادة الدكتوراه في فلسفة اللغة تحت اشراف راسل واصراره الحفاظ على وصيّة جاتلوب فريجة قوله من العار على فلسفة اللغة وجوب تضييع فرصة دمج الايقونات القارة الفلسفة واللغة والرياضيات والمنطق في توليفة واحدة رأى كلا من فينجشتين وجورج مور وفلاسفة امريكان لا حصر لهم ان راسل يهذي بهذا التعجيز الفلسفي ليقابلهم هو بالرد ان الفلسفة الاميريكية البراجماتية نذلة وخسيسة..

الفلاسفة الذين رأوا بعد خلاص الفلسفة من هيمنة الابستمولوجيا (المعرفة) السيدة الاولى بالفلسفة بعد منتصف القرن العشرين بعد تتويج الفلسفة لفلسفة اللغة عروس التفلسف.

 على امتداد تاريخ ثلاثة قرون فلسفية تحت تأثير من ديكارت في القرن السابع عشر. ودخول العالم بعدها في سلسلة من التطورات التاريخية التي بدأت في نهضة ايطاليا القرن السادس عشر لتنتشر باشكال علمية ودينية ومعرفية لا سابق لها اوربيا سميت بعصر النهضة الحداثية.

بمجيء عصر ما بعد الحداثة التي تبنت بداياتها الاولى الفلسفة البنيوية التي كانت ثورة هوجاء على كل ما جاءت به الحداثة وعصر الانوار من اعلاء قيمة الذات الانسانية ونيل كرامتها وتنحية تدخلات رجال الدين بالعلم. اول فيلسوف سويسري فتح ابواب فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى هو دي سوسيرفي بدايات الفلسفة البنيوية بعمالقة فلاسفتها مثل شراوس وفوكو والتوسير ولاكان  ورولان بارت.

الفلسفة البنيوية بجميع فلاسفتها الفرنسيين والالمان والانكليز والاميركان اجمعوا ان ضياع عصور من تاريخ الفلسفة في تضليل العقل هو مراوغة اللغة في التعبيرعن المعنى. وبعد ان وجدت الفلسفة البنيوية انها كانت البادئة في ايصال فلسفة اللغة وتيهان علوم اللسانيات الى طريق مسدود لجأت مرغمة التزام طروحات ما بعد الحداثة في انكار الوجود الزائف الذي نعيشه ونكرانها منجزات العلم التي ادخلت الانسان في نوع من هيمنة الالة والذكاء الصناعي والسبرانية والذرة والروبوت الالي، والتمرد على نزعة الحداثة في رفض تمجيد الذات والانسان ولم يسلم العقل ايضا من السخرية منه.. وضرورة اعلان افلاس سرديات التاريخ الكبرى في مقدمتها الماركسية وكتاب راس المال.. فكان موت التزام الفلسفة سريريا حقيقة فكرية مجتمعية صادمة لا تقبل المعالجة خاصة في طغيان طروحات فلسفة بنية اللغة على انها نسق ذاتي مستقل يوازي الواقع والحياة ولا يقاطعهما ولا يعمد الاسهام بصنعهما ابدا. حتى ذهب بعض الفلاسفة من الفرنسيين والاميركان أبعد من ذلك التطرف حين ارادوا اثبات كليّة النسق اللغوي المستقل خارجا عن فهمه الخاص أن اللغة جوهر انساني يمتلك خاصية الانسان التواصلية والحوارية المتراجعة الاهمية امام اعتماد خاصية متفردة أن اللغة  صوت ذو دلالة يحمل نظاما خاصا في المعنى لا علاقة له بحياة الانسان. في عبارة اخرى حين يصار الى تجريد اللغة من معناها الفكري القصدي والمعرفي والتواصلي فماذا يبقى للفلسفة ما تتاجر به أن اللغة فائض معنى نبحث عنه في قراءات متعددة جديدة بامكانها تصحيح مسار تاريخ الفلسفة الوهمي التضليلي للعقل وقضاياها الزائفة المتوارثة عبر العصور.

علي محمد اليوسف

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟