أثناء رحلة إلى الخارج سنة 1863 خطرت للأديب الروسي دوستويفسكي فكرة تأليف روايته الشهيرة (المقامر)ليعرض من خلالها تجربته مع القمار، ويوجه الانتباه، كعادة الأعمال الأدبية الخالدة، إلى ما يجوب أغوار الذات الإنسانية من أحاسيس وانطباعات تزكي المقامرة باعتبارها تمردا، وتمنح المقامر فرصة التحرر من ضغوطه. يعبر دوستويفسكي عن ذلك بقوله:" لا يبقى ههنا دلالة لقولك أن اثنين واثنين تساوي أربعا. إن القمار هو التجربة الأولى للحرية في العالم المادي".
يكشف تاريخ القمار عن صلته الوثيقة باستكشاف المجهول وقراءة المستقبل، لذا أحيطت أوراق اللعب بهالة من السحر، والإيهام بتبديد مشاعر الضياع والغربة. فالمقامر بإدمانه اللعب يقع تحت تأثير الأرقام والمفردات، و الصور الغامضة التي تشل تفكيره المنطقي، وتغذي إيمانه بالمصادفة و اللامنطق. وهنا يفقد الجهد الإنساني وجاهته كضرورة للإنجاز وتحقيق الطموح .
يرد بعض اللغويين أصل كلمة القمار إلى أسلوب ينتهجه بعض الصيادين لصيد الظباء أو الطير، فيقال: تقمر الصياد الظباء والطير أي سلط على أبصارها نارا، حتى إذا عشاها قمرت أبصارها فصادها. ولا يختلف المدلول كثيرا عما يجري في النوادي وصالات الألعاب، إذا تتبعنا الحجج التي يستسلم لها المقامر لمواصلة اللعب حد الإفلاس ودخول السجن أو الانتحار !
تتنازع المقامر رغبتان تجددان حرصه على اللعب: توق شديد للمخاطرة التي تشعره بالسعادة، وإحساس عميق بالذنب والخجل، ينتهي في الغالب بالاستسلام. وسرعان ما تتحول نشوة اللعب إلى اضطراب نفسي حين تتساهل المعايير الاجتماعية مع القمار باعتباره سلوكا مقبولا، ورديفا للقيمة التي بدونها يصبح العالم ميتا. إنها اللحظة التي يعتبرها شوبنهاور إعلانا عن إفلاس الذكاء البشري، وتقديم المجتمع الإنساني برمته قربانا لتناقضات الرأسمالية !
لعل أدق وصف للآثار المترتبة عن القمار ما حكاه المؤرخ تاسيتوس عن القبائل الجرمانية التي كان أفرادها يراهنون على زوجاتهم وأطفالهم وحتى على أنفسهم، وتؤدي الخسارة بالمقامر إلى العبودية. ويبدو المصير مشابها إلى حد كبير حين تفضي المقامرة إلى الإدمان، واللعب القهري الذي يندرج ضمن أمراض عدم السيطرة.
تهيمن على القمار فكرة بدائية مفادها أن المواجهة والنتائج تتحكم فيهما قوى سحرية مؤثرة، تغذي الإحساس بالحظ الجيد وقدرة الفرد على العبث بالقدَر. وبذلك تعزز الدافع لتأكيد الذات والتخلص من أعباء الحياة. وهنا تكمن خطورة إدمان القمار، حيث يولّد اضطراب الشخصية المعادي للمجتمع، والذي تنتج عنه مضاعفات تمس العلاقات الاجتماعية والمالية للمقامر، وتُعرضه لاحقا لمشاكل قانونية تُفضي إلى فقدان العمل أو دخول السجن.
يسعى مدمن القمار خلف الإثارة التي تحققها المخاطرة على مائدة اللعب، وتصبح الأوراق بين أصابعه طقوس شعوذة تمنحه القدرة على التحكم والتأثير في حظه. وليس كسب المال حجاة ملحة بالنسبة للمقامر الحقيقي، فقد تتملكه الرغبة في الخسارة إما كنوع من العقوبة يُنزلها بنفسه، أو استئناسا بالألم بالذي تُحدثه. وهنا يميل عدد من المحللين النفسيين لاعتبار المقامر القهري شخصا مازوشيا يعكس أثر المقامرة على الصحة العقلية !
إن الإثارة وتجديد السعي خلف الحظ الجيد يولّدان لدى المدمن انشغالا متزايدا بالمقامرة، بمعنى تكريس الاهتمام بالتجربة في حد ذاتها، بغض النظر عن تأثيراتها على مجريات حياته اليومية. فكل تفكيره ينصب على استعادة تجارب المقامرة الماضية، ثم التخطيط للحصول على المال وبحث القوانين الحسابية وعناصر الخبرة التي تضمن، إلى جانب الصدفة طبعا، تعويض خسارة سابقة. ويقع المقامر في هذه المرحلة أسير نرجسية مفرطة، توهمه بقدرته على إحداث فرق، وتأكيد لا منطقية الواقع وارتهانه لضربة الحظ. ويعبر دوستويفسكي مرة أخرى عن هذا الإحساس في روايته بالقول:" لماذا تكون المقامرة أسوأ من أية وسيلة أخرى من وسائل الحصول على المال؟ لماذا تكون المقامرة أسوأ من التجارة مثلا؟ صحيح أن واحدا من مئة يربح، لكن هل يهمني هذا ؟".
ينسحب المدمن صوب عالم خيالي وسحري تؤطره مفردات اللعب ونشوة الربح والخسارة. وفي الآن ذاته تتعزز حالة مزاجية من الندم والهروب من المشاكل. وكلما تابع المقامر استنطاقه للورق كي يبرر سلبيته، تضخم إحساسه بلاعقلانية سلوكه وعجزه عن التوقف. إن خطورة القمار الأساسية هي في إيهامك بالقدرة على تطويع المسار، وتوجيه إمكاناتك وقدراتك بشكل سحري لتجعل المستقبل يعمل لصالحك، لذا فإن الربح الحقيقي لصالات القمار تستمده من مواصلة المقامرين للعب سواء ربحوا أو خسروا، كي يحققوا معنى لوجودهم !
تُمَهد الاستماتة في اللعب ومحاولة تعويض الخسائر لمرحلة هي الأسوأ في مسار المقامر. إنها مرحلة الضياع والإحساس بفقدان الأمل، حيث تعجز المقامرة عن التخفيف من التوتر والإجهاد النفسي. أمام وضع كهذا قد يستسلم بعضهم لمؤثرات أخرى كالمخدرات و المشروبات الكحولية، بينما يبحث آخرون عن وسيلة للعلاج والتوقف عن اللعب.
وينبني أسلوب العلاج بشكل عام على ثلاثة مداخل تخفف من وطأة المقامرة المرضية:
يراهن المدخل السلوكي على تلقين المقامر تمارين استرخاء ومهارات ضرورية للحد من اللعب، كالمقامرة المفرطة التي تؤدي إلى انطفاء الدافع، وميل المقامر لأنشطة بديلة.
بينما يميل المدخل السلوكي المعرفي إلى تصحيح المعتقدات السلبية وغير الصحية واستبدالها.
أما مدخل العلاج بالأدوية والمضادات فيراهن على مقاومة الاضطرابات المصاحبة للمقامرة، كالاكتئاب والهوس والقلق، لتعزيز الامتناع عن اللعب.
لكن يظل أهم عنصر في رحلة العلاج هو تحرير المقامر من مشاعر النقص والدونية، خاصة تلك التي تضرب بجذورها عميقا في مرحلة الطفولة، ثم تبديد جل أوهام النرجسية و الاستقلالية الكاذبة، والتحدي المزمن للعقل والمنطق.
لم يعد سرا أن الوصلات الإشهارية، هذا المخدر الجديد المصنوع من صور وكلمات وأصوات مجنونة، بحسب تعبير برنار كاتولا، تهدف إلى تعزيز ثقافة الاستهلاك ولو على حساب يقينيات المجتمع وقيمه الخاصة. وبما أن جوهر المقامرة هو تغذية الميول للربح، وتحقيق الأحلام ب"ضغطة زر"، فلا شك أنها ستصبح سلوكا يوميا مبتذلا، يعوض ثقافة العمل والإنجاز بالمخيلة والحلم، و يحظى بالقبول والتوافق الصامت من لدن المسؤولين عن التنشئة الاجتماعية والحفاظ على النسيج القيمي للمجتمع. وهو الأمر الذي يستدعي مقاربة صريحة وآنية تعيد للجهد الإنساني اعتباره.