ساهمت الحضارة العربية الإسلامية كمختلف الحضارات في وضع لبنة في هرم التقدم البشري، غير أن هذه الحضارة ستعرف أفولا وتقهقرا وتراجعا بمنعرج حاسم في البلاد الإسلامية وهي هزيمة الموحدين في معركة العقاب 609ه/1212م، التي شكلت الفارق وبداية التراجع والانحطاط، غير أن عصبية المرينيين التي تلت الموحدين في أواخر القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر ستعرف استثناء أن احتضنت عالم العمران العلامة ابن خلدون، لكنه عاش غريبا في عصره ولم يدرك معاصروه ما كتبه في مقدمته، وبالتالي عاش في معزل عن قراء عصره ومجتمعه.
عموما ستعيش الحركة الفكرية بالمغرب بعد عصر المرينيين سباتا عميقا وستعرف منعرجا مهما بتحول طبيعة العلوم من جانبها العقلي إلى وضع نقلي جامد وستغلق أبواب الاجتهاد، وهذا التحول ما بين عصر المرينيين /الوطاسيين و السعديين بداية من القرن 16 م ـ الذي يصادف الغزو الأيبيري لسواحل المغربية ـ هو ما عبر عنه محمد عابد الجابري بقوله: "هكذا يكون تاريخ ابن خلدون قد انتهى مع نهاية تجربة ابن خلدون، لقد انتهى تاريخ وحدة العصبية والدولة ليقوم مكانه تاريخ الزوايا والتكايا، تاريخ الانكماش الذاتي والتدخلات الأجنبية العثمانية والاستعمار"، فهذا الكلام يعكس لنا ببساطة مدى التحول الكبير الذي حدث بين هذين العصرين. لقد تغيرت ملامح الغرب الإسلامي ومنها شروط الظفر بالملك بتحوله نحو مفهوم جديد وهي العصبية القائمة على الشرف، مما يدل على تغير مهم جدا حسب الجابري مما يحولنا أيضا لمتابعة ما حصل للعلوم والعلم والفكر، لقد بدأ عصر الانحطاط من هذه الفترة كما يتحدث محمد عابد الجابري في كتابه " فكر ابن خلدون العصبية والدولة" ص 19:" كان كل شيء خلال القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي ـــ يشير إلى أن شمس الحضارة الإسلامية آخذة في الأفول, فلم يكن الناظر أينما توجه ببصره سواء في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، يستطيع أن يستشف أي بريق من نور وبصيص من الأمل، بل انه كان يصطدم في جميع المجالات بحقيقة مرة، تفرض نفسها فرضا، حقيقة التقهقر والتراجع والانحطاط".
لقد وقع جمود في مختلف المجالات كما يذكر محمد عابد الجابري، ومن ذلك الجانب الفكري الذي انصرف إلى الجمود واجترار ما قدمه السلف في العلوم الدينية وانصرافه كلية عن العلوم العقلية(1) فباستثناء حالة ابن خلدون يقول الجابري أن النشاط الفكري في عصره انحصر في جانبين اثنين: الدراسات الفقهية الجامدة التي اقتصر العمل فيها على الملخصات وشروحها وشروح الشروح، والتصوف الذي انقلب من تجربة وذوق ومشاهدة إلى شعوذة وتضليل.(2) وهذا ما سيميز الأوضاع التي تلت المرينيين والوطاسيين بشكل كبير سنلحظه في طبيعة القضايا التي ميزت الحياة الفكرية في عصر السعديين ففي كتاب: "الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين" يعالج محمد حاجي في الفصل الثالث إحدى المواضيع التي ميزت الحياة الفكرية في هذه الفترة، ومن المسائل مسألة التدخين التي يقول فيها الكاتب:" هكذا شغل رجال الفكر في المغرب بمسألة التدخين عقودا عديدة من السنين باعتبارها مشكلا دينيا واجتماعيا وسياسيا، وألفوا فيها نحو ثلاثين كتابا، فضلا عن عشرات الفتاوى والأجوبة والمناظرات، فنصحوا وفتحوا عيونا وعقولا ولو أنهم لم يتمكنوا من إيقاف تيار التدخين الجارف"(3).
الملاحظ من خلال هذا أن طبيعة الإنتاج التي تحدث عنها الجابري في عصر ابن خلدون استمرت ولم تتجدد الرؤى والدراسات، وهذا دليل قاطع على مثل هذه الأمور التي عالجت في الفترة السعدية ومن ضمنها التدخين ومسألته، مما يجعلنا نؤكد على استمرار النقل ومعالجة مسائل تافهة، فغابت الانتاجات العقلية بشكل مثير للاهتمام.
قضية التبغ التي ميزت النقاشات في هذه الفترة عرفت مشادات ومناقشات بين مجموعة من "العلماء" بين محلل لهذه النازلة ومحرم لها. قبل خوضنا في طبيعة النقاشات والكتب والعلماء الذين تناولوا الظاهرة سنحدد الجهة التي دخل منها التبغ، فيذكر محمد حاجي أن السودانيين من حملوا هذه المادة إلى مراكش سنة 1005ه/1597م، ثم إلى فاس بعد ذلك، غير أنه ما فتئ أن انتشرت بالمغرب بشكل سريع، كما دخل التبغ إلى بلاد النيل وانتشر في الشام والجزيرة العربية(4). وقد تطرق لقضية التبغ مجموعة من العلماء بين محلل ومحرم لها ومن الذين حللوا هذه المادة، نجد أحمد ابن محلي في كتيبه " الحكاية الأدبية والرسالة الطلبية مع الإشارة الشجرية"، وقد اصدر قاضي درعة احمد بن محمد البوسعيدي بعد مناقشات الأئمة الذي حرموا هذه المادة مثل : إمام المالكية سالم السنهوري وقاضي تنمبكتو محمد بن احمد بن عبد الرحمن السوداني فتوى يقول فيها: " إن التبغ من نبات الأرض.... إلى غاية قوله: ...أيصح لنا أن نقول بحرمته .."(5) وممن قال بحلية التدخين أيضا أحمد بابا السوداني في فتوى له في كتيبه "اللمغ في الإشارة إلى حكم طبغ"1016ه/1607م وهو من علماء السودان المتفق عليه، ما وصلنا إليه من خلال هؤلاء العلماء الذين حللوا مادة التبغ أنهم كانوا كلهم من مدخنيه ومن البديهي أن يبحثوا له عن شرعية دينية تسمح باستعماله على العكس تماما مع من حرموه،. عموما يبقى هذا النمط هو القائم على نزوات النفس والنقل وهو السائد في التفكير خلال هذه الفترة، كما ترد عبارة : وفي" بعض كتب الشافعية" (6) مما يحيلنا إلى ما قاله الجابري في كتابه العصبية والدولة ص31: على انه "أغلق باب الاجتهاد في الفقه واقتصر الناس على إتباع الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلدين لمن سواهم، بل الأكثر من هذا أن قضية استعمال التبغ تجاوزت نفسها كقضية في المجال الديني إلى قضية قالوا فيها الشعر واستمرت هذه النازلة أزيد من عشر سنوات في الأخذ والرد وما قيل فيها من الشعر :
رأيت الناس قد جنحوا لبلوى وهي والله مفسدة الرجال
دخانا يشربون لكل وقت وعم الخافقين على التوال
أفي المكروه يدخل شاربوه جهارا، أم حرام أو حلال (7)
يتبين لنا من خلال هذا، مدى التأثير الكبير الذي مارسته مثل هذه النوازل على الحياة الفكرية بصفة عامة وفي جميع الميادين ومنها الشعر وغير ذلك من المجالات، كما استمرت هذه النوازل مدة طويلة دون أية نتائج وأية جدوى، وهذا دليل على استمرار نفس النمط في التفكير واستمرار نفس العقلية
ويعتبر كتاب "الإصابة حكم طابة" من الكتب التي ألفت في العهد الأخير من عهد السعديين لصاحبه محمد العربي الفاسي، حيث يعقب عليه محمد حاجي :"بأنه كان يبحث عن وسيلة جديدة لمعاجلة داء التدخين المستفحل يوما بعد يوم، بعد أن تأكد لديه أن الوسيلة الدينية المتبعة آنذاك لم تنتج ولن تنتج، لقيامها على أسس واهية جعلت رجال الدين ينقسمون على أنفسهم بين محرم ومحلل ومتوقف، وشجعت العامة على الإمعان على تعاطي تلك البدعة والتعاطي بها(8)، ويبقى هذا اعتراف ضمني على عدم قدرة الآليات على الإنتاج حتى في مثل هذه النوازل التي كانت الشغل الشاغل للمغاربة عندما كان الأوروبيين يقودون البحر ويكتشفون أغواره وأسرار العالمين.
في الفصل الرابع ينطلق محمد حاجي أيضا ليعالج مسألة وموضوع آخر يجمع الموضوع الأول في علاقته بكونه نازلة ويدخل في باب المناظرات التي كانت بين الفقهاء، وهو موضوع اليهود والإسلاميون، وتعتبر هذه القضية من المواضيع والنوازل التي أسهبت أقلام الفقهاء للتطرق لها وأصدروا في اتجاهاها مجموعة من الفتاوى، لعل ما يجمع هذه النازلة بالموضوع الأول حسب قراءتنا أنها أيضا عكست لنا نمط التفكير الذي استندت الاجتهادات إليه في النوازل التي حكمت عصر السعديين والتي نضعها كما موضوع "استعمال التبغ" في خانة الاجترار في الإطار العام الذي ميز هذا العصر والذي سماه محمد عابد الجابري " بعصر الانحطاط"، غير أنه حمل استثناءات لبروز فقهاء وصلوا من العلم أن أعطوا وقدموا للحياة الفكرية السعدية الشيء المهم.
عموما تعود أصول اليهود في المغرب إلى ما قبل الإسلام، ولكن المغرب سيعرف دخول أعداد مهمة إثر الطرد الذي تعرض له اليهود خلال القرنين 15 و 16 من طرف محاكم التفتيش المسيحي في الأندلس، وانتشروا في كل أراضي المغرب واشتغلوا بشكل كبير في مجال التجارة، بل وتمكنوا في التحكم بدواليب الاقتصاد (9)، مما دفع مجموعة من الفقهاء والعلماء إلى مجافاة اليهود وإصدار فتوى تمنع التعامل معهم وتقضي بتقليص تفردهم. ومن هؤلاء الفقيه محمد بن عبد الكريم المغيلي، الذي ألف في الأمر كتابا ينظر في مسألة التعامل مع اليهود والكتاب بعنوان:"ما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار" ، وقد عارض هذا الأمر معظم الفقهاء في أقطار المغرب ومن ضمنهم الفقيه ابن غازي، مما دفع المغيلي إلى أن يحضر شخصيا إلى فاس ليناظر علماء فاس شفاهة بعدما لم يستطع إقناعهم مكاتبة، غير أن هذه النظرة المتطرفة للمغيلي ستستمر في المغرب طوال العهد السعدي، ومن ضمن الفقهاء الذين ذهبوا في تيار المغيلي أبو القاسم بن حجو في الريف وعبد الله بن علي ابن ناصر الحسن في تافيلالت. من جهة أخرى سيعاتب على أحمد المنصور عن سماحه لليهود من الاتصال ببلاطه، مما خلق امتعاض لدى مجموعة من الفقهاء(10)، هذا ما تعلق بجانب اليهود، أما من جهة اليهود الذي دخلوا الإسلام وُجهوا بتعصب من قبل الأرستقراطية الفاسية في وسطين: وسط العلماء والتجار، حيث أن العلماء الذين عُرف أصلهم اليهودي، فإنهم لا يولون المناصب الشرعية السامية كالقضاء والإمامة والخطابة. من أمثلة هؤلاء: رضوان الجنوي واحمد المنجور ومحمد ميارة. أما في وسط التجار فقد تحزبوا ضد الإسلاميين ومنعوهم من دخول الأسواق الكبرى حتى لا يزاحموهم في الاتجار بها وقد أصدر الفقيه حرزوز فتوى وذهب في اتجاهه التسولي والخروبي لمناهضة الاضطهاد والتفرقة الذي تعرض له اليهود، وسيتزعم هذه الحركة محمد ميارة بتأليفه كتاب:"نصيحة المغتربين وكفاية المضطرين في التفريق بين المسلمين".(12) هكذا شكل موضوع اليهود والإسلاميون إحدى المواضيع التي أسهب في الحديث عنها من طرف الفقهاء بين معارض لهم وممتعض عن وجودهم، بل حتى اليهود الذين دخلوا الإسلام عانوا من التعصب نظرا لأصولهم، بالرغم من ذلك فقد عاش اليهود والإسلاميون كما تحدث الكاتب ص280 " بأن الإسلاميين والمهاجرين في العهد السعدي لقو من عطف إخوانهم في هذا البلد ما جعلهم يندمجون في الوسط المغربي اندماجا كليا، باستثناء طغمة منحرفة من أهل فاس لم تعدم من يقوم اعوجاجها بالقلم والسيف حتى من بين الفاسيين المتنكرين للعصبية الجاهلية. بل إن اليهود أنفسهم تمتعوا بهذا العصر بشيء غير قليل من الطمأنينة وأرغد العيش بين أظهر المسلمين في الحواضر والبوادي، واحتلوا مناصب مهمة في تسيير شؤون التجارة الخارجية لدولة..."
أخيرا شكل موضوع استعمال التبغ وموضوع اليهود والإسلاميون، مجالا خصبا وجد فيه الفقهاء متنفسا للمناظرة، غير أن الواقع الذي أصبحت عليه بنيات المجتمع المتخلفة منعت الفئات النابهة من أي حركة لتطوير مجالات العقل ومن ضمنها وعلى رأسها الفلسفة.
(1): محمد عابد الجابري، العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط5، 1994، بيروت، ص30
(2): نفسه
(3): محمد حجي، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، ج1، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، ص 266
(4): نفسه، ص247
(5): نفسه، صص 248-249
(6): نفسه، ص 252
(7): نفسه، صص254-258
(8): نفسه، ص261
(9): نفسه، صص 267-268،
(10): نفسه، صص270-272
(11): نفسه، ص274
(12): نفسه، ص275-279