قد يبدو العنوان مثيرا نوعا ما، ولكن الأمر له مسوغاته النظرية، والمنهجية، والسيكولوجية الخاصة بالمؤرخ وهو يقدم على ترجمة إصدار علمي حديث لم تَسلَم صاحبته بجامعة كاليفورنيا من مكابدة البحث فيه، وخوض "لعبة الهوامش المعقّدة"(ص30) في الكتابة التاريخية.
صدر الكتاب مترجما في إطار المشروع الأكاديمي العلمي "المغرب ومحيطه المتوسطي، نصوص وترجمات" والذي يطمح إلى النهوض بأعمال الترجمة ونشر الأعمال البحثية الرصينة بدعم مؤسساتي جامعي عبر-أطلنتي، وبمبادرة من مؤرخين وباحثين مرموقين في الجامعتين المغربية والأمريكية (في لوس أنجوليس).
الكتاب من تأليف أستاذة التاريخ الأمريكية ألما راشيل هيكمان، وقد أعدته قبل سنتين فقط (2021) بمثابة أطروحة خاصة بها بجامعة كالفورنيا حيث تعمل أستاذة مساعدة في قسم التاريخ، وترجمة المؤرخ المغربي خالد بن الصغير(طبعة أولى2023- دار أبي رقراق للطباعة والنشر) عدد صفحاته كاملة 431، ويضم بين دفتيه إلى جانب توطئة المترجِم، مقدمة بفصل تمهيدي، وخمسة فصول، ثم خلاصة، وخاتمة، إلى جانب بيبليوغرافيا ثرية جدا وبلغات مختلفة (من الصفحة409إلى الصفحة428).
عناوين الفصول كما جاءت في الكتاب :
الفصل الأول :
الخيارات: الفاشية ومناهضتها في المغرب بين الحربين، وفيه رصد لمعطيات حول الطائفة اليهودية بالمغرب من الجوانب الديمغرافية، والمهنية، وموقعها ضمن أحداث تاريخية كبرى وحاسمة تمتد من لحظة فرض الحماية(الفرنسية والإسبانية) ومخاض الحركة الوطنية فترة الثلاثينات، والموقف من مسألة معاداة السامية بالنسبة للتنظيمات السياسية المغربية والأوربية (الفرنسية) ومن الفاشية .
الفصل الثاني:
الفرص والاحتمالات: الحرب العالمية الثانية وانتماء المغاربة اليهود، ويشمل تقديما، وتحليلا للأوضاع التاريخية فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وانعكاساتها على المغاربة اليهود (نظام فيشي –عملية الشّعلة –الشيوعية والصهيونية والحركة الوطنية..)
الفصل الثالث:
تكتيكات: اليهود والاستقلال المغربي، ويعرض عوالم اليهود المغاربة في الميادين الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، ورهاناتها الوجودية حتى مطلع الاستقلال .
الفصل الرابع:
الشظايا: خيبة الأمل وحياة اليهود السياسية في المغرب الجديد،
وقد توقفت فيه المؤلفة عند ظروف ما بعد الاستقلال، واختيارات المغاربة اليهود ضمن مخاض الصراع السياسي وتقاطباته التي طبعت المرحلة، وموقف شخصيات من المغاربة اليهود من أحداث مفصلية وعميقة امتدت إلى ما بعد أزمات فترة السبعينات.
الفصل الخامس:
بين التعايش والتعاون: الحرب الباردة المغربية إسرائيل وحقوق الإنسان، وتبرز فيه تحولات لحظة استكمال الوحدة الترابية، ورهانات القوى السياسية، ثم صفحات حول جوانب ذات صلة بالمجال الحقوقي والحريات انتهاء بتجربة العودة وإعادة الاصطفاف.
خاتمة الكتاب تعرض أشكال حضور التجربة التي عاشتها شخصيات فاعلة من المغاربة اليهود في الأرشيف المغربي وفي الذاكرة الوطنية، والصور التي رافقتها لمرحلة معينة متأثرة بأحداث وطنية أو جهوية أو دولية، حيث كان التجاذب بين الجموح السياسي وإرادة الانتماء والتمسك بالهوية المغربية يرسم ثنايا تلك الصور وأبعادها المركبة .
النافذة التقديمية للكتاب وضعها المؤرخ خالد بن الصغير، وتمنح للقارئ المتخصص(وغير المتخصص) الكلمات المفاتيح التي تقوده في رحلة قراءة الكتاب، كما تضعه في الإطار العام للكتاب فكرةَ لدى مؤلفته الأصلية، ثم أطروحة جاءت بمعطيات جديدة وحقائق إضافية، ومشروعا للترجمة .
كما تعرض الصفحات التقديمية للمترجم الدوافع الذاتية، والبحثية، والعلمية، التي ساهمت في شد الانتباه إلى كتاب ألما هيكمان، والاقتناع بجدوى وأهمية ترجمته، خاصة وأن المؤرخ خالد بن الصغير قد أغنى الخزانة التاريخية المغربية والعربية بشكل عام بترجمات سابقة وحدتُها الجامعة هي دراسة تاريخ طائفة المغاربة اليهود، وتتبع تحولاتها على مدى زمني طويل يمتد من حدود القرن الثامن عشر للميلاد إلى عشرينات القرن العشرين، لتصل مع كتاب يهود السلطان تحت سماء الشيوعية إلى مرحلة الحماية والنضال والوطني من أجل الاستقلال ثم الاستقلال والزمن الراهن.
يكشف المترجم أهمية الدراسة منهجيا وموضوعاتيا، مع إبراز استناد المؤرخة هيكمان على مصطلح تاريخي كان من ابتكار "دانييل شروتر" وصياغته تحت اسم "يهودي السلطان" حيث استطاع، ومن خلال شخصية "مايير مقنين" التاجر السلطاني اليهودي دراسة جزء مهم من تاريخ الطائفة اليهودية وعبر مختلف أبعادها، وفي علاقتها بالمخزن المركزي(أنظر يهودي السلطان، المغرب وعالم اليهود السفرد،2011). فيصبح بذلك مصطلح "يهودي السلطان" بوصلة، وخيطا رابطا في بناء الخطاب السردي التاريخي الذي أنجزته هيكمان وهي تعالج موضوعا صعبا وشائكا يبرز علاقة الجماعات اليهودية المغربية من خلال" أقلية داخل أقلية" بوطنهم الأم المغرب، وفي ظل تطورات تاريخية عميقة كانت بلدان شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط مسرحا تاريخيا لأحداثها، وتتبع تلوينات ذلك المصطلح، بكل ثقله التاريخي، وتحولاته امتدادات، وتقلصات، وانقطاعات، وابتكار مصطلح خاص بالمؤرخة هيكمان"شيوعيّي السلطان" منتهية - بتعبير المؤرخ خالد بن الصغير في تقديمه للترجمة- إلى اكتمال الدائرة التي يوجد طرفها الأول في حقبة ما قبل الاستعمار والثاني بعد الاستقلال وتأكيد صمود العلاقة القائمة منذ أمد بعيد بين السلطان ورعاياه اليهود(ص13).
أما اختيار العنوان عند الترجمة فقد كشف المؤرخ على أن في الأمر ابتعاد عن الركاكة المترتبة عن الترجمة الحرفية للعنوان الأصلي، وصياغة مختصرة دالة حضر فيها الإلهام على نحو لم يكن متوقعا بأمل أن يتقبلها القراء والمهتمون(ص14).
إن المقاربة التاريخية والمنهجية التي جاءت بها الباحثة هيكمان، حيث الدراسة تسير في الظاهر عبر بيوغرافيا شخصيات فاعلة من المغاربة اليهود (جرمان عياش-أبراهام السرفاتي- شمعون لفي-إدمون عمران المالح- ليون روني سلطان- سيون أسيدون) وفي عمقها بحث في جزء من تاريخ الجماعات اليهودية المغربية وتموجاته المعقدة بمعطيات جديدة، كفيلة بأن تجعل قراءة كتاب "يهود السلطان تحت سماء الشيوعية" رحلة معرفية مثيرة واستكشافا تاريخيا مفيدا وشيقا، قد نعود لتفاصيله وخلاصاته في مناسبة أخرى .