لما لعلعت الرصاصة معلنة بدء السباق ؛أطلق العنان لساقيه الهزيلتين ؛كي تسبحا في المضمار، وتهادى الماضي دفعة واحدة .لقد ضبط نفسه جيدا من أجل هذه اللحظة الحاسمة التي عصفت بجبال المشقة التي كان يحملها فوق كتفيه قبل ولوج الملعب .لكم حلم بهذه اللحظة ،ولكم لاقى من الأهوال لأجلها .فلم تكن الدنيا رحيمة به،ولم تهادنه ساعة من زمن؛ مذ تفتح وعيه في قرية نائمة في ظل جبال الأطلس الصغير حيث للجغرافيا أثر كبير في بلورة أحلام الناس ومصائرهم ،وبمناسبة الحديث عن الأحلام سأكذب إذا قلت إن حلم ( ربيع ) هو تحقيق مثل أعلى؛ كأن يرفع راية بلده عاليا في أفق هذا المحفل الرياضي العالمي.وسأكون صريحا معكم إلى درجة القسوة إذا قلت إن هذا المثل الذي جأر به مرارا أمام الكاميرات لم يكن إلا حصان طروادة الذي يخفي داخله بيتا يأويه من غائلة الصقيع ،وثيابا تدفئه حين يشتد البرد القارس ،ولقمة عيش تضمن بقاءه حيا .ورغم ذلك، فقد كان في أعماق أعماقه ،وهو يجري؛ لكي يقطع هذه العشرة آلاف متر التي ترامت أمامه كالأبد ؛غليان روحي يشده إلى ذكرى والديه ،وفخر سامق كأشجارالأرز بانتمائه إلى قريته الأطلسية تلك ،إلى ناسها النابتين في تربتها الطيبة، المروية بعرق جبينهم.
حين كان يسترق النظر بين الفينة والأخرى إلى الجماهير التي تلوح بأعلام مختلفة الألوان ،وتهتف هتافا حماسيا؛كان يشعر بحجم المسؤولية التي ألقتها الجغرافيا على عاتقه ،فلو أن التاريخ قام بواجبه ،وأنصفه ؛لما كان الآن يسابق الحظ بقدمين أثخنهما الوجى ،وتذكر كيف عثر الأدهم أسطورة السباق في قريته ،وخسر ،وهو على مشارف نقطة الوصول والنصر.لا أحد يستيطيع أن ينتصر على الحظ .قال في نفسه.
الشيء الوحيد الذي يشغله الآن وهو في طور بدء دورة مضمار أخرى طيف علم تراءى له هناك خفاقا قرب المنصة المخصصة للشخصيات البارزة ،والذي أثار انتباهه فيه هو حجمه الكبير.
يستطيع الآن أن يتبين الأمر .نعم .إنها راية بلده، وهي منتصبة إلى جانب شخص يرتدي بذلة فاخرة ،ويضع نظارتين سوداوين .شرع يلوح له بيديه مشجعا.أحس ربيع بالفخر،وتهيأ له أنه محاط بعناية من جهات عليا وأن جهده في تأكيد ذاته قد أثمر أخيرا .فهاهم المسؤولون يستفيقون أخيرا من غفلتهم ليعيدوا الأمور إلى نصابها ،وليعطوا لكل ذي حق حقه .لا بد أن اعترافا بأهمية الرجل في الرياضة الوطنية سيدبج بعد انتهاء التصفيات ،فذلك أضعف الإيمان خصوصا عندما يتعلق الأمر بعداء عصامي تقاعسوا عن الاهتمام به.
بدأت دورة مضمار جديدة ،وتبقت دورتان اثنتان ستختزلان سنوات من العمل الشاق . ورغم أن هذا الأمر يفرض على العداء الذي يطمح في الفوز أن يحسن موقعه في انتظار دورة الحسم ؛إلا أن ربيعا ظل شاردا ثابتا في موقعه. وحده الرجل الغريب كان يدرك خطورة الموقف على ما يبدو فبدافع من وطنيته المفرطة كما فسر ذلك ربيع ؛طفق يشجعه ملوحا بالعلم في حماس منقطع النظير ،حاثا إياه على التقدم .بل إنه نهض من مكانه مستوفزا ،وراح يصيح مشيرا إلى العلم إشارة فهمها ربيع الذي سافر عبر الزمن نحو الماضي .
كان يومه الأول بالمدرسة التي دخلها على نفقات بعض أهل القرية الطيبين؛ فلم تكن الأم التي مات زوجها في حرب الرمال قادرة على تدبير شؤون المنزل كما ينبغي .وقد زاد تنكرالأعمام لابن أخيهم وسطوهم على حصته في الأرض الأمر تعقيدا .لم يكن ربيع قد رأى أباه ،وكل مايعرفه أنه مات في سبيل الوطن . سمع كلمة الوطن لأول مرة من أمه ،ورسم لهذا الشيء الذي لم يستطع أن يدركه عقله الصغير صورة قبيحة، صورة رجل ملامحه أقرب إلى ملامح أحد أعمامه الغاصبين لحقه.
مايهم أن الطفل ناصب الوطن العداء ،وأضمر في نفسه أن يقتله يوم يكبر ،ويشتد ساعداه .في يومه الأول بالمدرسة جاء باكر ،وتسورالجدار الذي يحيط بها ،وتوجه إلى الساحة حيث رأى العلم لأول مرة في حياته منكسا .وبفضول طفولي تبول عليه ،وماكاد يقضي حاجته حتى باغته مدير المدرسة .أمسكه بقوة من قفاه ،وشرع يصفعه بقوة مؤنبا إياه قائلا:
أتبول على الوطن؟
ما إن سمع ربيع هذه الكلمة حتى تحرر من قبضة المدير ،وصرخ في وجهه:
-تبا له ،لم أكن أعرف ذلك عندما تبولت عليه ،وإنني سعيد بعدما علمت ذلك .
ورجع راكضا إلى منزله ليخبرأمه أنه عثر على قاتل أبيه.وفي ذلك اليوم بالضبط سيكتشف موهبته في الركض ،وسيختار طريق القدم بدل طريق القلم.
كان الجرس قد دق مؤذنا ببقاء دورة واحدة لانتهاء السباق،وكان ربيع قد أحرز تقدما ملحوظا ،فقد تقدم إلى المرتبة الرابعة تحديدا.
حين ألقى نظرة على مشجعه الغريب رأى بعض الأشخاص يسعفونه ،وقد أخذوا يصبون عليه الماء تارة ،ويسقونه تارة أخرى .بينما شرع يلكزهم كي يفسحوا له مجالا لمتابعة العدو، وعلى الرغم من اعتلاله المفاجئ ؛نهض من مكانه بمساعدة شخصين ،وأخذ يلوح له بالعلم آتيا بحركة تشبه كفكفة الدمع مشيرا كرة أخرى إلى العلم .
تذكر ربيع كيف قطع الطريق بين المدرسة والدار بسرعة جنونية لقد طوى عشر كيلومترات في أقل من نصف ساعة ،ومن يعرف جغرافيا الأطلس الصغير سيدرك حتما كم أن الأمر صعب جدا .
أخذ ربيع يجري ،وقد أحس تقريبا بأنه يطير ،فلم يعد يستشعر ثقله أو انبهار نفسه ،بل إنه وثب مرارا ليجتاز مجارعميقة ،وليختصر المسافة .لم يلق بالا كالعادة للرعاة الذين يسرحون بقطعان ماشيتهم ،وللفلاحين المتجهين إلى حقولهم .كان همه الوحيد أن ينقل خبر العثور على قاتل أبيه إلى أمه الحزينة.حين وصل المنزل وجدها منشغلة بشؤون المطبخ ،فحكى لها القصة من الألف إلى الياء.
وقفت قبالته حائرة عاجزة عن تفسير الأمر ،واكتفت بكفكفة دموعها التي لم يكن يرغب في إثارتها؛ فعاد أدراجه ،وشرع يركض ،ويركض كوعل مذعور تطارده الذئاب .
لم يصدق ربيع عندما عانقه العداء الجزائري مهنئا وسط هتافات الجماهير المشجعة قائلا:
-هنيئا لك يا أخي .لقد أبهرتني .فوز مستحق.
-شكرا .إنني غير مصدق .
- بل صدق لقد حطمت الرقم القياسي السابق.
كان ربيع يفكر في مشجعه الغريب الذي كان مكانه فارغا الآن .سأل العداء الجزائري عن حقيقة المنصة هناك فأجابه :
-إنها منصة مخصصة لشخصيات نافذة تلتقي في مثل هذه المحافل للقمار ،ولكن بأموال طائلة يصعب على عقلك تصورها .
فوق منصة التتويج ،والفرحة تغمره ؛رأى مشجعه الغريب في الوراء يتسلم شيكا من رجل آخر تبدو عليه مخايل الثراء.ثم انسحب محفوفا بنفر من الحراس الشخصيين بعد أن رمى العلم في سلة القمامة .
كان البرد قارسا في تلك الأثناء وأحس به يدب دب دبيب النمل في جسده حتى أن أسنانه اصطكت. توجه ربيع نحو سلة القمامة،فحمل العلم ،ووضعه على كتفيه ،وعاد إلى المنصة .
شعر أن العلم لم يمنحه بعض الدفء .فقط ملوحة العرق هي الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يستشعره على شفتيه كلما لمستهما أسلة لسانه . وحده حنين روحي إلى والديه ،وفخر سامق كأشجارالأرز بانتمائه إلى قريته الأطلسية ،وإلى ناسها النابتين في تربتها الطيبة، المروية بعرق جبينهم جعله يصمد في وجه البرد القارس.