قدم الأستاذ رشيد بوطيب ترجمة لكتاب محاسن التاريخ ومساوئه للفيلسوف فريدريك نيتشه (1844-1900) وهي إضافة جديدة تغني وتثمر المكتبة العربية، ذلك أن سؤال التاريخ الذي طرحه نيتشه في القرن التاسع عشر لما له من أهمية كبيرة في تقدم الشعوب لا يزال بعيدا في وطننا العربي، وذلك بحكم هشاشة المجتمع الذي يقدس الأموات أكثر من الأحياء ويضفي الهالة القدسية على أشخاص لا يفيدون البشرية في أي شيء، سوى أنهم يضعفون الحياة.لذلك فإن تأملات نيتشه هي دعوة إلى إعادة اكتشاف ملكة النسيان باعتبارها ضرورية للفرد، الشعب، الثقافة، لأنها تساعد على تحرير الحاضر من وطأة الماضي وتحرير الحياة من هيمنة الذاكرة.
يبدأ نيتشه الكتاب بعبارة(لغوته)يقول فيها:
"أكره كل ما لا يفعل أكثر من حشوي بالمعلومات دون أن يرفع نشاطي أو يحييني بشكل مباشر."وهذا الكلام في حقيقة الأمر لا ينطبق على المجتمعات الغربية فقط، وإنما ينطبق أيضا على واقع المجتمع العربي المريض بحمى تاريخية متهالكة، قاتلة ، لأنه لا يستطيع أن يتصور نفسه خارج التاريخ، فيكون بذلك مثل الجمل يحمل أثقالا تعذبه وتسلب منه الحاضر الذي يستحق أن يبذل قصارى جهده من أجله.
يقول نيتشه:تأمل القطيع بالقرب منك،إنه لا يعرف ما الأمس،وما اليوم،يلتهم العشب ويخلد إلى الراحة لكي يهضم ما مضغه، هكذا من الصباح حتى الليل،يوما بعد يوم وكيفما كانت لذته وألمه فلن تجده مكتئبا ولا سئما،عكس الإنسان الذي يتألم جراء أحداث الماضي.إنه يتباهى في كثير من الأحيان بإنه أفضل من الحيوان لأنه إنسان، لكنه في الآن نفسه ينظر إلى الحيوان وهو سعيد ويتألم من ذلك. فأي مثال أفضل من هذا لكي يعبر نيتشه عن عمق الكارثة التي أصابت إنسان هذا العصر.
إن الحيوان بتعبير نيتشه لديه القدرة على نسيان آلامه ومعاناته ،هذا على غرار الإنسان الذي لم يتمكن إلى حدود اللحظة من تعلم النسيان، فهو يظل متشبتا بالماضي الذي يوجعه،يؤلمه،وسواء ركض بعيدا أو مشى مسرعا إلا أن القيد يمشي معه، فقد تختفي لحظة من لحظات عمره لكنها تعود مثل شبح لتقلق راحة اللحظة القادمة. صحيح أن الإنسان يتألم لأنه يتذكر، لكنه أيضا يشعر بالغيرة من الحيوان الذي ينسى بسرعة البرق.
يقول نيتشه: "إن الحيوان لا يحسن التظاهر ولا يخفي شيئا، فهو يظهر في كل لحظة ودائما كما هو، والسبب في ذلك أنه لديه قدرة رهيبة على نسيان آلامه، هذا على غرار الإنسان الذي يربط حاضره بماضيه ولا يستطيع أن يتصور نفسه خارج الماضي،إنه يتظاهر بالفرح أمام أصدقائه وذلك لكي يثير غيرتهم، لكنه رغم ذلك لا يستطيع أن ينسى تجاربه وآلامه..
يدعونا نيتشه عبر تآملاته الى النظر في ذلك الطفل الصغير الذي يلعب بلعابه،إنه لا يعرف معنى الآلم، يأكل ،يشرب، ينام، لكنه لا يتذكر أي شيء،يعيش الحاضر،يبتسم ،يضحك ولا يبالي بتفاصيل الماضي ولا الحاضر،لكن بعد مرور الأيام وتوالي السنين سيتم إخراجه من حالة النسيان هذه وسيذرف الدموع دون مقابل، آنذاك سيأتي الموت لكي يسلب منه الحاضر ويخطف منه كل ما هو جميل.صحيح أنه يسعى جاهدا لبلوغ السعادة،لكنه رغم ذلك يظل مكتئبا طوال حياته.إن الذاكرة تؤلمه، توجعه مهما حاول التخلص منها،إنها تسلب منه الحاضر والمستقبل فتجعله يدور في حلقة مفرغة،لكي يصبح مثل سيزيف الذي بمجرد ما يصل الى قمة الجبل حتى يعود إلى الأسفل.
يقول نيتشه:"من الممكن أن نعيش بدون ذكرى تقريبا لكن من المستحيل أن نستمر في الحياة دون نسيان". إن الإجترار التاريخي كما يشير إلى ذلك نيتشه يضر بالكائن الحي ويمكن أن يقتل ثقافة،أو شعب بأكمله.إنه بمقدوره أن يقتل الحياة ذاتها، لذلك يدعونا نيتشه عبر تآملاته إلى استنشاق هذا الجو اللاتاريخي الذي سيمكننا بدوره للإرتقاء إلى مستوى فوق-تاريخي. إننا بتعبير نيتشه لا نستطيع أن نتخلص من عبئ الماضي إلا إذا ارتقينا الى مستوى فوق-تاريخي،لذلك نجد نيتشه يميز بين ثلاثة أصناف من التاريخ يمكن تصنيفها على الشكل التالي.
التاريخ الآثري
التاريخ العادياتي
التاريخ النقدي
إن التاريخ الآثري والعادياتي لا يمنحهما نيتشه أية قيمة، هذا على غرار التاريخ النقدي الذي يؤسس لعلاقة حبية مع الحاضر. إنه لا يخاف من التغيير،فهو يتمرد على كل ما هو قديم ومهترئ. إن التاريخ النقدي يتمرد على الأعراف التقليديه والعقائد الدينية الجامدة،والسياسات المهترئة، إنه بعبارة أخرى لا يقدس الماضي،بل يسعى إلى أشياء راهنة جديدة، فكل ما يولد حسب نيتشه يستحق أن يندثر ويزول.
يقول نيثشه في ثنايا الكتاب:"إن الإنسان يحتاج الى القوة واستعمالها من حين لآخر من أجل تحطيم ماض قديم ونقضه حتى يتمكن من الحياة.إنه أمر يحققه عبر جر هذا الماضي إلى المحكمة والتحقيق معه بصرامة وذلك من أجل رد الإعتبار للحاضر الذي يعتبره نيتشه بمثابة المختبر الذي يصنع فيه التاريخ.إننا بتعبير نيتشه لا نحتاج إلا الى الزمن، لكن إلى كثير من الزمن لكي ينهار عالم ما ولن نحتاج كذلك إلا الى زمن أكبر لكي يندثر هذا التطور التاريخي في ألمانيا.
يدعونا نيتشه عبر تآملاته لكي نتأمل في المناهج المدرسية التي تدرس في المعاهد العليا والجامعات،إنهم يتعلمون ما الثقافة؟ لكنهم لا يتعلموم ما الحياة؟ يتعلمون من الشخصيات التاريخية ولا يتعلمون من الحياة،وهذا أمر محزن حقا ومقرف للغاية.
يجب على المجتمعات العربية أن تستفيد من الدرس النيتشوي لا سيما في مجال التعليم حيت لا يزال هذا القطاع يحتقر الحياة ويقدس الأموات أكثر من الأحياء.إن تأملات نيتشه هي دعوة صريحة للتخلص من عبئ الماضي الثقيل،إنها محاولة للتصدي لكل ما يعيق تطور الحاضر ،وهو من ناحية أخرى ثورة على المرض التاريخي الذي يقتل الحياة ويسجنها في قفص مغلق.إن اللاتاريخي أو فوق-تاريخي هو اللقاح الذي يفترضه نيتشه للتخص من عبئ الماضي،الذي يعني ببساطة القدرة على النسيان، إنه أشبه بزلزال مرعب يدمر المدن ويمسحها لكي تولد الحياة من جديد..