تُحدث هزائم الشعوب والأمم في المعارك والحروب المختلفة، حتى لو كانت "غير عادلة"، جروحاً في ذاتها لا تندمل إلا بانتفاء الهزيمة في حرب جديدة أو بنهضة اقتصادية علميّة تغطّي هزيمتها. ويُعلمنا التاريخ المُعاصر درسيّن مختلفين لهزيمة في حرب واحدة لكل من ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى (1914- 1918) التي قبلت بها في "معاهدة فرساي" في الثامن والعشرين من شهر تموز لسنة 1919 وتم تعديلها في العاشر من كانون الثاني لسنة 1920، والإمبراطورية العثمانيّة النهبويّة التي قبلت بها تركيا "معاهدة سيفر" في العاشر من شهر آب سنة 1920 ووقع عليها "كمال أتاتورك" في 29 تشرين الأول سنة 1923. في الاتفاقية الأولى حمّلت الدول المُنتصرة ألمانيا مسؤولية شنّ الحرب وفرضت عليها دفع تعويضات للدول المُتضررة. وفي الثانية قامت الدول المنتصرة بتفكيك الامبراطورية العثمانية. إضافة للهزيمتين اعتبرت كلاً من الدولتين الاتفاقيتين مُذلّتيّن، وبأنهما مستّا بكرامة أُمتيهما، وخلفتا جرحاً عميقاً في ذات كل أمة منهما. ورغم مرور قرن على الهزيمتين، لا تزال كلاً من ألمانيا وتركيا تعانيان من هذا الجرح وتحاولان الشفاء منه، كلّاً منهما بطريقتهما الخاصة وبنتائج مختلفة. ويجب التأكيد هنا على أن هزيمة العثمانية اعتبرها المسلمون في العالم هزيمة لهم نتيجة لتآمر الغرب المسيحي على الإسلام وليس لصيرورة قوانين الصراع الطبقي والجيوسياسي.
حاولت ألمانيا استعادة كرامتها وإشفاء ذاتها الجريحة في مشروع التصنيع المكثف الذي أعقب هزيمتها في الحرب العالميّة. وقام النازيون الذي وصلوا إلى سدّة الحكم في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي بشنّ الحرب العالميّة الثانية (1939- 1945) ضد الدول الأوروبية التي "أهانتها" في "اتفاقية فرساي" والاتحاد السوفياتي (...). لكن حسابات البيدر خالفت حسابات الحقل حين هُزمت مرة ثانية أمام الاتحاد السوفياتي والحلفاء، الأمر الذي حوّل الجرح إلى ندوب أُجبر الألمان على إخفائها وكبْتها تحت عنوان مقاومة اللاساميّة التي كانت أحد التفاصيل الثقافية في سيرورة الحرب وليس أسبابها. وما نشوء اليمين الألماني العنيف والحركات النازية الجديدة إلا محاولات لا تزال تُكتم بشدّة للاستئناف على نتائج تلك الحرب وعلاج الذات الجريحة. ومن نتائج هذه الحرب أنها حظرت على الألمان الحداد والبكاء على خسارتهم الكبيرة لكنها لم ولن تتمكن من كتم غيظهم وغضبهم. وتم غرس عقدة الذنب تجاه اليهود في الأمة الألمانية مع استثناء الغجر منها والأقليات الأخرى والسوفيات ضحايا النازية. وجاءت على حساب عرب فلسطين نتيجة لدعم ألمانيا للكيان الصهيوني. وما الحديث عن خلايا نازية في الشرطة والجيش والعديد من المؤسسات وتجمعات الأفراد في المُجتمع الألماني إلا دليلاً على هذا، ويُعتقد أن تحولها إلى حالات أكثر شيوعاً وانتشاراً أو انفجارها مُستقبلاً ليس بالأمر المستبعد (...).
أما تركيا الكمالية فقد حاولت تجاوز هزيمتها في مشروع علمنة يعتمد على دعم الجيش والعسكر بواسطة فصل الدين عن الدولة واستبدال العديد من المظاهر الإسلاميّة بمظاهر أوروبية والحروف العربيّة بالحروف اللاتينية التي يمكن وصفها بالكارثة الحضارية. إضافة لهذا بدأت تركيا الكمالية بتصنيع بدأت نتائجه الفعلية والفاعلة في سبعينيات القرن الماضي. لكن أخطر ما حدث في تلك المسيرة هو انضمام الإسلامي "عدنان مندريس" لحلف "الناتو" سنة 1952 ووقوفه إلى جانب حلف بغداد سنة 1956 ضدّ المشروع العربي الناصري. أي أنها تموضعت إلى جانب "إسرائيل" وأمريكا ضد طموحات الأمة العربية. واستمر تفاعل عداء الإسلام التركي للعرب لتصل ذروته في الحرب على سورية ومحاولة إسقاط جيشها العربي والدولة. ويمكن القول إن عداء تركيا الإسلامي للعرب بات يتمفصل مع المشروع اليهودي- الصهيوني.
اعتبر العرب المُسلمون أنفسهم أكثر المتضررين من تلك الهزيمة لأنهم يقولون إن العثمانيّة هي الوريث الشرعي لما انبثق عن الإسلام العربي بنشأته، وانهيارها هو انهيار قمة ما أنتجوه وبنوه في تاريخهم. وعليه إن جرح ذاتهم كان عميقاً وبالغ الحساسية كلّما اقترب أحدهم بالنقد لمؤسس دينهم ودولتهم في أشكالها المختلفة. وباتت استجابتهم عالية جداً لكل من يدعي أنه يدافع عن النبيّ أو يقدح به، وهذا ما نلاحظه في الأزمة الأخيرة التي جرت أحداثها في فرنسا، لذا وقف معظم العرب المُسلمين إلى جانب تركيا الإسلامية بزعامة الغوغائي أردوغان الذي بدل أن يسهم في عمليّة علاج جرح الذات وإشفائها، بات يستغلها في مشروعه "العثماني" لإلحاق الأقطار العربيّة إلى تبعيتها، وبات هو زعيم مُسلمي العرب الذي تُرفع صوره وأعلام تركيا في كلّ من سورية والعراق وليبيا واليمن وقطر والصومال والأردن وفلسطين التي كانت أكثر المُتضررين من الاستعمار العثماني.
* * * *
لم تكن صحيفة "يولاندس بوستن" الدنماركية تعلم أن نشرها 12 صورة كاريكاتورية للنبيّ محمد في 30 أيلول 2005 ستتحوّل مع الزمن إلى ينابيع يغرف منها الإسلام السياسي (أردوغان) والخلايجة واليمين العالمي وصواريخ لتضليل وعي المُسلمين في محاولة اقتسام تِركة الربيع العربي (من الآن فصاعداً: خريف العرب). وتصور أحداث وتداعيات قيام مدرس فرنسيّ بعرض صور النبيّ محمد التي يعتبرها غالبيّة المُسلمين "مسيئة" على مرأى من صفّ دراسي في مدينة نيس الفرنسيّة وقيام مهاجر شيشاني بقطع رأسه في السابع عشر من شهر تشرين الأول لسنة 2020 مدى الألم الفعلي والمُتوّهم الذي يعاني منه فقراء المُسلمين وبسطائهم عندما يتمّ المسّ "بأقدس" رموزهم الدينية. ومنذ تلك اللحظة لم تتوقف هذه القوى عن تبادل الصواريخ محرضة فقراء المسلمين تحديداً الذين يعانون أكثر من غيرهم من جرح الذات ضدّ قيم الحداثة الأوروبية ومفاهيمها التي باتت تصدّ أبوابها أمام قيّم الاختلاف والكرامة التي يطالب بها غالبية المُسلمين. لكن الحقيقة والأهداف غير المُعلنة لكل هذه القوى هي جوهر ما يدور من صراع على تركة خريف العرب كما أشرت قبل قليل. والشيشان التي أراد لها بريجنسكي أن تكون جزءاً من الحزام الناسف لتدمير الاتحاد السوفياتي حاولت أيضاً أن تكون حزاماً ناسفاً ضد روسيا الاتحادية لولا صلابة وحزم روسيا البوتينية.
سرعان ما بدأت ردود الفعل على "الإساءة" للنبي محمد وجزّ رأس المدرس الفرنسي تغرف من فكر اليمين الفاشي الشعبوي. فـ"ماكرون" غلام بيوتات المال اليهودية ورئيس فرنسا بسعيه للإطاحة بما تبقى من دولة الرفاه الاجتماعي اعتبر غضب المُسلمين ودخان الأرجيلة التي ينفثها "أردوغان" في وجه فقراء وبسطاء المُسلمين تحديّاً لقيم الحداثة الأوروبيّة و"فاشيّة إسلاميّة" وإرهاباً (بالمناسبة: جرائم النازية والفاشيّة تتقزم أمام جرائم فرنسا في مستعمراتها السابقة والحاليّة) وقد انضم إليه فيما بعد الرئيس الأمريكي "ترامب" الذي أكد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب فرنسا في المعركة ضد "التطرف الإسلامي"، معتبراً أنه "لم يعد ممكناً أن تتسامح معه" أية دولة .
أما "أردوغان" الزعيم الإسلامي لتركيا التي تريد الاستحواذ على التركة التي خلّفها دمار خريف العرب المُندلع منذ سنة 2011 و"استعادة" بعض مستعمراتها السابقة فقد تنطّح "للدفاع" عن النبيّ محمد بإطلاق صواريخ تضليل وعي فقراء وبسطاء المُسلمين واستلاب وعيهم بالإشارة إلى ماضٍ مجيد له بينما احتجز تطور العرب وملايين المُسلمين ونهب ثرواتهم لأكثر من خمسة قرون على حساب صراع اجتماعي- طبقيّ حقيقي وأنها- أي تركيا المعاصرة- هي الحامي لمقدساتهم ونبيّهم أمام الغرب الإمبريالي الذي يُمعن في المسّ بكرامتهم وذاتهم الجريحة. وسرعان ما انضم زعماء الخليج ينافسون "أردوغان" على التعمية واستلاب الوعي الذي يقوم به. وبدأوا بمطالبة المُسلمين بمقاطعة المنتوجات الفرنسية (...). والإمارات الإسلاميّة السبّاقة لإقامة تحالفات عسكرية مع "إسرائيل" ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية كان أول غيثها توقيع عقود لشراء النبيذ من مُستعمرات الضفة الغربيّة. هللويا !
بهذا يكون كل من "أردوغان" والخلايجة و"ماكرون" و"ترامب" قد وضعوا محددات النقاش وسقفه - تضليل الوعي بين المُسلمين والأوروبيين، تحديداً اليمين بينهم الذي تزداد قوته بفعل الأزمات الاقتصادية- الاجتماعية- النفسية التي أحدثتها جائحة كورونا في ظل الغياب المتفاوت للدول الأوربية. ووضعوا بهذا فقراء وبسطاء المسلمين والأوروبيين (والأمريكيين) في مواجهة ضدّ مصالحهم التي تقتضي تحالفهم بوجه اليمين التركي والخليجي والأوروبي والأمريكي .
ودخلت إلى مستنقع هذا النقاش نُخب وعوام من المُسلمين والأوروبيين. وللحقيقة لم يكن نقاشاً بقدر ما هو صراخ وتقاذف الطرفين شتائم وأكاذيب وشعارات ومقولات لا تعبّر عن جوهر ما يحدث، لذا لا يهم هنا ادعاءات كل طرف لأنها تفتقر إلى الوجاهة، خاصة وأنها ليست عامة وعادلة ومتساوية. فالمسلمون الذين يرفضون المسّ بنبيهم هم الذين يملؤون الفضاء الإعلامي والتربوي بالقول إن كتابيّ اليهود والمسيحيين محرّفان. والأوروبيون الذين يدعّون قيم الحداثة والمساواة يرفضون شمل عدم المسّ بمشاعر المُسلمين أسوة بمشاعر اليهود في قضية ما جرى لهم في الحرب العالمية الثانية. والطرفان هما من أنتج أكبر تجمع إرهابي من المُسلمين وأرسلوهم لجزّ الرؤوس وبقر البطون وقتل مئات آلاف المسمين وغيرهم في سورية. لذا فإن مسلسل أكاذيبهم طويل طول ليل العرب. وعليه إن الصراع بينهم هو الصراع على تركة خريف العرب، أي أن الخلاف على الاستحواذ على أقطار الوطن العربي ومقدراته هو المحرّك الفعلي. ففرنسا التي سارعت إلى تدمير ليبيا وجدت تركيا منافساً لها بواسطة الإخوان المُسلمين الذين ترعاهم. وفرنسا لا تزال ترغب برعاية مفخخات الطوائف في لبنان. ويعمل الأمريكان الذين ينضم إليهم اليهود باستغلال وابتزاز الخلايجة. وترفع تركيا شعار الدفاع عن النبيّ محمد رغبة منها بردّ المسلمين وأوطانهم إلى حظيرة خوازيق وفلقات آل عثمان. بينما ينظم أتباع حزب التحرير الإسلامي مظاهرة في رام الله رفعوا فيها لافتة مكتوب عليها: يا جيوش المُسلمين فتح باريس هو الردّ. هللويّا!
الحرص على مشاعر المُسلمين ليست بردود الفعل الغوغائية والعنيفة، بل بفكّ التبعيّة عن التركي والأمريكي والفرنسي واستعادة السيادة في أوطان حرّة ومواطنين أحرار ينعمون ويشبعون من خيرات أوطانهم كيّ لا يضطرّ بعضهم إلى تقديم نفسه طعاماً لأسماك البحر أثناء بحثه عن رغيف خبز في أوروبا. والتوقف عن الحنين إلى فَلَق آل عثمان وخوازيقهم.