أثارت الدعوة الملكية الشجاعة إلى إصلاح الجانب الإسلامي في التعليم نقاشا كثيرا، ما بين مرحب ومتوجس ومتحفظ، وصل النقاش إلى حد تحريف الدعوة الملكية، وتسمية الأمور بغير مسمياتها، فكلمة التربية الإسلامية أصبحت لدى بعض الناس التربية الدينية، وتقاذف الخائضون الاتهامات وتراجموا بالتكفير وتبادلوا التخوين، حتى قبل أن تبدو معالم هذا الإصلاح وإجراءاته ومضامينه، فالدعوة الإصلاحية أخرجت كثيرا من الأصوات من قمقمها لتخوض بالقول في موضوع شائك، على الرغم مما قد يبدو عليه من بساطة. فالتسطيح يؤدي إلى تناول خاطئ لكثير من قضايانا المصيرية.
وهذا المقال ليس ردا على جهة، أو توضيحا لقرار، وإنما محاولة مني لاستحضار أمرين اثنين يجب ألا نغيبهما عن النقاش.
الأمر الأول هو أن الدعوة إلى إصلاح الجانب الإسلامي في التعليم ليست وليدة اليوم، بل هي مطلب قديم عبر عنه كثير من العلماء الأعلام في التاريخ الإسلامي، المجال لا يتسع لذكرهم كلهم، لكن يمكننا استحضار مثالين اثنين من بلاد الغرب الإسلامي، الأول هو ابن العربي المعافري، الذي يعد رائدا للتربية المقارنة، انتقد طريقة تعليم الدين بعد رحلته للمشرق ومقارناته بين نظامي التعليم المغربي والمشرقي، وأورد آراء على جانب كبير من الأهمية، هذه الخطوة ستكون دليلا لغيره من العلماء الذين جاؤوا بعده، ولعل أهمهم ابن خلدون.
ابن خلدون هذا العلامة الذي بارك الله في علمه، ورزقه موهبة نادرة، فنال حظا واسعا من الثقافية الدينية والفلسفية والعلمية واللغوية والأدبية، والخبرة السياسية والاجتماعية، تناول في كتاب مقدمته الشهير مبحث التعليم بالدراسة والشرح والتحليل، فذكر أن الأنشطة المرتبطة بالعلم والتعليم والتعلم جزء من الطبيعة البشرية، وتبرز بجلاء داخل التجمعات الإنسانية، ومن ثم لا توجد معرفة خارج المجتمع الإنساني، وكلما كان التجمع الإنساني متطورا، كانت الأنشطة التعليمية متطورة، فهي ترتبط به من حيث التطور والتعقيد والبساطة. لذا، وتبعا لهذه القاعدة، فإن التعليم "الصناعي" يوجد في الحواضر المتطورة، مثل بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، التي زخرت فيها بحار العلم، وتفننت في اصطلاحات التعليم، وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون. فهي "أمصار مستبحرة" في تعليم العلم بخلاف القرى والأمصار غير المتمدنة لفقدان الصنائع في أهل البدو.
حدد ابن خلدون مفهوم التعليم الصناعي للدلالة به على التعليم الذي يرتبط بالعمران والحضارة ويقوم على تعليم النحو والمنطق والحساب ويتخذه المتعلم وسيلة لكسب العيش، بخلاف التعليم الدعوي الديني الذي يرتبط بالوحي والنصوص الشرعية ويعتمد على تحفيظ القرآن الكريم وتلقين بعض الأحاديث.
ولعل ابن خلدون هو أول من ميز بشكل قاطع ومفهوم بين التعليم والعمل الدعوي، فقد كتب في مقدمته قائلاً: "التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك (على نحو ما صار إليه في عصره)، ولم يكن العلم بالجملة صناعة؛ إنما كان نقلاً لما سمع من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ. (فكانوا) يعلمون الكتاب على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هداياتهم". وهذا التعليم الإسلامي الأول لم يكن إلا قسماً من الدعوة، ويختص بالدعوة الداخلية في أوساط المسلمين. وهناك غيرها دعوة خارجية وتختص بغير المسلمين.
فعمران الأرض والانتقال بالمجتمعات من طور البداوة إلى طور التحضر يقتضي تطورا كميا ونوعيا في الصناعات، والأنشطة الاجتماعية والخدمات والمعاملات، الأمر الذي يؤثر في تطوير التعليم، وتحسين طرق تلقين المعرفة، وأساليب التفاعل التربوي وقنوات التواصل الاجتماعي، ما يؤدي بالضرورة إلى تسريع عجلة التقدم والتحضر. مؤكدا على أهمية وضرورة التمييز بين التعليم كنشاط اجتماعي وحضاري وبين تلقين الدين باعتباره نشاطا دعويا، قد يقوم في كل المجتمعات بغض النظر عن بداوتها أو تحضرها. فالتعليم الذي يقود إلى التحضر ويخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يتم وفق شروط معينة، تختلف عن الشروط التي يقوم عليها العمل الدعوي من تلقين القرآن وتعليم الدين. وفي كتاباته استعان بمشاهداته وتجاربه وخلاصات خبرته الشخصية واتصالاته وحواراته مع العلماء، كما استفاد من المقارنات بين أنظمة التعليم المغربية والمشرقية التي سجلها القاضي الأندلسي النابغة ابن العربي المعافري خلال رحلته الحجازية.
الأمر الثاني هو أن عملية الإصلاح التي دعا إليها الخطاب الملكي لا تستهدف الدين، لأن ما يلقن في المدرسة ليس الدين، إنما بعض الفكر الإسلامي. فالالتزام الديني للمغاربة لا علاقة له يما يتلقونه في المدرسة، بل يكتسبونه عن طريق التقليد في الوسط العائلي وعن طريق التربية الوالدية، لذلك فالتلاميذ يختلفون في مدى التزامهم باختلاف أوساطهم الأسرية.
فالمدرسة لا تعلم الدين، بل تلقن فكرا منسوبا للإسلام، والإسلام ليس واحدا في مشارق الأرض ومغاربها، فما يلقن للتلميذ المغربي هو حتما مختلف عما يلقن للتلميذ الإيراني، على الرغم من انتسابهما معا للإسلام. وحتى داخل الخريطة السنية، ما يتلقاه النشء المغربي يختلف في كثير من مضامينه عما يلقن للنشء في السعودية. بل وحتى داخل البلد الواحد، نجد فروقا واضحة بين ما يحمله أساتذة المادة من أفكار هي إسلامية طبعا، فالأستاذ حين يفكر وحين يلقن الدرس للتلاميذ يستحضر ما تعلمه، وما ورثه، وأيضا عواطفه الشخصية وميولاته السياسية، بل وأيضا ظروفه الاقتصادية والاجتماعية تتدخل في تحديد قناعاته وبالتالي فإن التلميذ سيتأثر بها حتما. والأدهى من كل ذلك هو أن التربية الإسلامية ليست حكرا على أستاذ المادة، فمدرس التاريخ والعربية أيضا يلقنان التلاميذ كما هائلا من الفكر والآراء المنسوبة للإسلام، والأمر ليس قاصرا عليهما، فهناك أساتذة لمواد علمية يزرعون في التلاميذ فكرا خطيرا يتكئ على الإسلام أيضا، في حين ينبري كثير من الأساتذة مدرسي مختلف المواد كالاجتماعيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض وغيرها، بتدريس هذه المواد من منظور إسلامي، حرصا منهم على أسلمة علوم كونية تتعامل مع المادة المجردة وفق قوانين ثابتة لا تخضع للأهواء ولا للعقائد. الأمر إذن ينطوي على خطورة كبيرة علمية وعقائدية وثقافية وسياسية أيضا.
إننا محتاجون ليس فقط إلى إصلاح نظام تربوي، وتنقية المناهج والكتب مما تتضمنه من أفكار وآراء ومواقف وأحكام، بل أيضا إلى ميثاق أخلاقي يلتزمه الأساتذة الذين يدرسون التلاميذ. فمن أهم آداب المهنة الإخلاص والتجرد من الأهواء، والحياد التام. والالتزام الدقيق والتام بالمنهاج الدراسي وأهدافه السلوكية والمعرفية. وهده مسؤولية الأستاذ المتنور، فالموضوعية تقتضي الالتزام بالتعليمات الرسمية المتعلقة بكل مادة، والتي هي بمثابة دفتر تحملات يجب احترامه، والحياد يعني التجرد من أي موقف أو إبداء رأي شخصي أو تدخل في المنهاج، سواء أكان هذا مضمون المنهاج متوافقاً مع الفكر الذي يحمله الأستاذ أم غير متوافق، ونقل كل معلومة إلى المتعلم دون بتر أو اجتزاء أو زيادة. على الرغم من صعوبة ذلك لأن الأستاذ يعقل الأمور حسب وجهة نظره في الحياة، والخطورة تكمن في تلقين وفرض وجهة النظر الخاصة على المتعلم. إلا أن كثيرا من المدرسين يرفضون مبدأ الحياد، بدعوى أنه ينبغي أن يكون التعليم والأنشطة التربوية وفق أحكام الشريعة، التي في الحقيقة تختلف باختلاف المذاهب والأئمة والثقافات.
يجب الاجتهاد المتحلي بالشجاعة لتصحيح الخلل، إننا واثقون من أن عملية تنقيح المنهاج التعليمي وتنظيفه وتصويبه ممكنة ومتيسرة، وقد أفلحنا مرارا في ذلك، والصعوبة الكبرى كامنة في تنظيف عقول الأساتذة وتصحيحها وتصويبها.