كتاب من تأليف المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا (1927 - 2010)، صدر الكتاب في العام 1980 لتعيد مؤسسة هنداوي نشره في طبعة جديدة سنة 2020. يعرض هذا العمل البحثي أهم الإسهامات الفكرية للفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز (1898 _ 1979)، الذي تحولت كتبه وأعماله - والتي يعد "الإنسان ذو البعد الواحد" أكثرها شهرة - إلى ملهم للحركات الشبابية المتشوفة إلى التغيير كما حدث في الثورة الطلابية بالستينيات. انتقد ماركيوز مجتمعات الغرب الصناعي الحديث بأيديولوجياتها كافة (الرأسمالية – الماركسية السوفييتية) مما أضفى على نتاجه الفكري قدرا من المصداقية والموضوعية، إذ تتلخص أطروحته الأساسية في أن الإنسان الحديث "ذو بعد واحد" بسبب افتقاره للحس النقدي وتحوله إلى مستهلك نهِم مما يتلاءم مع مصالح النظام الإنتاجي السائد.
اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث
يرى الفيلسوف الألماني أن القهر الممارَس بالمجتمع الرأسمالي الحديث هو قهر منظَّم وينضبط لحسابات منطقية دقيقة، على عكس أشكال الطغيان الكلاسيكية التي كانت تخضع لنزوات الحكام وتقلبات أمزجتهم. كما أن القهر الحديث أصبح أكثر نجاعة واتساعا من حيث نطاقه، إذ وضع نصب أعينه تشكيل رغبات الإنسان وتزييفها دون الحاجة إلى استخدام العنف المادي، بحيث لا يعي من يمارَسُ عليه ذلك القمع بأنه ضحية له، وذلك بفضل تطور أنظمة الدعاية والتسويق وأبحاث علم النفس المرتبطة بالآلة الإنتاجية، والتي تستهدف أساسا لاوعي المتلقي بغرض تحويله إلى كائن مستهلك.
كما يمتاز النظام الرأسمالي الحديث بالقدرة على استيعاب المعارضين التقليديين (الطبقة العاملة) وتدجينهم، إذ أصبحت لهم مصلحة في استمرار النظام ما دام أنه يسد حاجاتهم الاستهلاكية ويصطنع حاجات أخرى، وبفعل السيطرة على تفكير الإنسان ومصادرة إرادته الحرة: "قهر يمارَس على الإنسان كله، على حياته الباطنية وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يمارَس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث".
وعطفا على ما سبق، يؤكد ماركيوز على التشابه بين النظامين الرأسمالي والسوفييتي (وضع ماركيوز أطروحته في سياق الحرب الباردة بينما كان الاتحاد السوفييتي ما زال قائما) على الرغم من التناقض الأيديولوجي السطحي بينهما، بحيث تسود فيهما مظاهر الاستغلال والاغتراب نفسها. وفي هذا الصدد، يذهب ماركيوز إلى أن النظام السوفييتي هو أبعد ما يكون عن النظرية الماركسية الأصلية ونزعتها المساواتية، حيث تحول الإنسان في ظل هذا النظام إلى مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الإنتاجية للدولة، وليس إلى غاية في ذاتها كما كان يأمل ماركس. إن من يسيطر على دواليب النظام السوفييتي ليس الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج بل الدولة التي تحولت إلى مصنع كبير يدير دفته البيروقراطيون من كبار الموظفين الذين يسهرون على التخطيط المركزي الفوقي، الشيء الذي يقصي العامل من المشاركة في وضع الخطط الإنتاجية وتحديد الكيفية التي ستوَزَّع بها عوائد الإنتاج، وهنا نتبين الشبه الواضح بين الرأسمالية والاشتراكية السوفييتية من حيث الجوهر رغم الفروق الشكلية بينهما.
المجتمع البديل وحدوده الواقعية
يعتقد ماركيوز أن التقدم الإنتاجي والتطور التكنولوجي الهائل الذي بلغه العصر الحديث كفيل باستعادة الإنسان الشعور بالسعادة، الكامن في الإنصات لحاجاته الطبيعية (الجنس، مشاعر الحب... إلخ) والاستمتاع بأوقات فراغه في ضوء تراجع الحاجة إلى العمل البدني الشاق. وبناء على ذلك، يسعى ماركيوز إلى تجاوز الحضارة الحديثة التي اختزلت الإنسان إلى كائن إنتاجي مهووس بالربح والاستهلاك، وذلك عبر إعادة الاعتبار للقيم الجمالية والفنية والعاطفية التي ضاعت في زحمة الحضارة الصناعية.
وقد انصرف فؤاد زكريا إلى توجيه سهام النقد إلى هذا المجتمع البديل لما ينطوي عليه بدوره من بعد واحد يقلص حضور ومكانة العقل. كما أن الرغبة إذا ما أُطلق لها العنان دون قيد أو شرط تصبح وسيلة لاستعباد الآخر واستغلاله نظرا إلى ما تضمره أحيانا من جوانب قهرية (نزعات سادية مثلا) بشكل يعيق الوصول إلى المجتمع الإنساني المتحرر مثلما يتمثله ماركيوز: "فهل يريد ماركيوز من إنسان المستقبل أن يقف هادئا مطمئنا مسالما، ويركز حياته في الاستمتاع بالحب والفن؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى خنق كل طموح لدى الإنسان؟ أليست المهام الكبرى في الحياة في حاجة إلى سعي وجهد، وإلى نوع من عدم الرضا وعدم الاكتفاء بما هو موجود؟"
وإجمالا، يمكن الإشادة والثناء على نقد ماركيوز للمجتمع الصناعي ذي المنزع الاستهلاكي والمادي الضيق، لكنه لم يعرض لنا بديلا مقنعا وعمليا للمجتمع القائم، فضلا عن عدم وضوحه بشأن كيفية حدوث هذا التغيير ومراحله وشروطه. ولعل ذلك يعزى إلى تمسكه بروح الفيلسوف المتأمل والحالم، في مقابل خفوت صوت العالِم الذي يمتاز بالصبغة الواقعية: "لقد حاول ماركيوز أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه ظل على الدوام فيلسوفا حالما، لا ثوريا واقعيا، ولم تكن المتناقضات التي ينطوي عليها مجتمعه الجديد أقل حدة من متناقضات المجتمع الراهن التي كرس حياته لتبصير العقول بها في الشرق والغرب".