تهدف عملية التدريس إلى إحداث تغييرات في سلوك المتعلم، وإكسابه المعلومات والمهارات والمعارف والاتجاهات والقيم المرغوبة فيها، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يجب على المعلم أن ينقل له هذه المعارف والمعلومات بطريقة مشوقة تثير اهتمامه ورغباته إلى التعلم. والمعلم الناجح هو الذي يعرف جيدا كيف يجعل حصته حصة مشوقة بعيدة عن الملل، من خلال اعتماد طرق تعليمية ملائمة لمادة الدرس، قد تكون متنوعة بحسب الظروف والمتطلبات الصفية، لأن إتباع المعلم طريقة واحدة معينة، أو التعصب لأسلوب معين، يحكم عليه في أحيان كثيرة بالجمود، يؤدي به إلى تجميد المادة الدراسية، لذلك وجب على المعلم الإلمام بطرائق التدريس المتنوعة، وامتلاك القدرة على استخدامها بالشكل الصحيح، لجعل الدرس مفيدا وممتعا في آن واحد، ومناسبا في الوقت نفسه لقدرات طلابه وميولهم.
وعليه فواقع التدريس، وتدريس مادة الفلسفة بمدارسنا خير دليل على ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فمن الملاحظ مثلا على مستوى تدريس مادة الفلسفة بالباكالوريا، أنها باتت تشكل عائقا معرفيا لدى المتعلمين، وذلك راجع بالأساس إلى الكيفية التي يقدم بها المعلم درسه، فلا ريب إن كانت تتسم بالجمود والتكرار القائم على طريقة التدريس التقليدية أن تجعل المتعلم ينفر من هذه المادة، فهي بالنسبة له كإشكال بحث رجل أعمى عن قط أسود داخل بيت مظلم، والحال أن المتعلم المستقبل يبني مهاراته التعليمية التعلمية من المرسل الذي يمده بالمعرفة عن طريق القناة، فإن لم تكن هذه القناة جيدة أصبح الحديث عن النخبة حديثا فارغا من كل مضمون علمي، ومما لا شك فيه وحسب واقع تدريس الفلسفة، أن هناك هوة تزداد عمقا يوما بعد يوم ما بين المطلوب والمنتظر، أي بين المعلم والمتعلم، حيث أصبحت المسافة بين المرسل والمستقبل تقاس بالسنين الضوئية، على اعتبار أن الدرس يخلو تماما من أي تمييز بين المتعلمين من جهة إيصال المعلومة، في حين نجد المتعلمين فارغين تماما من أي كفاءة تجعلهم قادرين على مواكبة درس المعلم، والذي سبق وقلنا أنه يفتقر لطرق إيصال تتناغم والمتعلم، مما يجعل الدرس الفلسفي يتميز بالرتابة والدغمائية والبؤس، إذ يصبح المتعلم بين جحيم الحصول على معدل يخول له الانتقال للمرحلة الجامعية، وبين عائق فهم المادة التي هي الجحيم بعينه بالنسبة له.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تخبط السياسة المغربية التعليمية في استدماج مقاربات أو استيراد بيداغوجيات أجنبية ولو أنها قائمة على علم ونظريات ومقاييس، إلا أن تطبيقها على الواقع التعليمي المغربي بما يتميز به من تنوع ثقافي واجتماعي، يجعل من العملية برمتها صعبة، لأنها لا تتماشى وخصوصيات المجتمع.
ومنه كان لزاما على الدولة أن تنهج التدريس باعتماد المقاربة بالكفايات كأسلوب تعليمي ظهر في أوروبا قبيل انتهاء القرن العشرين، والتي تبنته الدولة المغربية كبديل للمقاربة بالأهداف، إذ تعتبر المعلم محورا فاعلا لأنه يبني المعرفة ذاتيا، وبتوفير شروط التعلم الذاتي، واعتبار المدرسة مسهل لعمليات التعلم الذاتي. ومن النهج الذي اتخذته هذه البيداغوجية في التخطيط للدرس أنها وفرت على المعلم عناء إيصال المعلومة بتقسيمها لمحاور الدرس على عدة كفايات تجعل المتعلم يفهم الدرس بطريقة سلسلة، نذكر منها؛ الكفايات الإستراتيجية التي تستوجب معرفة الذات والتموقع في الزمان والمكان، والتموقع بالنسبة للآخر وبالنسبة للمؤسسات الاجتماعية والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة، وتعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع . ثم نجد الكفايات التواصلية والتي يجب من خلالها أن تؤدي إلى إتقان اللغة العربية وتخصيص حيز مناسب للغة الأمازيغية وكذا التمكن من اللغات الأجنبية، والتمكن من مختلف أنواع التواصل داخل المؤسسة التعليمية وخارجها في مختلف مجالات تعلم المواد الدراسية، والتمكن من مختلف أنواع الخطاب الأدبي والعلمي والفني...، سواء في محيط المدرسة أو على مستوى المجتمع. ولا ننسى أيضا الكفايات الثقافية، حيث تشمل على شق رمزي يرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته. ناهيك عن الكفاية المنهجية والتي تستهدف إكساب المتعلم منهجية للتفكير وتطوير مداركه العقلية ومنهجية للعمل في الفصل وخارجه، وتكوينه الشخصي كذلك. وأيضا نجد الكفاية التكنولوجية المتمثلة في القدرة على رسم وتصور وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية، والتمكن من تقنيات التحليل والتقدير والمعايرة والقياس، بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان.
إلا أن المميز في هذه البيداغوجية أنها تعتمد على عدة بيداغوجيات تتماشى ومتطلبات المتعلم يمكن التطرق إليها بإيجاز؛ فهناك البيداغوجية الفارقية مفردنة تعترف بالتلميذ كشخص فرد له تمثلاته الخاصة للوضعية التعليمية التعلمية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تلميذ، وبهذا تكون معارضة لأسطورة القسم الموحد المتجانس، ثم بيداغوجية المشروع والتي تهدف إلى الربط بين العمل والنظر كممارسة، والفكر كتأسيس التعلم على النشاط الذاتي للمتعلمين، وتعديل السلوك واكتساب عادات وخبرات جديدة بربط التعلم بمواقف الحياة الاجتماعية. ثم نجد بيداغوجية حل المشكلات والتي تقترح وضعية مشكلة معقدة تستدعي مواجهة التلميذ لمجموعة من التعلمات المتداخلة والمتمحورة حول هذه الوضعية، من ثم تأتي بيداغوجية الخطأ إذ تصور لعملية التعليم التي تقوم على اعتبار إستراتيجية للمتعلم اعتمادا على كون الوضعية التعليمية تنظم على ضوء بنائي للمعرفة من طرف المتعلم. ناهيك عن بيداغوجية الذكاءات المتعددة التي من وجهة نظرنا تعتبر الحل الأمثل لمعضلة عدم استيعاب الدرس الفلسفي من طرف المتعلم، إذ يمكن باعتمادها الوصول ولو بنسبة ضئيلة إلى تحبيب الدرس الفلسفي أو المادة ككل اعتمادا على ذكاءات الفئة المتعلمة، وتماشيا مع ما يميل وجدانهم إليه.
فلبيداغوجية الأهداف نظرية تربوية جديدة قائمة على العلم والعقلانية والقياس والتكنولوجيا والتحقيق الموضوعي، وقد انتشرت هذه النظرية في المغرب في سنوات الثمانينات كما سبق أن أشرنا، إذ جاءت كبديل للدرس التقليدي، بغية تنظيم العملية الديداكتيكية وعقلنتها، حتى أصبحت هذه النظرية معيارا إجرائيا لقياس الحصيلة التعليمية التعلمية لدى المتعلم والمدرس معا، ومحكا موضوعيا لتشخيص مواطن قوة المنظومة التربوية على مستوى المردودية والإنتاجية والإبداعية، وأداة ناجعة لتبيان نقط ضعفها وفشلها وإخفاقها، وتعد كذلك آلية فعالة في مجال التخطيط والتقويم وبناء الدرس الهادف.
فإذا كانت بيداغوجيا الكفايات تعنى بتحديد الكفايات والقدرات الأساسية والنوعية لدى المتعلم أثناء مواجهته لمختلف الوضعيات المشكلات في سياق ما، فإن بيداغوجية الأهداف التي تبنتها مناهج التربية خلال الثمانينات كمقاربة تربوية تشتغل على المحتويات والمضامين في ضوء مجموعة من الأهداف التعليمية التعلمية ذات الطبيعة السلوكية، سواء أكانت هذه الأهداف عامة أم خاصة، ويتم ذلك التعامل أيضا في علاقة مترابطة مع الغايات والمرامي البعيدة للدولة وقطاع التربية والتعليم. وتهتم بيداغوجيا الأهداف بالدرس الهادف تخطيطا وتدبيرا وتقويما ومعالجة مما يجعل المتعلم ينصب على جمالية النص الفلسفي دون القدرة على استدماج الأفكار وتحليلها وفق فكره الخاص. فرغم تميزها إلا أنها تتسم بالنزعة السلوكية والنظرة التقنية على حساب النظرة الشمولية، كما وتغض الطرف عن الطرائق والمناهج والوسائل الديداكتيكية.
لقد تم اليوم اعتماد مفهوم الكفاية في التدريس، كاختيار بيداغوجي ديداكتيكي، ليشمل في مدلوله البيداغوجي مفهوم القدرة والمهارة بمعناها المركب الذي يحيل على قدرات ومهارات متعددة ومتصلة، في بنية عقلية أو حسية أو حركية أو وجدانية قابلة للتكيف والملاءمة والاندماج مع وضعيات جديدة، كما أن مفهوم الكفاية البيداغوجية الذي ليس مجرد تطبيق ميكانيكي للكفاية، وإنما هو استخدام ونقل إبداعي لها يخضع للقياس والملاحظة دائما، فالكفاية إذن، ذات طابع شمولي مركب ومندمج وهي استعداد يكتسبه المتعلم وينمى لديه، ليجعله قادرا على أداء نشاط تعليمي ومهام معينة.
المراجع:
- الدريج محمد، المنهاج المندمج أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 38، الطبعة الأولى، 2015.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد الخمسون، ديسمبر 2011، مطبعة النجاح الجديدة.
- بوتكلاي لحسن، بيداغوجيا الإدماج، الإطار النظري، الوضعيات، الأنشطة، الطبعة الثانية، 2009.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد السابع والثلاثون، يونيو 2008، مطبعة النجاح الجديدة.
- الدريج محمد، مدخل إلى علم التدريس: تحليل العملية التعليمية، دار الكتاب الجامعي، الإمارات، سنة 2003.
- الدريج محمد، الكفايات في التعليم من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، العدد 16 أكتوبر 2000.
- أوزي أحمد، التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة، منشورات مجلة علوم التربية العدد السادس، الشركة المغربية للطباعة والنشر.