ما أنفك البحث عن حقوق النساء في المجال السياسي موضع جدل بين دعاة الدين ودعاة الحقوق المدنية يتصاعد بين فترة وأخرى مثيراً زوبعة من النقاشات الحادة حول قضية النساء ودورهن في المجتمع وإمكانية توليهن مناصب سياسية عليا في منظومة الدولة المعاصرة وهو أمر لا غبار عليه إذا كان ضمن سياق العملية الديمقراطية وتجربتها في إطار النظام العلماني ومنظومته الفكرية لكن المشكلة التي تواجه مثل هذه القضية عبر طرحها الايديولوجي هي حينما يحاول البعض إيجاد جذر تاريخي لقضية المرأة ضمن منظومة التراث الإسلامي في محاولة لإثبات تلك القضية كما لو أنها جزء مهمل من تاريخنا أو أنها ليست وليدة العملية الديمقراطية كما هي في تاريخنا المعاصر.
وهذا ما يحاول كتاب فاطمة المرنيسي "الحريم السياسي... النبي والنساء" اثبات وجوده ولكن عبر نظرة لا تنتمي بكل تأكيد الى التاريخ العربي قدر انتماءها لرؤية المؤلفة ذاتها ، إذن فهي تتحدث الينا لا باعتبارها جزء من هذا التاريخ فحسب بل كما تريد أن يكون ضمن سياقاتها المعرفية التي تستند كثيرا على مرجعيات غربية في محصلتها الفكرية والفلسفية.
هناك فرق بين معرفة التراث والتراث نفسه أي بمعنى ان نصوص التراث ثابتة كحقيقة موضوعية لكن النظر إليها هو ما يمثل معرفة التراث وهي نظرة تختلف نتيجة للاختلافات الايديولوجية والطبقية والسياسية.يقول الدكتور حسين مروة في كتابة النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ما نصه "ليس بالرغبة الذاتية يكون الشيء حقيقة أولا يكون ذلك ان الحقيقة ليست ذاتية بل موضوعية وإلا فليست حقيقية إطلاقا بل تصورا أو رأيا أو رؤيا.... وهنا جوهر المسألة في ما نحن بصدده فان الترابط الذي نعنيه هل هو ترابط موضوعي اي هل هو حقيقة بالفعل؟
بمعنى أن من غير الطبيعي ان لم نقل من غير الممكن ان نكون ثوريين في موقعنا من قضايا الحاضر ومع ذلك نكون غير ثوريين في موقفنا من تراث الماضي فالثورية موقف شمولي كلي لا يتجزأ لأن التجزئي هنا هدم للموقف كله يكشف عن ان الثورية المدعاة طفيلية على الحقل الذي تزعم انتماءها إليه.
وهذا هو ما يمثل الطرح الذي تقدمه فاطمة المرنيسي في كتابها عن الحريم السياسي فبقدر ما كانت القضية التي تعالجها في كتابها عن الحق السياسي وعن التمرد على منظومة الحجاب وتعطيل دور المرأة في المجتمع يبدو أمراً ثورياً ضمن مجتمع محاط بتقاليد واعراف وتابوهات دينية وسياسية لكنها في ذات الوقت اختارت نماذج تاريخية لا تخرج عن الاطار التقليدي في تمثيل التاريخ من وجهة نظر تحاول وضع هذا التاريخ ضمن سياقات سياسية ودعائية موجهة لهذا الفريق أو ذاك ضمن الشروط التي كتبت بها تلك النصوص وظروفها الموضوعية التي ضمت ابراز هذا الجانب او ذاك ضمن هجمات التشويه والدعاية التي لحقت بكتب التاريخ ورواته باختلاف الفترات السياسية التي كتب بها وباختلاف وجهات نظر المؤرخين طبقاً لتوجهاتهم وميولهم الايديولوجية والدينية والسياسية.
وعلى الرغم من قراءتها الكثيرة لمصادر التاريخ ومجلداته الضخمة المتعبة لابراز جانب الحق السياسي في التمثيل النسوي والحقوق الاخرى متبعة سيرة النبي (ص) مع زوجاته وتتبع تفسير البعض من الآيات القرآنية وأسباب نزولها والتطورات التي حصلت في منظومة الإسلام السياسي كدولة بعد وفاة الرسول الاكرم حتى مأساة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع) لكن تلك القراءات ظلت ضمن اطار القراءة التقليدية التي لم ترتقي لمستوى القراءة الناقدة التي تحاول استكناه ومعرفة حقيقة ما يخبئه التاريخ من حوادث موضوعة ومفبركة أحياناً لاغراض سياسية وايديولوجية.
اننا في إطار هذا البحث لا نحاول مناقشة موضوع فاطمة المرنيسي حول حقوق النساء او النظر إليها كجزء من مطالب مشروعة ضمن منظومة الدولة المعاصرة ووضع المرأة فيه قدر ما نريد ان تبين استنادها إلى وقائع وروايات تاريخية ليست بالتماسك المطلوب لكي تكون نموذجا في منظومة الحريم السياسي الذي تريد اثباته فبقدر ما تروي لنا فاطمة المرنيسي احلامها في تحرر المرأة ضمن قصص التاريخ التي تنتقيها بما يلائم مشروع الكتاب بقدر ما تبدو تلك القصص غير حقيقية في واقعها ولا تملك ومقدارا من الصحه في قربها من الواقع.
فهناك روايات مكذوبة وضعيفة وموضوعة واحيانا غير قابلة للتصديق في السياق الذي وردت فيه ومع ذلك ترسلها فاطمة المرنيسي إرسال المسلمات اعتمادا على مصادر التاريخ دون التحقيق من صحة الرواية ووثاقه من يروي عنه.
وهنا لا اريد التصدي لكل رواية وحديث في الكتاب لأن ذلك سيأخذ مساحة لا تسع هذه الأوراق القليلة المخصصة لبحث محدود ولكنني اكتفي بهذا النموذج الصارخ الذي اوردته فاطمة المرنيسي في قضية المرأة كما وردت في صفحة 222 وما بعدها عن قضية السيدة سكينة بنت الأمام الحسين (ع) فهي تقول:
" من هن هؤلاء النساء المسلمات اللواتي قاومن الحجاب ؟ ان اشهرهن سكينة احدى حفيدات النبي (ص) من ابنته فاطمة ، زوجة علي ، علي الشهير ، الخليفة الراشدي الرابع " البائس "!! الذي ترك الخلافة لمعاوية وكان قد جرى اغتياله من قبل اول ارهابي سياسي مسلم ، مصير ابناءه سيكون مأساويا كمصيره ولسوف تشهد سكينة من جهة اخرى مذبحة والدها في كربلاء ، وهذه الماساة تفسر جزئيا تمردها ضد الاسلام السياسي العاتي والمستبد وضد كل من ينتهك حرية الفرد بما في ذلك الحجاب.
ولدت سكينة في عام 49 هجرية ، لقد اشتهرت بجمالها وما كان يسميه العرب جمالها هو خليط متفجر من اللطف الطبيعي والعقل الانتقادي والفصاحة اللاذعة .
لقد تخاصم حولها الرجال الاكثر قوة ، خلفاء وامراء طلبوا الزواج منها ولكنها احتقرتهم لأسباب سياسية مع ذلك سوف تنتهي الى الزواج خمس مرات ...وبعضهم يقول ستة ، لقد عارضت بعضهم واظهرت حبها الملتهب العاشق للبعض الاخر وقاضت احدهم امام المحكمة لعدم امانته ولم تظهر الطاعة لأحد ،في عقود الزواج كانت تشترط انها لا تطيع الزوج ولا تفعل الا ما يوحي به عقلها وان لا تعترف لزوجها بحق تعدد الزوجات كل ذلك بسبب من مصلحتها في القضايا السياسية والشعر.
لقد استمرت على استقبال الشعراء في منزلها وحضور مجالسهم رغم تعدد زيجاتها في مجالس قريش المشابهة لمجلس بلدي غير مركزي ويدار ديموقراطيا في ايامنا .
ان شخصيتها التي فتنت المؤرخين الذين كرسوا لها صفحات وصفحات واحيانا سيرة كاملة رطبت واقع التاريخ القاسي : مذبحة والدها الحسين بن علي في كربلاء ، الحسين احد كبار الثائرين في التاريخ الاسلامي ، الحسين ذلك الرجل المسالم !! الذي اعلم معاوية بعقد خطي قراره بالتنازل عن الخلافة شرط ان يتركه بامان مع عائلته ، بعد موت معاوية رفض مبايعة ابنه يزيد فذبح في كربلاء وسط اهله" ...الخ
وتضيف المرنيسي قائلة " لقد عملت على توقيع عقد زواج مع احد ازواجها تؤكد فيه على حقها بالنشوز ، هذا التمرد ضد السلطة الزواجية التي عذبت كثيرا ضمير الفقهاء لقد طالبت بالحق في النشوز وكانت بزينتها !! وكياستها وعبقريتها تؤكد على اهمية حيوية المرأة في التقليد العربي .. لقد ماتت سكينة في المدينة بسن 68 سنة ومصادر اخرى اعتبرت انها ماتت في ال 77 من عمرها في الكوفة . وهذا هو الارجح . لانها لم تكن تحب العراق ولا العراقيين !!! قتلتم جدي وابي وعمي وزوجي قالت هذا مشيرة الى ترملها . ان مصعب بن الزبير احد ازواجها الذي احبته اكثر من غيره قتل من قبل الاموي عبد الملك بن مروان خامس خليفة اموي ( 658 – 708 ).
( ص 232 -233 )
استميح القاريء عذرا في طول هذا الاقتباس من الكتاب المذكور ولكنها ضرورة البحث على ما سنبين فحينما قرات هذا النص انتابتني الدهشة لحجم المتناقضات التي يحتويها فعلي خليفة بائس والحسين ثائر مسالم وسكينة تخالف شريعة جدها في طلب الحق بالنشوز والحسين كتب الى معاوية تعهد خطي بالتنازل عن الخلافة شرط ان يتركه بسلام ثم تأتي الطامة الكبرى سكينة تموت في الكوفة لأنها لا تحب العراق ولا العراقيين وكأن الكوفة في المريخ وليست في العراق وهي ترفض الزواج من الرجال الاقوياء كما تصفهم من خلفاء وامراء لأسباب سياسية لكنها مع ذلك تتزوج مصعب بن الزبير متناسية مقتل الزبير في معركة الجمل ودور مصعب واخيه عبد الله في اخماد ثورة المختار الثقفي التي قامت بعد استشهاد الامام الحسين طلبا لثأره فكيف يتناسب هذا مع الاسباب السياسية لرفضها اولئك وقبولها الزواج من مصعب الذي يفترض في السياق العقلي ان تكون بحال خصومة سياسية معه ايضا ؟.
هذا النص الفنطازي للتاريخ الذي تورد مصادره المؤلفة من كتاب الاغاني ومصادر اخرى تروي نفس الروايات وبنفس سلسلة الرواة في سيرة السيدة سكينة لايتعدى كونه من اضافات البعض ممن باعوا انفسهم للشياطين من اجل اعلاء شان بني امية والحط من سيرة ائمة اهل بيت النبوة ولا يخفى الغرض السياسي من وراء ذلك واذا كان كتاب فاطمة المرنيسي المكتوب اصلا باللغة الفرنسية من قبل امراة عربية تعيش في باريس وتم ترجمته من قبل المحامي عباس عبد الهادي يتحدث عن قضية المراة في المجتمع العربي فما دخل علي (ع ) ولماذا تنعته المؤلفة بالبائس في قضية استعراضها لقصة سكينة المزعومة هل تعرف المؤلفة من هو علي بن ابي طالب ؟ هل نعتته بهذا الوصف لأن عليا لم يك يريد الوصول السلطة قدر مايريد احياء الشريعة المحمدية التي بدات تتلاشى ملامحها بطغيان بني امية واستهتارهم بقيمها ، هل كان ذنب علي انه حاول ايجاد العدالة التي يريد اضاعتها خصومه ولم يلتمس طريق الاحتيال والمهادنة من اجل الحفاظ على كرسي الحكم او السلطة ووالله لقد قالها ابو الحسن في نهج البلاغة " ما معاوية بادهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس ، والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة " فهل كان على علي ان يغدر ويفجر كي لا يصبح خليفة بائسا في نظر المؤلفة ؟ ان هذا حقيقة من المضحك المبكي في زمن يعتبر الغدر والمداهنة والاحتيال سياسة ونظرة حكيمة في حين ان اصحاب الحق والطريق المستقيم هم مجرد سذج وبائسون اليس هذا من العجب العجاب ؟
القضية الثانية هي كتاب الحسين (ع ) الى معاوية ولا ادري من اين جاءت به المؤلفة المتبحرة في تاريخنا الاسود فهي تخلط بين صلح الحسن وقضية الحسين عليهما السلام وهذا الصلح كان ضمن شروط موجودة ومذكورة في كتب التاريخ التي لا يبدو ان المؤلفة تراها ، وعلى الرغم من تجاوز الطرف الاخر ونقضه لشروط الصلح لكن الامام الحسين ظل ملتزما بعهد اخيه الحسن حتى وفاة معاوية لكن الطريف في الامر انها تختصر قضية الحسين عليه السلام وثورته الاصلاحية في امة جدة بحادثة بائسة هي رفض مبايعة يزيد فقط وهكذا في الوقت الذي تريد فيه فاطمة المرنيسي ان ننظر الى التاريخ نظرة ثورية فيما يتعلق بحقوق المراة لكنها في ذات الوقت تتابع وتردد ما تقوله نفس كتب التاريخ التي تنتقدها فيما يتعلق بالعلامات المهمة التي تجاهلتها نفس الكتب لأغراض دنيوية وسياسية ثم لا ادري ما معنى هذا الوصف المتناقض للحسين عليه السلام فكيف يكون احد اكبر الثائرين في الاسلام ومسالما في ذات الوقت كيف يكون الثائر مسالما ، هل يمكن ان نصف الانسان نفسه انه جميل وقبيح في الان ذاته ؟ الا يعتقد الشخص الذي نصف له هذه الاوصاف اننا مجانين او اننا نمزح او نستخف بعقله ،لكنها كتب التاريخ المشوه التي وصلت الينا والتي يعتبرها البعض مقدسة في ان حين انها تمتليء بهراء كهذا ويراد منا ان نصدق كل ما فيها من سخافات .
نأتي الان على قضية فاطمة المرنيسي الرئيسية في قصة السيدة سكينة المزعومة فهي تصورها كأمراة متمردة تجالس الشعراء وتنكر على ازواجها المزعومين مسالة تعدد الزوجات فيما تمتلك وحدها الحق في تعدد ازواجها بالتعاقب الى خمس او ست زيجات كما تقول المؤلفة وتطالب بالحق بالنشوز وترفع الدعاوى وتضرب قيم الشريعة التي جاء بها جدها المصطفى (ص) عرض الحائط وعذرا لله ولرسوله ولال البيت في ان اذكر ذلك لكننا ازاء مناقشة علمية يفترض ان تدفع الحجة فيها بالحجة فهذا التطاول على شخصية عقيلة من عقائل البيت النبوي يجب ان يرد عليها بما يكشف زيف تلك الحقائق المزعومة التي توردها المؤلفة مستخفة بعقل القاريء ومسقطة ما يدور في نفسها على خرافة وجدتها في البعض من الكتب والمصادر المشوهة لحقيقة التاريخ .
ان هذه القصة المزعومة يكذبها العقل والنقل كما يطلق في اصطلاحات الفقهاء ولنأتي اولا على الحقيقة العقلية التي تقول ان ما تقوم به هذه الشخصية الوهمية المفتراة على السيدة سكينة ضمن الظروف التاريخية والبيئة الاجتماعية لذلك العصر لايليق باي امراة مسلمة عادية فكيف يليق بشخصية كبيرة لها مكانتها المتميزة بين المسلمين باعتبارها سليلة البيت النبوي وتربية الامام الحسين الذي ضحى بنفسه واهله وكل ما يملك من اجل استقامة الدين ثم اين كان ذووها مثل الامام علي بن الحسين وابن اخيها الامام محمد بن علي الباقر وال عقيل وال بني هاشم من هذه التصرفات فهي تتزوج وتلتحق بمجالس الشعراء المتهتكين الذين تم اختيارهم بعناية في تلك القصص الوهمية وتمنح حق تولية نفسها وتتزوج ثم يامر هشام بن عبد الملك بطلاقها ان هذا في الحقيقة يدفع ببطلان ذلك كما ان الحسين عليه السلام قد قال عنها "وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ، فلا تصلح لرجل " كما ورد في كتاب إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار : 21 فاذا كانت على هذه الحال مع ما اضافته فاجعة كربلاء من مصائب على هذه السيدة الجليلة فكيف يتفق هذا الامر مع اجتماعها بالشعراء وتعدد ازواجها ؟ نترك الحكم هنا للعقل في تمييز الحق من الباطل .
اما ما يتعلق بالنقل والروايات الواردة في كتاب الاغاني وغيره قالت الدكتورة بنت الشاطىء بعد أن أوردت قوائم الأزواج : واختلاط الاسماء اختلاطاً عجيباً بل شاذاً ، حتى ليشطّر الإسم الواحد شطرين ، يؤتى بكلّ شطر منهما على حدة ، فيكون منهما زوجان للسيّدة سكينة ، فعبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام شطّر شطرين فكان منه زوجان : عبدالله بن عثمان ، وعمرو بن حكيم بن حزام ، أو كما ترجم في دائرة المعارف عمرو بن الحاكم .ولا سبيل هنا أمام ما نرى من تناقض وشذوذ إلى تتبّع حياتها الزوجيّة تتبّعاً دقيقاً يعتمد على اليقين التأريخي ، هذا اليقين الذي يعزّ علينا في التأريخ النقلي بوجه عام ، وهو هنا في موضع زوجيّة سكينة ، أبعد من أن يُلتمس وأعزّ من أن يُدرك أو ينال .
فنحن لا نكاد نحاول ما نبغي من تتبع حتى يلقانا عنت من اضطراب الروايات ، وتناقض الأخبار ، وتعدّد الأقوال ، واشتباك السبل ، إلى حدّ يتعذّر علينا معه أن نستبين وجه الحقّ في هذا الحشد المختلط المشتبك ، وإذ ذاك لا سبيل إلى أن نطمع في أكثر من الترجيح الذي يعتمد على ما نسميه بالطمأنينة النفسية أكثر ممّا يعتمد على مرجّحات منهجية وقرائن غالبة .
لقد كان أمر هذا التناقض في الروايات والأخبار يهون ويسهل لو أنّه توزّع بين مراجع شتى مختلفة ، ينفرد كلّ منها بإحدى الروايات ، فيكون سبيلنا إلى الترجيح أن نختار أقدمها أو آصلها أو أدعاها إلى الثقة على هدي القواعد المقرّرة للترجيح والوزن والمقابلة والتعديل والترجيح . ولكنّا هنا أمام روايات متناقضة تجتمع في المصدر الواحد دون محاولة من مؤلّفها للفصل بينها أو حسم الخلاف فيها ، بل دون كلمة تؤذن بأنّه يحسّ ضيقاً بهذا الخلاف .ففي صفحة واحدة من الأغاني مثلاً تقرأ أربع روايات متناقضة متضاربة سردها أبو الفرج متتابعة ، ثم لا شيء أكثر من هذا السرد .
وإذا بلغ الخلاف في الموضع الواحد أن يكون الأصبغ المرواني أوّل أزواجها في رواية ورابعهم في اُخرى ، ثم لا يشار إلى هذا الخلاف بكلمة واحدة .وإذا بلغ الشذوذ فيما يروى من حياتها الزوجيّة ، أن تلد لمصعب بنتاً تتزوّج من عمّها أخي مصعب ( كما في دائرة المعارف الإسلامية ).وأن يقال : إنّ الرباب بنت امرىء القيس ، التي أهلكها الحزن على زوجها الحسين عام 61 هجرية ، فماتت بعده بعام واحد ، قد بُعثت من قبرها لتشهد مصرع مصعب بعد سنة 70هـ ، وترفض زواج بنتها سكينة من قاتله ( كما في الأغاني وأن تزوّجها ( دائرة المعارف ) عبدالله بن عثمان ابن أخي مصعب وعمرو بن الحاكم بن حزام ، ولا خبر في نسب قريش وأنساب العرب عن وجود أخ لمصعب اسمه عثمان ، أو حفيد لحزام اسمه عمرو بن الحاكم (1).
وقال أيضاً : ونقل صاحب الأغاني رواية عن سعيد بن صخر عن اُمه سعيدة بنت عبدالله ابن سالم : أنّ السيّدة سكينة لقيتها بين مكة ومنى ، فاستوقفتها لتريها ابنتها من مصعب ، وإذا هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ ، وقالت : ما ألبستها الدر إلا لتفضحه .ثم أتبعها أبوالفرج برواية اُخرى عن شعيب بن صخر عن اُمّه سعدة بنت عبدالله : أنّ سكينة أرتها بنتها من الحزامي ، وقد أثقلتها بالحلي ، وقالت : والله ما ألبستها إياه إلاّ لتفضحه .وهكذا بين فقرة واُخرى صار سعيد بن صخر شعيب بن صخر ، وصارت سعيدة بنت عبدالله بن سالم سعدة بنت عبدالله ، كما صارت بنت مصعب بنت الحزامي (2 ).وتتحدّث الدكتورة عن زواج سكينة بعمرو بن حاكم بن حزام فتقول : وعمرو هذا أو عمر هو أخ لجد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام ، زوجها بعد مصعب ، ولا ندري كيف أدركت سكينة إلى أن يصبح في حساب هؤلاء أن تتزوّج من رجلين بينهما ثلاثة أجيال (1) .
وقالت : إنّ الشيعة كما ذكرنا في مطلع هذا الفصل يرفضون الإعتراف بهذه الزيجات المتعاقبة ولا يقبلون منها غير ما ذكروه من زواجها بابن عمّها عبد الله الاكبر بن الامام االحسن ، وعذرهم واضح ، فما كانت هذه الأخبار في تناقضها وتدافعها واختلاطها بالتي تدعو إلى شيء من ثقة وطمأنينة ، وقد رأيناها زوّجت سكينة من عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم ابن حزام ، ثم من عمّ أبيه عمرو بن حكيم .وبعثت الموتى من قبورهم بعد سنين ذوات عدد ، فجعلت الرباب اُم سكينة ترفض زواجها من عبدالله بن مروان بعد قتل مصعب .
وسبقت الزمن فجاءت على مسرح الأحداث بالأجنّة في بطون اُم هاتهم ، حتى جعلت هشام بن عبدالملك ـ الذي ولد بعد مقتل مصعب أو كان رضيعاً في عامه الأوّل ـ يتدخل في حكاية ابراهيم بن عبدالرحمن لمّا أراد زواجها بعد ترمّلها من مصعب بن الزبير . فليس بالغريب أن ترفض هذه الروايات جميعاً ، وقد تعارضت فتساقطت ، وكذّب بعضها بعضاً ، وجاوزت نطاق المعقول (2) قال علي دخيل : والذي عليه الشيعة أنّها لم تتزّوج غير ابن عمّها عبدالله بن الإمام الحسن عليه السلام ، ويوافق الشيعة على زواجها بعبدالله بن الإمام الحسن عليه السلام الذي استشهد في واقعة الطف غيرهم من السنّة ، نذكر من كتب الطرفين : إعلام الورى : 127 للمجدي ( مخطوط ) ، اسعاف الراغبين : 210 ، رياض الجنان : 51 ، مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم : 330 ، سكينة بنت الحسين عليه السلام للمقرّم : 72 ،
وبعد فما الذي تبتغيه فاطمة المرنيسي في النموذج الذي اختارته كخلاصة في نهاية كتابها والذي تبين من خلال البحث انه كان كاذبا ومشوها ؟ نعتقد جازمين ان لدى المرأة في الاسلام حقوقا سياسية لكن ما اختارته فاطمة المرنيسي لم يك من الدقة بحيث يمكن اعتباره نموذجا ناهضا كي يغدو مثلا لحقوق المرأة السياسية في الدولة المعاصرة وهذا ما يتطلب البحث عن نماذج اخرى اكثر تماسكا واكثر واقعية في سيرة التاريخ وهي بالتاكيد موجودة لو تم البحث عنها بشكل واقعي بعيدا عن القصص المفتعلة التي ترويها متون التاريخ المشوه الذي وصل الينا .