يصطلح على الأحكام المسبقة داخل الأدبيات التربوية بالتمثلات، هذه الأخيرة التي هي حسب "اندريه جيوردان" " عبارة عن مجموعة من الصور و النماذج الذهنية عند المتعلم قبل أي نشاط تعليمي، و تكون نشيطة خلال عملية التعلم "([1]). ومما هو معلوم أن المتعلم و هو آت إلى الدرس أيّ درس، و الدرس الفلسفي خصوصا، لا يأتي فارغ الذهن و كل ما يتطلبه هو الشحن، إنما يأتي محملا بمجموعة من التمثلات التي اكتسبها أثناء مساره التنموي و الثقافي... هذه التمثلات التي غالبا ما تكون حاجزا أمام تعلم و استدماج المعارف المدرسية، و الفلسفية على وجه الخصوص، نظرا لمجموعة من الأسباب منها ما هو مرتبط بالمادة (الفلسفة)، باعتبار مادة "مغضوب" عليها مجتمعيا- إن صح التعبير-، هذا من جهة، و كذلك نظرا لما تتميز به من تجريد يتطلب من التلميذ بذل الجهد الفكري لاستيعاب أفكارها، و كذلك لكون هذه المادة لا يلتقي بها التلميذ إلا مع ولوج المرحلة الثانوية، مما يطرح مجموعة من الأسئلة لدى المتعلم، حول سبب هذا التأخر في تدريس هذه المادة، الشيء الذي يُكون ويقوي التخوف و يعزز تلك التمثلات المجتمعية التي غالبا ما تكون ضد هذه المادة، إن لم نقل معادية لها. لكن تبقى مادة الفلسفة، كمادة مدرسية مقررة، لا مفر منها، هذه النتيجة الأخيرة تفرض علينا أن نتساءل حول كيفية الاشتغال على تلك التمثلات التي يأتي بها المتعلم للدرس الفلسفي، و خصوصا إذا ما استحضرنا أنها قد تحول بينه و بين انخراطه الفعال في هذه المادة، إن لم نقل محاربتها و رفضها بالباث و المطلق.
إذا سلمنا بأن الدرس الفلسفي خاصة، و الفكر الفلسفي عامة قائم على بناء المفاهيم، فإن العلاقة هنا ستتحول إلى علاقة التمثلات ببناء المفاهيم، أو بمعنى أخر، كيف يمكن أن تكون التمثلات عائقا أمام بناء المفاهيم الفلسفية؟ و كيف يمكن أن نجعل من الاشتغال على التمثلات طريقا لبناء المفاهيم الفلسفية؟ و كرهان، كيف يساهم بناء المفاهيم إلى جانب كل من الأشكلة و الحجاج باعتبارها أهدافا نواتية – حسب طوزي- لتعلم التفكير الفلسفي على تجاوز تلك التمثلات التي غالبا ما تتسم بالطابع اللاعلمي نحو تأسيس تمثلاث علمية؟
فإذا كان التلميذ يأتي محملا بمجموعة من التمثلات السوسيو ثقافية التي استدمجها عن طريق التنشئة الإجتماعية، فإنه يكون لزاما على مدرسي مادة الفلسفة العمل على كشف تلك التمثلات و تحديد هويتها و ضبط حدودها، للتمكن في لحظة موالية من معالجتها و استبدالها بتمثلات تتناسب مع المادة، ومع المفاهيم الفلسفية التي يتم تناولها. لكن كيف السبيل إلى ذلك؟.إن الأمر ليس بالسهل، لذلك يجب أن يتم بطريقة تشاركية حوارية، وذلك لتفادي المواجهة بين المتعلم و المدرس، و المتعلم و المادة المدرسية، إذ أن إتباع طريقة غير الطريقة التفاعلية سواء أثناء الكشف أو المعالجة، من شأنه أن يقوي مقاومة التلميذ، في الوقت الذي يجب علينا البحث عن السبل و الطرق الكفيلة لتكسير تلك المقاومة، ذلك أن التغلب على هذه الأخيرة هو الذي يجعل من السهولة بمكان إقناع المتعلم بتجاوز تمثلاته الأولى التي غالبا ما تكون سلبية و رافضة، نحو تمثلات ايجابية و داعمة كما أن تكسير تلك المقاومة التي تمنع المتعلم من الانخراط الفعال و الإيجابي في بناء المفاهيم الفلسفية، و بالتالي بناء الدرس الفلسفي، هذا البناء الذي يكون بطريقة أفقية ، ليس فيها شيخ ولا مريد، بل الكل يساهم في البناء- طبعا لا يمكننا الحديث عن التماهي الكلي بين الأطراف المشكلة للدرس، و إنما على الأقل تكسير تلك التراتبية العمودية التي كانت سائدة مع المقاربات التربوية الكلاسيكية حيث يكون المتعلم مستهلكا لا منتجا و فاعلا. لكن من أين يستمد هذا الكلام شرعيته؟. لعل الإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا اللجوء إلى ما جادت به الأبحاث الديداكتيكية، وبالخصوص حول مادة الفلسفة، - رغم قلتها-.
إن أول شيء يمكنه أن يشرعن تناولنا للتمثلات و علاقتها ببناء المفاهيم، و إذا أردنا أن نقول بشمولية، و علاقتها بالدرس الفلسفي، هو ما عبر عنه "ميشيل طوزي" في قوله "التفكير الفلسفي يعد سواء تعلق الأمر فيه بالمفهمة أو الأشكلة، قطيعة مع الآراء الشائعة، ذلك أن التلميذ يمتلك تمثلات مسبقة عن الفلسفة وعن المفاهيم التي تتناولها وهو لم يقدم بعد على ممارستها" ([2]). إذن و كما هو واضح في القول، أن التلميذ قبل كل شيء يأتي محملا بمجموعة من التمثلات، هذه الأخيرة التي سبق أن قلنا على أنها تشكل عائقا أمام تعلمه أو بناءه للمفاهيم الفلسفية، أو في درجة أكبر انخراطه في الدرس الفلسفي، إذن هي مصدر المقاومة التي يبديها المتعلم من المادة في أغلب الأحيان، ومن الإنخراط في سيرورة الدرس بما فيها بناء المفاهيم في كل الأحيان، من هنا لم يبقى أمامنا سوى خيار واحد إذا ما أردنا أن نحقق انخراط المتعلم في الدرس الفلسفي وتكوين تمثلات إيجابية عن المادة وتكسير المقاومة التي يكون مزودا بها قبل مجيئه إلى الدرس الفلسفي، و إذا ما أردنا أن نَكتب لدرس الفلسفة و روحها البقاء مؤسساتيا و مجتمعيا لا يسعنا إلا أن نعمل على مواجهة تلك التمثلات. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه اللحظة و بخصوص هذه النقطة هو كيف سندبر تلك المواجهة؟ إنه لسؤال ديداكتيكي بامتياز، إنه سؤال أعمق و أعقد من مجرد الاعتراف بأن للتلميذ تمثلات، و أن هذه التمثلات تشكل عائقا أمام تعلمه و انخراطه في الدرس الفلسفي، وأن تلك التمثلات قد تؤول بالدرس الفلسفة، و أبعد من ذلك بمادة الفلسفة، إلى زوال، إنه سؤال الفعل بلا منازع.
لتناول هذا الإشكال نجد أنفسنا أمام طريقتين، أو مناولتين ، إما أننا سنتناول تلك التمثلات ونعالجها بطريقة تكون المواجهة المباشرة هي سيدة الموقف، وهنا نطرح السؤال حول ما مدا قدرة هذه الطريقة فعلا على تمكيننا من تجاوز تلك التمثلات أو على الأقل الكشف عنها، أو بمعنى أخر، إلى أي حد يمكن للمواجهة المباشرة أن تمكن من الكشف عن التمثلات و تجاوزها ؟. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية، أن نتناول تلك التمثلات سواء تعلق الأمر بالكشف أو المعالجة و التجاوز بطريقة تدريجية يكون فيها من التأني و التدرج ما في تلك التمثلات من طبقات و درجات، بين الأساسية و غير الأساسية، بين البسيطة والمعقدة. و باختصار إلى أي حد بإمكان طريقة التدرج في تناول التمثلات أن تمكن من الكشف و معالجة وتجاوز التمثلات التي سلمنا منذ البداية أنها عائقة أمام تعلم التفكير الفلسفي؟.
لنقرر منذ البداية و قبل الخوض في تفاصيل الطريقتين أن رهاننا هو التمكن من تجاوز تلك التمثلات المعيقة ، التي تعيق إقبال المتعلم على المادة بشكل عام و على بناء المفاهيم و الانخراط في سيرورة الدرس بشكل خاص. إذن مناولتنا للطريقتين ستكون بما من شأنه أن يخدم رهاننا، أو بمعنى آخر صلاحية و معنى الطريقتين سيكون بمدى قدرتها على تحقيق الرهان من عدمه. ومن أجل تسهيل الفهم وإيجاز العبارة اقترح اصطلاحين للطريقتين. فأسمي الطريقة الأولى فأسمي الطريقة الأولى بالمناولة العمودية، و الثانية أقترح تسميتها بالمناولة الأفقية أو الميكروسكوبية.
[1] ) نفسه.ص،58.
[2] ) Michèle Benoit, Michel tozzi….. Apprendre à philosopher dans les lycèes d’aujourd’hui. Her chette éducation. 1992.p.61