تعتبر القصة فنا من الفنون الأدبية التي اهتمت عبر الزمن الطويل بنقل الواقع المعيش وتسجيله بطريقة فنية و جمالية .
وبهذا المعنى فالقصة تأريخ لمرحلة تاريخية يعيشها القاص وينقلها في عمله القصصي بطريقة فنية متخيلة ، ترقى بالواقع المعيش من مستوى الواقع الملموس المضطرب ، إلى المستوى الفني و الجمالي الهادئ الذي يرقى بالنفوس ويمتعها ويهذبها .
و المجموعة القصصية " الأرقام الضائعة " للقاص المغربي بوعزة الفرحان ، واحدة من مجاميع قصصية كثيرة و متعددة عرفتها الساحة الأدبية التي نزلت إلى الواقع المغربي و نقلته أدبا .
الأرقام الضائعة المكونة من اثنتي عشرة قصة مشكلة في مجموعها مائة وتسع صفحات من الحجم المتوسط ، يرصد الكاتب من خلال هذه الصفحات واقعا مخالفا متحولا ، ولفهم هذا الواقع لابد من تفكيك هذه النصوص القصصية ، وذلك بالانطلاق من داخل النص لأن مهمة الناقد " تفكيك الخطابات وفك عرى النصوص للكشف عن الوجه الآخر للأمور".
و الوجه الآخر لهذه المجموعة القصصية هو الذي يعنينا ، أي ينبغي علينا كشف الجوانب السياسية
و الاجتماعية و الثقافية فيها....... في ضوء السميائيات السردية ، وسنشتغل على ثيمات مختلفة منها :
1. ثيمة سميأة الغلاف
2.ثيمة سميأة الأبطال
3. التفضيئ الزمكاني
4. الانتقال من الدور الثيميائي للأبطال إلى الدور التصويري
5.الانتقال من النموذج العاملي إلى المربع السميائي
قبل تفكيك النصوص القصصية لابد لنا من الوقوف سميائيا على ثيمة الغلاف الذي جاء باللون الأزرق ، الذي يدل عادة على كل ما هو فسيح و ممتد في الأفق .
فهو لون مرتبط بالبحر وبالسماء ، إنه لون يمتد عبر الزمان اللامتناهي ، عبر الفضاء الرحب ، فضاء البحر و أمواجه العاتية و المضطربة اضطراب الأشخاص المشكلة لهذه المجموعة القصصية ، التي تتصارع فيما بينها من أجل تحقيق غد أفضل ، و لو كان ذلك على حساب جلد الذات ، ورميها إلى مصير مجهول ، مصير الغرق مثلما وقع لعلال الجنداري .
و اللون الأزرق رمز للون ماء النيل الذي أخذت منه أمثال شعبية عديدة منها : يومك منيل بستين نيلة ، فكانت أيام بل حياة الأشخاص في هذه المجموعة القصصية مليئة بالمفاجآت التعيسة .
إنها إشارة إلى الحياة الصعبة و ضنك الظروف المزرية ، ولذلك فاستخدام القاص لهذا اللون لم يكن اعتباطيا ، بل كان من أجل توظيف سميائي ، الهدف منه إثارة انتباه القارئ بواسطة عامل الصدمة الذي يحدثه هذا اللون في نفوس الأرقام الضائعة.
ووسط الغلاف الأزرق هناك ملصق عليه سلسلة من الأرقام التي تموه بطريقة فنية وجمالية ، فهي توحي للقارئ بصورة الأوراق النقدية من فئة مائتي درهم .
بمعنى أن كل هذه الأرقام الضائعة لها هذا الهم ، وهو الرغبة في الحصول على أعداد كثيرة من هذه الأوراق النقدية بطرق مختلفة ، منها الهجرة السرية ، أو الرشوة أو التجارة في المخدرات ....
إن الأبطال في هذه المجموعة القصصية ليسوا أبطالا تقليديون من لحم ودم ، وإنما هم دلالات أيقونية
( حسب الدراسات السميائية ) ذات مرجعية ثقافية معينة، لأن الأبطال في كل القصص هم أنفسهم فقط يختلفون باختلاف الأدوار التي يسلمها لها الكاتب.
فنحن إذن أمام مجموعة قصصية حداثية يكون فيها الأبطال مجرد أبطال من ورق، يغيرهم الكاتب بالطريقة التي يريد:" هكذا تخيل إلي الإنسان في هذه الحياة .... فهو كورقة تافهة في عالم الأحياء ، يولد ....يحيى ....يتحرك ....يقتات .... يبلى .... ترفضه الطبيعة ، ويرقد الرقدة الأخيرة في قبره .... فلم يعد يذكر إلا نادرا من أهله".
وهؤلاء الأبطال هم أنماط نموذجية استقاها الكاتب من الوصف البصري لهذه الشخصيات ، مع اختلاف الأدوار ، بين الأدوار الأساسية ، و الأدوار الثانوية و الأخرى الهامشية ...
و الحياة بالنسبة للكاتب انطلاقا من هذا المنظور عبارة عن مشهد لم يكتمل بعد ، إنها مسرحية الحياة بمشاكلها ومعاناتها . وهذه المسرحية لا تتكرر ، فقد تتكرر المأساة و المعاناة ولكن الحياة بمفهومها الفلسفي العميق لا تتكرر، لأن الإنسان لا يستحم في النهر مرتين .
وهذا ما بينه الكاتب في قصة " الاختيار القاتل" حيث إن علال الجنداري لم تتح له فرصة النجاة من الغرق و العودة إلى الحياة وتكرار التجربة لقد كانت المرة الوحيدة و الأخيرة .
فهو الذي هاجر الوطن( الفضاء الأنا) إلى أوربا (الفضاء الآخر) عبر قوارب الموت ، وهذه الهجرة لم تكن من أجل تغيير الفضاء ، بل الظروف الصعبة هي التي حتمت عليه الهجرة ، ومغادرة الوطن .
إن الوطن من منظور البطل هو الذي يلفظ أبناءه ( تأكد من أن سي علال لم يكن خائنا لوطنه ..ولكن وطنه هو الذي فرط فيه ورماه يعانق الرمال الأجنبية )
إذن نحن هنا أمام مسألة مقلوبة بدل العيش في الوطن وفي أحضان الوطن أصبحنا نجد منظومة أخرى معاكسة ، أصبح الإنسان يرضى بوطنه رغم المشاكل ، لكن الوطن من جهة أخرى يلفظ أبناءه و يرميهم في أحضان البحر و من نجا منهم يكون مادة خصبة في يد الأخر يفعل به ما يريد .و كان علال الجنداري رقما ضائعا وسط أرقام أخرى ضائعة .
وكان لهذه المغامرة تأثير كبير على المرأة التي كانت بين نارين ، بين نار الرغبة في تحسين وضعيتها ونار الخوف على موت علال وبقائها أرملة وهذا ما حصل بالفعل .
لقد غرق علال في عرض البحر و خرج جثمانه الذي تعرض لنهش الغربان ، وبقيت رابحة العنورية تواجه الحياة ( فما عليها إلا أن تكون صلبة ، تشد بأظافرها على الصخر ،طول امتداد حياتها )
و( ما يقلقها هو أنها ستدحرج صخرة سيزيف وحدها ).
إن الأبطال في هذه المجموعة القصصية كلهم يحملون رؤية مستقبلية إلى العالم ، من خلال منظور فلسفي يغوص في أعماق الواقع ، ويحركه من أجل خلخلته و إنتاج جدلية تساهم في إعطاء تصور علمي عملي يساعد على تحقيق مجتمع مستقر ، متلاحم يجمع كل فئاته في إطار شاسع عميق ، يسوده الحب و السعادة .
هذه السعادة التي يصعب تحقيقها في مجتمع مضطرب كهذا المجتمع الذي سجله الكاتب أدبا ، هذا المجتمع الذي يحضر فيه الاختلاف الأسري بشدة " وجهك نحس عليا يا خويا ، سيادك كيصوروها وهي طايرة في السما".
إنه جانب من جوانب الصراع الأبدي بين الأزواج ، ردود المرأة التي لا تعرف حدودا و لا احتراما لمكانة الزوج ، فقد لفظته بمجرد ما انتهت نقوده ، فأصبح رقما ضائعا ( ما أنا إلا رقم بشري ضائع يحصى في الانتخابات).
و الكاتب في هذه المجموعة القصصية انتقل بالأبطال من الدور الثيمائي الذي كان مجرد رؤى إلى الدور التصويري الذي يهدف من خلال تحقيق كل هذه الرؤى على مستوى الواقع و بشكل جدي .
فهو يسعى إلى حياة جميلة ترقى فيها الكلمة و تسموا في عالم من الجمالية و الفنية لأنه يتأسف على عالم الشعراء و أصحاب الكلمة الجميلة ( لقد رحل الشعراء ، وبقي المقدمون و الشيوخ يدقون طبول القمع في البلد).
و مجتمع كهذا الذي يمنع فيه ذبح الخرفان ، إلا بعدما تصل السن الثالثة من عمرها ، ويمنع كذلك شراء المبيدات الحشرية لرش الحشرات ، إلا بإذن من السلطات ، إنه مجتمع لا قيمة فيه للإنسان ،إن الخرفان و الحشرات أهم من الإنسان ، الذي وصل في لحظة من اللحظات معدودا من الأموات وهو من الأحياء
( تشهد على نفسك أن المسمى علال الجنداري قد توفي بتاريخ 20.10.01 ,إنه جاري هو لازال حيا ...لقد شاهدته هذا الصباح ) .
إن سلطة القانون أصبحت في يد جماعة من الجهلة الذين لا يفهمون إلا لغة الرشوة و الاغتناء على حساب الناس .
فالإنسان مهم بقدر مقدار و أهمية الرشوة التي يعطيها للمسؤول ( فالذي يعطي مرآة ليس هو الشخص الذي يعطي بغلا هدية ) لأن ( البغل كسر المرآة يا أخي .. ألا تفهم يا أخا البهائم ) .
و الكاتب يتدخل على لسان الأبطال من حين لآخر لإعطاء جرعات فكرية و مواقف إيجابية ، تنير الطريق لأبطال قصصه ، فتراه يظهر تدمره من الجهل المسيطر على القرية مبينا أن الوعي يؤخذ و لا يعطى ، فيدعو إلى اتخاذ موقف واحد و التوحد من أجل فرض الذات ، ودفع الآخر إلى احترام وجهات نظر الضعفاء ( هنا في قريتي ، يعطى الوعي بمقدار ، و الحرية لا تعطى بالمجان .... السياسة العفنة في الدول المتخلفة تولد تاريخا مريضا ، تهندسه أيادي ملطخة بحناء الانتهازية و الوصولية ) .
ومن هنا يبدو أن الكاتب واع بلعبة الكبار ، وكيف يديرون العالم و يديرون السياسة لأن السياسة في نظره ( فن تنجح مع السذج و الغفلة ، يشوش عليها العلم ، وتقومها الديموقراطية ) .
وهذا العالم الذي نعيش فيه مجرد أرقام ضائعة ، تتجاذبه الصراعات تنتهي بسيطرة القوي و موت الضعيف و يبقى ( الجوع يذبحنا من أعناقنا ، يا هذا ، و الغني يحيى في المخازن المخبأة تحت الأرض ، ونحن من صرنا نأكل بالتقسيط،ونفترش الدوم اليابس، ونستعمل ظل الصبار كمراحيض مشتركة).
و دائما تشعر بأن الكاتب بلغة السرد ، وبتحكمه في الأبطال يرفض هذا الواقع المأساوي المتسلط ، فكان دائما واعيا بحقوقه ، ويرفض كل أنواع الاستغلال ، وهذا يظهر للقارئ عندما رفض البطل التعامل مع الادارة بهذا الشكل السلطوي ، وذلك عندما رفض بطاقة التعريف ( لا أريد بطاقة التعريف ... و لا أريد أن أنتمي إلى هذه المقاطعة) .
من خلال قراءتنا للمجموعة القصصية الأرقام الضائعة ، نلاحظ بأن الكاتب بوعزة الفرحان ، يهدف من خلال رصده للواقع الاجتماعي إلى إرسال رسالة تتكرر بصور ، وطرق مختلفة حسب اختلاف أحداث وشخوص القصة ، هذه الرسالة هي تبليغ رؤيته إلى العالم ، من خلال عالم أدبي متخيل ، يعرف الكاتب كيفية التحكم فيه ، و محاولة إيصاله بجرعات متنوعة و مختلفة حسب ظروف و مناسبة كل قصة ، وهذه الرسالة يبعثها بهذه الطريقة حسب الترسيمة التالية.
المرسل ________الرؤية إلى العالم________المرسل إليه
البطل( الكاتب)____ ________عامة الناس
المساعد________ الثقافة ________المعاكس ( الجهل)
من خلال هذه الخطاطة يتبين لنا بأن الكاتب على لسان أبطاله ، حاول إرسال رسالة ، هي في الحقيقة عبارة عن رؤية إلى العالم المتخلف الجاهل ، لقد وجهها إلى عامة الناس من أجل إخراجهم من جهلهم ، إلى نور العلم و الحقيقة ، والوعي الذي يساهم في رقي المجتمع و إصلاح حاله.
إن الكاتب في هذه المجموعة القصصية يتوفر على التحفيز (manipulation ) حيث قام بإقناع عامة الناس ، في قصصه على لسان أبطاله ، لكن التحفيز و الإقتاع ليسا كافيين لتحقيق هذه الرؤية ، بحيث لابد من إرادة المرسل إليه التي يبدوا هنا في مجموع هذه القصص أنه يفتقد إلى هذه الإرادة ، مما دفع بطل قصة ( لكل حي بيادقه) إلى حمل حقائبه ورفض أخذ البطاقة الوطنية . و في نهاية المجموعة القصصية خرج بمجموعة من القرارات المحبطة التي تبين انتشار ثقافة السلطة و القمع و هذا دليل على المزيد من انتشار الجهل و الأمية في الأوساط الشعبية.
محمد يوب