إنه ليصح ربط الوجود بمفردات تنم حمولتها الدلالية عن الرعب والهول، فالبُرثن هو مخالب السَّبُع أو الطَّير الجارح، ولا أدري متى سمعت هذا اللفظ، كما لا أدري في أي مكان تلقته قوتي السمعية ولكني أعي جيدا وأدرك متى وعته قوتي المفكرة كلما هجم على وجودها مخلب من المخالب، أوليس أكثر ضرار عليها من التنافس على كينونتها، التي جادت بها قوانين الوجود ونزوعاته المتغيرة؟ بلا شك لا يوجد مثل ذلك في الأحياء، سيما إذا كانت هذه القوة الثابتة ذات عوالم لا تحدها النطاقات، وليس يجدي نفعا مهما حاولت رصد ملامح ما تكابده لكي تقف كأشجار الصفصاف التي لا تنبت في أجنابها الأغصان المخفية لبهائها.
ولا ريب في أن مخالب النسر بالذات إذا غُرست في جسم من الأجسام الحية من الضروري أن يُتّبع وجودها وعدمه بقوة المخلب وقوة دافعيته آنذاك، فهو أمر محسوم بالنظر إلى العلاقة الواقعة بين هذا المخلب وما تومئ به المعاني التي نستشفها من ذكره، فكيف إذا رأيناه ينزل على كائن حي، لا غرو أن يصبح في دائرة العدم والوجود، يدور بينها حينا ويرنو إلى جهة منها حينا آخر، دون أن يكون له في ذلك محمل من القدرة على القرار والتنفيذ.
كما ليس يهم أي مخلب هو الأقوى أو الذي له تأثير على غيره، نعم لا يهم نوع المخلب، هل الذي للأسد أم الذي للنسر؟ لا يهم، المهم هو أن هذا المخلب لا يجود بالحياة، مثلما لا يعطي وجودا؛ إذ ينفيه، فهو من هنا يدخل ضمن 'النفي' و'عدم الوجود'، و'الإيجاد" أيضا، ألا ترى الشيء الذي يَعدم الوجود بالرغم من أنه لا يوجِد؛ فهو حتما لا يعطي 'الإيجاد'، وهل 'الإيجاد' إلا من جنس 'عدم الوجود'.
إنه لا أدل على عدم الوجود من كلمة 'المخلب' أو 'البُرثن'، مهما بحثنا في معاني الوجود من جميع أجناس الجهات التعريفية؛ لغة، واصطلاحا...إلخ، طالما أن الدلالة المرئية تطابق بشكل محسوس، عدم الوجود، مطابقة تذوق الشاعر لشعره آن الانتهاء منه، وبحق، تظل في نظري الدلالة الصادقة هي الدلالة المحسوسة الشاعرية، فلا علاقة لها بالترادف والاصطلاح، وإن كانت اللغة في الواقع ابتداء ترجع فيما ترجع إليه في نشوء الكلمات والألفاظ إلى الشعور، ولقد كنت أظن أن 'المخلب' هو الدال الحقيقي على ذلك، إلى أن أدركت مرادفه 'البرثن' فزاد هذا اللفظ اثباتا لما اعتقدته من هذه الدلالة.
لكن بهذا الصدد، ما مصير تلك الأجسام التي تلحقها براثين النسور والصقور والأسود؟ كيف يمكنها أن تلقي بها خارج كينونتها؟ وحتى ولو حاولت ذلك، يتبدى في مخيلتها أنها غير قادرة، بالرغم من الإحساس بالضرر ووعورة الطريق من أجل دفعه، ولو كانت قادرة على ذلك؛ لكانت قد أعدت له أجود الدروع وأقواها، ولكنها، ويا للأسف، غير مدركة بناموس الوجود وبرامجه، ومعلوم أن هذا الناموس أشد فتكا بهذه الأجسام التي يحلو لها أن تسبح في أودية الأوحال الطوباوية، لكن هل الجسم ذو وعي وانفراد بالتصور الكلي للخلق؟ هذا هو الأمر الجليل في هذا الشأن، لسنا نعرف حقيقته بالذات، وإن كنا نتكلم عنه برهة دون إدراك كنهه.
لكن عل كل حال، يبقى أن الأجسام لها دافعية للأضرار وإرادة للمنافع، فهل ذلك ما يتحكم فيه أساسا؟ هل قدراته تلوح من هاهنا، أي من الضرر والنفع؟ يجوز ذلك إذا علمنا أن الأجسام أية أجسام، لا شيء تحرص عليه مثل حرصها على استجلاب الممكنات الذاتية التي تطفي على حياتها أنواعا من الوجودات، فإذا ذاقت وجودا ما، زادت بفعله وجود آخر في قوتها المخيلة وهكذا، فإن هذه الزيادة هي التي لا تتوقف في طلبها مهما كانت جدارة تحولها من النفع إلى الضرر، وتدرك كيفية اقترانها وفنون نتائجها.
ومن المدهش أن يخيل إلى الجسم -أثناء هجوم البرثن عليه- نتفا من التصورات الفضائلية في الوقت الذي تُغرس فيه المخالب، إنه ما يزال على ضلاله القديم كما يقال، ولو أردنا استنطاق هذا الجسم، وأقمنا له فماً ينطق به ومن ثم ركبنا له بوقا صيتا يخبر بما توحيه ظواهر تركيباته العضوية لقال: إنه عندما ظهر لي شعاع محير لا يتجلى فيه سوى محيا الخيال، ويا صاح هو شعاع أودى بخليقتي واكتسح قوتي الفكرية وأباد ذاتي العملية، ولكني لم أقف أنظر إليه دون حركة، وأبقى أرى وجودي يُزهق أمام ناظري، من ثم استجمعت أمري وحزمت كياني وبادرت بقولي له: خُذ عني براثين الوجود واتركني أفتدي ما عصيت به ذلك الملمح الذي يهيأ إلي كل حين، فلقد كان منذ بادئ الأمر أو بالأحرى منذ سنوات عدة أكثر شيء متردد بين الوضوح والخفاء، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، ولكني قد ابتدأته، وامتطيته، وشيئا فشيئا يتبدى لي فيه أنه خط مشوب بالمتغيرات وبأمور أخرى لا يسعني إلا الالتزام بظواهرٍ أرنو فيها أفقا جيدا، وحتى هذا الأفق يا صاح، مع أني عددته، فهو أيضا قلما يأتي بما ينتهي بي إلى إلقاء الجلباب كما يقال، ولقد ارتديت هذا الجلباب كرة اخرى، باحثا عن عوالم أخرى، قد تنتهي وقد لا تنتهي، وليس يهم ما تصير إليه، طالما أن ذلك يغدو قانونا متبثا.
على أن بعض الأجسام -والحق يقال- بمقدورها بشكل من الأشكال أن تستعيد وعيها وتنفعل فيها القوة الوجودية التي تستجيشها التنشئة والتفاعلات والمطارحات الودية، فتراها تنفعل دون قرار ودون إشارة منها، بل تنتزع ما فسل فيها، وتكابد من أجل سحقه، فحتى المقاومة لها وقع على كينونة الأجسام وحيويتها، بل لا يوجد أنفع منها، ولا أضل منها عندما لا تُجيد زمن تفعيلها، فلا شيء يؤتي المراد منه على أحسن وجه من التنفيذ الواعي له.
ومن المؤكد أن ذلك يتطلب قوة كامنة تملأ العديد من الثغرات القاتلة التي لا تعطى لها أهمية بالقدر الذي تستحقها، ومنها تأتي الحملات التي تشنها البراثين كلما نزل موقعها وتقلصت أهميتها، فالالتزام الشديد ليس بالضرورة يمنع من تطرق الخطأ، لكن أن تكون سادرا في تصريف القوة الكامنة دون حساب، فذاك أمر مدمر لما تم الإقرار به من طلب الالتزام والانضباط، الذي لا يتنزل عنوة دون طائفة من المقدمات، والحق أن هذه المقدمات عادة لا ترتبط بالوجود الذاتي بل تأتي من المطامح الوجودية أساسا، وهذا ملمح لا يتم التوصل به فقط بالجولان بين أفكار وأقوال صناع الوجود، بل ينبغي ضخ القوى المحيطة وتصريفها في التكوين الدلالي، ولو اقتصر على المفردات دون الربط بالوجوه والأفراد ما كان الوجود تاما وتابثا، وما كان البرثن مستقويا ولا ذا أثر فعال.
وإن من أبرز الآليات القاضية على القوى عامة؛ تتمثل في آلية الانصهار، أي الانصهار في الشيء، بحيث يمكن البقاء دون القدرة على الالتفات إلى تكوين أنساق أخرى من العمل، إن وعورة الوجود كله تأتي من القيود التي توضع، ولا تكون الدراية في كونها موضوعة من جودنا الذاتي لا من غيره، وبذلك، فهذه الوعورة تأتي من قدرة اللمحة الطارئة على كبح مدركات العقل على التحرك والتفرد.