إن هذا الكتاب من تأليف الأنثروبولوجي الفرنسي الراحل "لويس دومون" (1911-1998) الذي ُعرف على وجه الخصوص بأعماله التي عنيت بدراسة ثقافة وذهنية مجتمعات الهند. وقد حرص صاحبنا في كتابه القيم هذا على التأصيل النظري لمفهوم الفردانية أو ما يصفه بالأيديولوجية الحديثة، مع رصد سيرورته ومآلاته، عن طريق التوسل بمنهج نقدي أنثروبولوجي ينأى عن التعريفات البسيطة والمختزلة للمفهوم. ومن أجل رفع اللبس عن القارئ، يقترح لويس دومون تمييزا بين الفردانية والفيضية بوصفهما مفهومان متمايزان: "فحيث الفرد هو القيمة العليا أتحدث عن الفردانية، وفي الحالة المقابلة، حيث توجد القيمة في المجتمع بوصفه كلا أتحدث عن الفيضية."
عن بدايات ظهور الفردانية
بحسب مؤلف الكتاب، فإن الجذور الأولى لبزوغ الفردانية تمتد إلى ما قبل ظهور المسيحية نفسها وليست حكرا على المجتمعات الحديثة، مع فارق أساسي يتمثل في أن الفردانية الكلاسيكية تشير إلى صيغة الفرد خارج العالم، في حين أن فردانيتنا لا تنفصل عن الحياة الواقعية. ولتوضيح هذه النقطة، يحيلنا الكاتب إلى فلسفة الزهد (يقابلها التصوف في الثقافة الإسلامية) في كنف المجتمعات القديمة مع التركيز على الهند من منطلق انشغالاته الأنثروبولوجية، إذ نتبين بأن الزهد هو الطريق إلى التسامي الروحي الفردي الذي يمر حتما عبر قطع الصلة مع الواقع الاجتماعي والعالم الخارجي.
وإلى جانب مثال الهند، نتعرف في الحضارة اليونانية على تجليات للفردانية الكلاسيكية. ففي العصر الهلينستي (يحيل إلى الفترة الزمنية التي تمتد من القرن الرابع ق.م بعد غزو مقدونيا لليونان ووفاة الإسكندر الأكبر وتنتهي بغزو روما لليونان في القرن الثاني ق.م) ظهرت مدارس فلسفية أبرزها الرواقية تؤكد بأن الزهد واعتزال الواقع الاجتماعي هو السبيل إلى اكتساب الحكمة والخلاص الروحي، خلافا لما كان عليه الحال في العالم الهيليني حيث لم تعر الفلسفة اليونانية كبير اهتمام لفكرة الفرد، فقد اعتبر كل من أفلاطون وأرسطو على سبيل المثال بأن الإنسان كائن اجتماعي بامتياز.
وصولا إلى ظهور المسيحية والتي تفترض صيغتها الأصلية وجود نوع من العلاقة الفردية مع الخالق المتحررة من إكراهات الحياة الدنيوية، وهو ما تؤكده مقولة المسيح المأثورة: "إن مملكتي ليست من هذا العالم". غير أنه مع مجيء القديس أوغسطين (354-430 م) سيطرأ تحول جذري في تمثل الفردانية المسيحية، إذ تأسس توجهه الفكري على الحد من القانون الطبيعي (الذي يعد من ابتكار الرواق ومفاده أن ثمة قانون أخلاقي متأصل في الفطرة الإنسانية وضعه الخالق وعلى أساسه تشتق المؤسسات والقوانين الوضعية)، بينما أفسح أوغسطين المجال في المقابل لفكرة الإرادة الإلهية. وبالنظر إلى أن الكنيسة هي القوة المؤهلة لتطبيق العناية الإلهية، فإن ذلك يعني انغماسها في الشؤون الدنيوية وإخضاع الدولة للكنيسة: لقد تحول المسيحي بموجب ذلك من فرد خارج العالم إلى فرد داخل العالم.
الإرهاصات الأولى لتشكل مفهوم الفرد الحديث
يجدر بنا في البداية التمييز بين المفهوم التقليدي للفرد بوصفه موضوعا لتفاعلات اجتماعية مركبة والذي يسود المجتمعات الفيضية حيث نجد تراتبية وتبعية متبادلة بين أعضاء المجتمع، في مقابل المفهوم الحديث للفرد باعتباره كائنا أخلاقيا ذو إرادة متميزة في ظل مجتمعات فردانية تعطي الأولوية لحقوق الفرد والمساواة في الفرص بين الأفراد. وتبعا لذلك، نتساءل عن كيفية حدوث الانتقال من مجتمع قروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى في السياق الأوروبي) تهيمن عليه الكنيسة التي أضحت تمارس أيضا السلطة الزمنية مما يعني تضييق الخناق على الفردانية باسم معايير دينية وأخلاقية مشتركة، إلى المجتمع الحديث حيث القيمة العليا للفرد ككائن متميز وقائم بذاته.
إن بداية تبلور المفهوم الحديث للفرد لا يمكن فصلها عن الإرهاصات الأولية لتشكل مبدأ علمانية الدولة على الصعيد الفكري والنظري. ومن هنا، عرفت أوروبا اعتبارا من القرن الرابع عشر (في أواخر العصر الوسيط) ظهور مفكرين قانونيين أبرزهم دوكام ومارسيل دو بادو من دعاة تأكيد سيادة الدولة على حساب تفوق الكنيسة، بحيث نادوا بحصر نفوذ الأخيرة في المجال الروحي وخضوعها للدولة في المجال الزمني. وقد تأكدت هذه الاستمرارية الفكرية مع نيكولا ميكيافيلي (1469-1527) الذي يعتبره الكثيرون رائد الفكر السياسي الحديث، بحيث يقوم نتاجه الفكري على تأكيد سيادة الدولة الأمة والفصل بين السياسة والأخلاق المثالية.
نضج الفردانية مع أيديولوجية عصر التنوير
يمكن اعتبار نظريات العقد الاجتماعي (من أبرز روادها جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو) ظاهريا بمثابة التجسيد الأمثل لمفهوم الفرد الحديث باعتباره كائنا أخلاقيا مجردا ذو إرادة متميزة، إذ بصمت تلك النظريات الساحة الفكرية بأوروبا القرن 17 و18 أثناء ما عرف بعصر التنوير، وقد نهضت جميعها على افتراض أن العقد الاجتماعي يؤلفه مجموعة من الأفراد المتصفين بالعقلانية والإرادة الحرة. وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن أن نغفل الإشارة إلى نظرية الحق الطبيعي الحديث لرائديها لوك وروسو، التي تفيد بأن للفرد حقوقا طبيعية سابقة في وجودها عن وجود الدولة المنبثقة عن العقد، بحيث لا تعدو وظيفة هذه الأخيرة ضمان احترام تلك الحقوق الطبيعية.
وفي خلفية الصورة، يضيء المؤلف على المعضلة التي واجهتها نظريات العقد الاجتماعي المتمثلة في صعوبة التوفيق بين حرية الفرد والسلطة، ذلك أن تحقيق أهداف العقد يقتضي بالضرورة وجود سلطة تحتكر العنف المشروع مع ما يمليه ذلك من تراتبية وتضييق لنطاق الحرية الفردية. ويبدو هذا المأزق أشد بروزا عند كل من هوبز وروسو، فكلاهما انطلقا من الفرد ليخلصا إلى نتائج معادية للفردانية كما يقر الكاتب. عند هوبز تخضع إرادة الفرد للسلطة المطلقة للحاكم الذي لا تجوز مساءلته لأنه ليس طرفا في العقد بقدر ما هو منبثق عنه، أما روسو فهو ُيخضع إرادة الفرد لاستبداد الإرادة العامة.
ردة فكرية مضادة للفردانية
إذا كانت الثورة الفرنسية (1789) تعد بنظر العديدين حاملة مشعل قيم عصر التنوير الأساسية (من أبرزها فكرة الفرد الحديث) بعد هدمها للمؤسسات والأنظمة القديمة، فإن مآلاتها التراجيدية في بداياتها الأولى (عصر الإرهاب، ظهور إمبراطورية استبدادية بقيادة نابليون) ستصبح موضع نقد من طرف مجموعة من المدارس الفكرية التي ينتمي بعضها إلى التقليد الليبرالي عينه، مما سيفضي بالمحصلة إلى انبعاث الفيضية في مقابل انحسار النزعة الفردانية في الفكر السياسي الحديث.
ويأتي في مقدمة تلك الاتجاهات النقدية المدرسة الوضعية أو السان سيمونية (نسبة إلى هنري دو سان سيمون الذي يعد من أبرز روادها إلى جانب أوغست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث). يحيل المبدأ الفكري العام للمدرسة الوضعية إلى أنه بعد المرحلة الأولى من عصر التنوير التي اتسمت بهدم المعتقدات السابقة، قد آن الأوان للتفرغ من أجل بناء وتنظيم المجتمع عن طريق إيلاء الأولوية القصوى للعلم والصناعة. وبنظر السان سيمونيين فإن بناء المجتمع الصناعي الحديث يتطلب وحدة الشعور والمصير المشترك وهي المهمة التي يكفلها الدين أو ما أسموه بالمسيحية الجديدة. ومن ثم نخلص إلى وجود نزعة فيضية واضحة لدى الوضعيين تتناقض مع فردانية الرعيل الأول من مفكري عصر التنوير.
أما المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل (1805-1859) فهو يؤكد على مشكلة الاغتراب التي تواجه الديمقراطيات الحديثة، إذ يشعر أعضاء المجتمع الحديث بالغربة إزاء المؤسسات والأنظمة الجديدة لعدم وجود روابط مشتركة. ومن ثم يخلص توكفيل إلى أن الديمقراطية لا يجب أن تقوم على أنقاض الأخلاق الاجتماعية والدينية، بل في تكامل وانسجام معها. وصولا إلى الفكر القومي الألماني (يعد هردر وفيخته من أبرز رواده) والذي أكد على حقوق الشعوب والثقافات القومية بدلا عن حقوق الإنسان بوصفه فردا مجردا من الانتماءات العضوية والضيقة، وهو ما يعد ردا مباشرا على تعميمية عصر التنوير الذي يضفي على قيمه لبوسا كونيا غير قابل للاختزال في ثقافات فرعية.
الفكر النازي: تركيب هجين بين فيضية عنصرية وفردانية متطرفة
يجدر بنا في البداية رفعا لكل لبس التمييز بين الفكر القومي (أشرنا له سابقا) الذي يؤكد على تفوق الطبع والثقافة الألمانية مما يفضي إلى تشكل أمة قومية متراصة من جهة، والأيديولوجية النازية التي تؤكد بدلا عن ذلك على تفوق العرق الآري الذي ينبغي أن يسود الأعراق الأخرى من جهة ثانية. ويمكن أن نتبين في الفكر النازي طغيان نوع من الفيضية العنصرية، إذ يؤكد هتلر بأن ما يميز الإنسان الآري هو اتصافه بالغيرية والإيثار، بمعنى قابليته للتضحية بنفسه في سبيل تفوق العرق، خلافا لباقي الأعراق (وبخاصة اليهود) التي تتسم بالأنانية والفردانية البغيضة.
وفي المقابل، نعثر على سمات واضحة للفردانية المتطرفة في الفكر النازي، بحيث يولي هذا الأخير اعتبارا كبيرا لما يمكن تسميته ب"الداروينية الاجتماعية" التي مفادها أن القوي يأكل الضعيف، باعتبار أن الحياة الاجتماعية ما هي إلا صراع مستمر بين البشر لفرض سيطرة وسيادة مبدأ أو عنصر معين (في هذه الحالة العرق الآري). والحال أن هذا التصور أقرب إلى الفردانية بصيغتها الراديكالية باعتبار أن الأفراد هم الفاعلين الأساسيين في الصراع الاجتماعي، ولكونه ينسف فكرة المجتمع الكلي أو الأمة القومية المتراصة.
وفي الختام، يخلص لويس دومون إلى حقيقة طغيان القيم الفردانية على المجتمع الرأسمالي الحديث، حيث القيمة العليا للفرد قبل كل شيء. كما يجهد في رصد التبعات السلبية لذلك على العلوم الاجتماعية مع التركيز على الأنثروبولوجيا بوصفها حقل تخصصه المعرفي، ذلك أن تلك العلوم ينصرف موضوعها من حيث المبدأ إلى دراسة الخصائص الكلية للمجتمع وليس الأفراد بوصفهم كائنات ذرية. والحال أن انتشار النزعة الفردانية قد تسبب في تفتيت الإجماع المفترض داخل المجتمع العلمي بفعل تباين الاتجاهات البحثية والمعايير المتبعة لمعالجة الظواهر المدروسة.