تُعَرَّفُ الفلسفة بوصفها فكرا منطقيا ينحو إلى إنتاج معرفة منظمة، عقلانية ونقدية حول الذات والوجود والصيرورة. هذا ما يعلمنا إياه تاريخ الفلسفة بكل تقَلُّبَاته منذ اللحظة اليونانية التي تشكل بين أحضانها صوت اللوغوس كنهج في النظرجديد ٱختلف جذريا عن بنية الميتوس.
مع هذا التحول أضحت الفلسفة فكرا:
1-تساؤليا بامتياز تحركه الحيرة من عالم يَحُفُّ بنا؛ نتأمله لِيَتَبَدَّى أمامنا غريبا وَمُدْهِشاً؛
2-وٱرْتيابيًا في المعارف بالنظر إلى تضارب المواقف، وتباين الآراء، وٱصطراع التصورات فيما يتعلق بتفسير الظاهرة الواحدة..
3- ثم انقلابيا على"الدُّوكْسا" (= بادئ الرأي) ومنطق الفطرة، كما على كل أشكال التَّخَشُّب الفكري، وقيم الماضي ومسلكيات الاتباع والاجترار.
كان تأسيس التساؤل الفلسفي مؤشرا قويا على بداية تبلور الوعي الإنساني؛ ودليلا ساطعا على النشاط الفكري الباعث على المُضِي في دروب البحث عن معنى الحقيقة بأساليب البرهنة العقلية والاستدلال المنطقي. أَفَلاَ تمثل التجربة السُّقْراطية صَرْخَةَ عقل حصيف هَفَا إلى ممارسة حقه في الاختلاف والنظر ضد سلطة المؤسسة بأثينا القديمة؟ أَوَلَيْس القصد من حدث إعدام سقراط تأميم فعل التفلسف لِتَزْمين منطق التكرار المكرس للتقليد والانصياع؛ ودرء ثقافة التحرروالإبداع؟
فيما أحسب لم تكن الغاية المرتجاة من الإجهازعلى سقراط؛ لحظتئذ، تنحصرفي التخلص منه كشخص مزعج كيما تخلو الساحة لأدعياء الحكمة من أهل السفسطة وأولي الجدل. لأن للأمر وصلاً بِقُصود تَوَخَّت ضرب الحصارعلى العقل بماهو قُوَّة إدراكية؛ وأداة للتفكير مقصورة على الإنسان ومُسْتَثْنًى منها الحيوان؛ فضلا عن الإصرارعلى مصادرة حرية الاستفهام البناء لإقرار الرأي الواحد والوحيد.
فقد ظل مسلسل محاصرة العقل منذ الإجهازالمقصود على سقراط إلى اليوم، يظهر ويختفي هنا وهناك إلى حد أنه ٱتخذ في التشكيلات الاجتماعية المتخلفة صورا متنوعة ولَبُوسَاتٍ شَتَّى. فإلى جانب ٱعتبارالتَّفَلْسُف في مجتمعات اللاَّهُوت زَنْدَقَةّ وُمُرُوقًا (=كُلُّ مَنْ تَمَنْطَقَ تَزَنْدَقَ)؛ وَزَيْغاً غيرمستساغ عن"الإجماع وطاعة الحاكم"؛ نلفي التوجه التكنوبيروقراطي المتنامي؛ يمتح من الوضعانية اللافلسفية قولها: "إن الفلسفة لغو وثرثرة؛ وقضاياها فارغة تماما من كل معنى"، متوسلا بذلك التأكيد على ٱنعدام الارتباط بين الفلسفة وسوق الشغل مقارنة بالتخصصات العلمية؛ والتكنولوجية ثم بالفنون التطبيقية.. لِيَتَحَصَّلَ معه أن الموقف الذي يُمَثِّلُه التكنوبيروقراطي ليس فقط موقفا سلبيا من الفلسفة؛ وإنما مضادا لها جملة وتفصيلا للاعتبارات التالية:
-عِلْمَوِيَتُه المفرطة، وٱنشداده اللاواعي إلى جُنُون التقنية؛ إلى جانب إسرافه في تقريظ العقل الكُلِّيَاني المُهَيْمِن على السياسة، والثقافة، والإبداع، وكل الأشياء التي تؤسس لعلاقة الإنسان بذاته، وبالوجود في الوقت عينه.
- تصوره التنقيصي، التبخيسي للفلسفة. ذلك أن المنظور التقنوي ٱنغلاقي وبالتالي ٱختزالي لربطه الآلي بين التنمية، والعلوم الدقيقة والتكنولوجيا. وتجدرالإشارة إلى أن موقفا كهذا يذهل؛ من حيث لايعي، عن الفلسفة بوصفها مكبوت العلم، والتقنية الحديثة، ويقفزعما يشكل السَّنَد النظري المُسْعِف في صياغة الاستفهامات التساؤلية الكبرى المتعلقة بأسس العلوم، ومناهجها وتقنياتها من جهة، ثم نتائجها وعوائقها الإبستيمولوجية من جهة ثانية.
ظلت الفلسفة، ولاغرو في ذلك، حاضرة بٱنتظام كنشاط فكري حر. ومن المحقق أنها ستستمر في الحضورضمن نسيج ثقافتنا، تنبعث كل مرة من رمادها مثل طائرالفينيق؛ متى واجهتها الرجات، أوشملها التهميش وطالها الإقصاء، لأنها بالتأكيد ٱمتيازحضاري هائل يتحدد في تشخيص التمزقات؛ وَرَفْدِ المشاريع التنموية بمختلف أبعادها الفكرية والثقافية. فبين ثناياها "يتجلى العقل كقدرة مطلقة على التوحيد "كما أبرز ذلك "يورغن هابرماس".
هذا تحديدا ما تنفحنا به مرحلتنا التاريخية الراهنة الحُبْلَى بالتحولات الكبرى؛ الفَيَّاضَة بالحركات الاجتماعية، والطَّافِحَة بالانقلابات العلمية، والعنف والجنون بكل أضرابه، وبمختلف تمظهراته من إرهاب أصولي؛ ونهب وسلب، واستغلال وابتزازكمسلك باتت تنهجه اليوم "رأسمالية القتلة" من الأوليغارشيات النيو- ليبيرالية، "سادة العالم الجدد"، بتعبيرعالم الاجتماع الأستاذ"جان زييغلر"، المتحكمون فعليا في الرأسمال المالي العابر للقارات، والمسيطرون كلية على الخيرات والأسواق، والحكومات، والبرلمانات والمجتمعات.. مما جعل مشروعهم السياسي العَوْلَمِي الهيمني يسائل بقوة الكينونة ومستقبل الإنسان على
كوكبنا الأرضي.
إن العولمة كحالة كونية جديدة هي غزو كاسح للأوطان جراء إلغاء الحدود والعلاقات بين الزمان والمكان؛ وجراء هشاشة الأسوارالتي كانت، إلى وقت قريب جدا، تحمي الثقافات الوطنية والمحلية. زد على هذا أنها (=العولمة) طَفْرَة تجبرنا على إعادة ترتيب أحوال عَصْرٍ أَمْسَى بلاهُوِّية؛ وتحملناعلى مراجعة كل ماعهدناه وألفناه على مدار القرون الثلاثة المنصرمة مراجعة نقدية شمولية؛ وذلك بٱستلهام الإسهامات المُشْرِقَة في تاريخ الفلسفة؛ وإضاءاته الوَهَّاجة غاية في بناء الاستفهامات التساؤلية الجذرية التي تقربنا من أنطولوجيات الحاضر والمستقبل؛ وتفيدنا كثيرا في تغييررؤانا؛ وتجديد منظوراتنا بٱنتظام حُيَالَ الإشكاليات اللصيقة بالثقافة؛ أَمَلاً في إقامة تواصل فاعل ووجيه مع طبقات التاريخ العميقة؛ والحضارات الإنسانية المتنوعة لأن هذا، فيما أقَدِّر، هوالتحدي الذي يواجه كل مشروع تنموي يستلزم الحسم فيه ٱستدعاء الفلسفة كفعالية ذهنية غيرمهادنة بٱعتبارالتنمية "عقلا "و"ثورة" بتعبير كل من"ماكس فيبر" و"مارشل بيرمان"...