- الهرمينوطيقا الفويرباخية
لذلك تؤكد الكريستولوجيا أن “الله كلمة لا معنى لها إلا الإنسان”: هناك حقيقة واحدة فقط، الإنسان، والله ليس سوى طريقة لقولها. "الله" إذن هو مجرد كلمة لا تتعلق بجوهر "الله"، كما يقتضي اللاهوت، بل بجوهر "الإنسان": يقال الإنسان في الله. وهذا ما سمح لفويرباخ، كما في "جوهر المسيحية"، بوصف ونقد هذه العملية انطلاقا من اللغة نفسها. إن العلاقة بين الواقع والفكر يتم تقديمها بالفعل على نموذج العلاقة بين الفكر، أو ما هو مستهدف من قبله، وما يقال. لكن "بالنسبة إلى القصد (Meinung)
تكون الكلمة دائما ضيقة جدا، كما هو الحال بالنسبة إلى إلهك": ما يقال لم يعد هو المفكر فيه. المماثلة ناطقة: في الMeinung
لدينا هدف فردي، نية تظل "لي"، أي في "قدرتي"، بينما يصبح ما يقال مستقلا وثابتا، خارجا عمن يقول. ومن ثم يخاف الإنسان أمام الله كما يخاف أمام كلماته. تستخدم هذا المماثلة مع اللغة لفهم العلاقة بين الله والمسيح: المسيح هو كلمة الله، تخارج الكلمة ويقينها. تعود هذه الكلمة المحسوسة إلى أنثروبولوجيا فويرباخ الحوارية القائمة على تكامل مبادئ النزعة الحسية و"نكران الذات"، أي تكامل طبيعة الفكر الذي يمكن الوصول إليه عن طريق الحواس وواقعة أن المفكر مرتبط بالضرورة بـ "أنت". ضمن ذلك، يجمع فيورباخ بين أطروحة مثالية، وهي نظرية التخارج الضروري وبالتالي الوساطة ليصبح نفسه في العودة إلى ذاته، وليتحرر كونه عاد إلى الذات في الكائن الآخر ، ونقد المثالية حيث يكون الإنسان على الفور معطى لذاته في الحساسية. توجد هذه المبادئ في قلب ما كتبه فيورباخ عن لوثر، حيث تأخذ اللغة دور النموذج الأساسي:
"الله ببساطة يخبر الإنسان بما يفكر فيه الإنسان بصمت في قرارة نفسه، دون أن يجرؤ على قول ذلك لنفسه. ما أعمل سوى على قوله والتفكير فيه عن نفسي هو - على الأقل ربما - خيال؛ ولكن ما يقوله الآخر أيضا عني هو حقيقة. للآخر في الحواس ما ليس عندي إلا في الخيال".
من ناحية، يعتبر الكلام تعبيرا أساسيا عن الذات: «سواء سمّى أو عبر، لا يعبر الإنسان أبدا إلا عن ماهيته». ومن ناحية أخرى، فهو خلاق، هكذا تولد الآلهة، الكلام له القدرة على الخلق: “القول يقول الكثير؛ القول يصنع شيئا من لا شيء. وليس عبثا أن يكون الخلق من العدم هو القدرة الكلية للكلام». ولتحديد هذه القوة الأولى، لجأ فيورباخ إلى كلمات الآخرين، إلى تكامل الكلام والاستماع: يجب أن “يترك الآخرين يتحدثون عنه”. لكن "من أين تأتي قوة الكلام الذي قيل من قبل إنسان آخر"؟ فقط لكونه كلام إنسان آخر يكون موجودا "موضوعياً". "الإيمان يأتي من الاستماع"، يكتب فيورباخ وفقا للمبدأ الحواري. وإذا كان الأنت في الحياة هو الإنسان الآخر، ففي الإيمان الأنت هو الله.
ـ المحبة والإيمان
إذا كان الله "من أجلنا"، فذلك لأنه محبة بالأساس، أي صالح بالنسبة إلى "الآخرين". بالفعل، الوجود صالحا يؤسس للآخرية، لأنه لا يمكن لنا أن نكون صالحين إلا تجاه شيء آخر، وموضوع المحبة هو معنى المحبة. لقد رأينا أعلاه أن المحبة كانت، بالنسبة إلى فويرباخ، في قلب ما كتبه عن لوثر وإنما على ضوئها يتم تفسير الكريستولوجيا (المسيحانية). الله، بما هو إله، ليس بعد لأجل الإنسان، وحالما يصير إنسانا، لم يعد على وجه التحديد إلهًا كما هو في الفكر اللاهوتي. من المؤكد أن الإيمان، الذي هو “عين الخيال”، يسمح لنا أن نرى ما ليس موجودا، أن نرى في الغياب. لكن هذا الله صورة. والحال أن بعد الآخرية الحقيقي هو الوجود بالنسبة إلى الحواس وبالتالي الوجود الجسدي. على هذا النحو "المسيح هو اليقين المحسوس لمحبة الله للإنسان"، إنه "حقيقة محسوسة". إنما بالمحبة جعل الله من نفسه إنسانا، لأن الإنسان وحده يستطيع أن يحب الإنسان وبالتالي يغفر خطاياه. في هذه الحركة تتم كذلك قراءة أنسنة الله وتأليه الإنسان معا. ولكن إذا كان عليه أن يكون موضوعا للإيمان والثقة، فيجب أن يكون الله في ذاته ما يكونه بالنسبة إلي. الله بدون المسيح مخيف، يكتب فيورباخ وهو يقرأ لوثر. تظهر هذه القراءة لفويرباخ بوضوح عندما يوحي الإله المتعالي بأنه إله الميتافيزيقا: "كان لوثر عدوا للميتافيزيقا، عدوا للتجريد، عدوا لغياب التأثير". ولذلك فإن نقد لاهوت الله في ذاته هو نقد للفلسفة التأملية.
إذا كان الله محبة وكل محبة هي علاقة حوار بين البشر، فالسؤال هو: كيف نفهم العلاقة بين أنا وأنت؟ على المستوى الديني، يفسرها فيورباخ بالقياس على العلاقة ولد/أب. هذه المماثلة ليست أصلية، لأن هذه العلاقة كانت دائما راسخة في الدين. ومع ذلك، فهي ذات أهمية كبيرة بسبب النتائج التي يمكن أن نستخلصها منها: إن التفكير في الله كأب لا يعني التفكير فيه بدون ولد، مما يؤكد فكرة أنه لا يوجد إله بدون إنسان، وبالتالي فهو ليس في ذاته، بل من أجلنا، من يعبر عن ضرورة المسيح. وفي الوقت نفسه، فإن تعيين الله كأب يعني اعتباره وحدة الجنس. وهكذا، يقول فيورباخ معلقا على لوثر:
"إن الله باعتباره الأب المشترك للبشر ليس سوى وحدة الجنس البشري والمساواة المشخصنة، مفهوم الجنس فيه تلغى جميع الاختلافات وتوضع جانبا، مفهوم الجنس الذي، على أية حال، على عكس البشر الحقيقيين، يتم تمثيله باعتباره كائنًا مستقلاً بذاته".
تسمح لنا المماثلة بعد ذلك بتوضيح الحوارية، يكون الآخر بالنسبة إلي في الحياة ما بكونه الله بالنسبة إلي في الإيمان: "في الحياة الأنت إله أنا، في الإيمان الله إله الأنت الإنسان ». تجسّد هذه العلاقة التراص المتبادل والتكامل بين اللحظتين: "الأب يكون ما لا يكونه الولد، يكون بالنسبة إلى الولد ما لا يكونه الولد بالنسبة إلى ذاته". تجعل العلاقة أب/ولد من الممكن أخيرا توضيح الشعور الأساسي بالتبعية، في اللحظة التي ينتقل فيها فيورباخ إلى دراسة التبعية حيال الطبيعة. لكون هذه التبعية ذات خصوصية، لا يكون الولد تابعا ببساطة للأب: بل له عند الأخير ما ينقصه ليجد ذاته، أي ليحقق "الشعور بالذات". والأب بذلك وجود "لأجل لولد" والفرق إذن كما يلي:
"في الأب كموضوع يحضر كموضوع ما ليس في الولد سوى كاستعداد، ما يكون في ذاك كوجود هو في هذا هدف الصيرورة، ما يكون حاضرا بالنسبة إلى ذاك يكون مستقبلا بالنسبة إلى هذا. ما يكون في ذاك فاعلية يكون في هذا رغبة وجهدا".
وهو ما يعني من وجهة نظر اللغة المذكورة أعلاه:
"الأب موجود، يقول ما يجب أن يكونه الولد، وربما ما سيكون. الأب هو العراف (Wahrsager) الحقيقي للولد".
يعبر الأب عن حقيقة الولد، كما يكون الله أو الأنت كلمتي الحقيقة. مثلما أن أن الله يصدح للإنسان بما يكونه من خلال تقديم جوهره الخاص، تكون وظيفة الأب هي تقديم الجوهر، اللحظة الضرورية للتخارج أو الاغتراب التي تسمح للإنسان باستعادة نفسه في الحقيقة. وهكذا نجد الأطروحات الأولية التي تؤسس هذه العلاقة على العلاقة الراغبة، حيث يكون الله هو المعبر عن رغبات الإنسان غير المحققة: "فما هو الله إذن؟ إنه سعادة الإنسان ككائن منجز وفعال، أي موضوعي”.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا أن نتصور الحب الإلهي والحب البشري؟ قام فيورباخ وهو يقرأ لوثر بذلك من خلال التمييز بين المحبة والإيمان. هنا نضع الأصبع على جوهر قراءة فويرباخ للوثر. بالنسبة إلى لأخير، يتمثل الانتقال من الله إلى الإنسان، كما نعلم، في إحلال الجنس البشري محل الله. لكن الجنس البشري هو أيضا مجرد تجريد. ولهذا السبب، يجب على فيورباخ، كما أشار ماركس، أن يجسد هذا النوع الذي يعرف بأنه "مجموع [...] خصائص الجنس التي توزع بين الناس والتي تتحقق في مجرى التاريخ" من خلال المرور عبر العلاقة بين أنا وأنت. هناك إذن في فهم الإنسان علاقة مزدوجة، من ناحية مع جارك في "أنت"، ومن ناحية أخرى مع الكل في هذا الحنس. وفي هذا السياق الدقيق يلجأ فيورباخ إلى التمييز اللوثري بين الإيمان والمحبة الذي يوفر في الوقت نفسه مفتاح تفسيره للوثر.
يقول فيورباخ: "كائن آخر ، الله، [...] موضوع الإيمان، كائن آخر، الإنسان، موضوع المحبة، أي النشاط العملي، الحياة".
ويضيف: "لكن هل هذا هو الحال في الواقع؟ لا ! موضوع الإيمان، كما رأينا، هو المحبة – المادة الأسمى للإيمان، المادة الوحيدة الحاسمة والشاملة، هي هذه القضية: الله محبة. ولكن محبة من، لأن حب الذات، الحب بدون موضوع، أليس مجرد وهم؟ حب الإنسان. في الحقيقة، الإنسان أيضا هو موضوع الإيمان، العمل الخيري، حب الناس هو أيضا سر الإيمان؛ مع الفارق الوحيد الذي هو أن الإنسان الآخر في المحبة هو موضوع المحبة بينما في الإيمان أنا نفسي موضوع المحبة، وبينما أحب هناك أكون محبوبا هنا".
يوضح هذا المقطع أطروحة فيورباخ الأساسية التي تسمح له بتأويل علاقة الإنسان بالله كعلاقة الإنسان بنفسه، وفي التعارض بين المنفعل والفاعل، كدعوة إلى إعادة التملك الفعال، أي إلى التحرر. من الإنسان. يظهر الحب والإيمان كأسلوبين متكاملين للتواصل مع الذات ومع الآخرين إلى الحد الذي يتم فيه تأويل الإيمان على أنه حب الذات. من خلال كونه محبوبا، يصبح الإنسان واعيا بذاته، ولديه "إحساس بذاته" لأن "من يحبني يقول لي صارخا: أحب نفسك، لأني أحبك". ففي الإيمان أتعلق بنفسي والحب هو حب الذات:
"[...] في الحب أنا كائن نسبي، أخدم الآخرين، أنا فقط وسيط؛ ولكن في الإيمان أنا كائن مطلق، أنا غاية في ذاتها".
الاثنان متكاملان، لأنه في الحب كما في الأخلاق، لا ينبغي أبدا أن يكون المرء وسيلة بسيطة، بل دائما غاية في ذاتها. فالغاية في ذاتها، الكوني، هي انتماء إلى هذا الجنس. بل إن «مقياس الجنس مطلق، وليس نسبيا كمقياس الأفراد والأنواع». باختصار: المحبوب مطلق ويجد ذاته في جوهره، أما الكائن المحب فهو نسبي ومنفتح على الوجود. لكن كلاهما منظم: الأول هو شرط إمكان الثاني، الإيمان شرط المحبة، أي أن محبة الذات، في اللغة الفويرباخية، شرط إمكان محبة القريب:
"[...] موضوع الحب (حب القريب) هو سعادة الآخر؛ بالمقابل، موضوع الإيمان هو سعادتي الخاصة، غبطتي الخاصة".
هكذا يُترجم الحب إلى حوار حيث تتطلب العلاقة مع أنت موقف أنا أصيل. إنما إذن كصدى للكلمة التي لخص فيها لوثر جميع الوصايا: “سوف تحب قريبك كما تحب نفسك” ( Rom. 13.9)، حدد فيورباخ جدليته للأنا والأنت. هذه الجدلية تعزو أصل قوة الحب إلى الإيمان. وبهذا المعنى يختتم فويرباخ كتابه عن لوثر :
"[...] إن جوهر الإيمان، في اختلافه عن الحب واعتباره وفقا لهدفه النهائي ، ليس سوى جوهر حب الذات".
ومن خلال ترتيب الإيمان والمحبة على هذا النحو، فتح لوثر الطريق إلى الحقيقة والحرية. ومن خلال تأسيس حب القريب على حب الذات، الذي هو أيضا إخساس بالذات، يطمنح فيورباخ الحب قوة توسعه. ولهذا السبب فإن كونك محبوبا من الله، دنيويا في محبة الذات، يعطي "شعورا إلهيًا بالذات" ضروريا بدوره للحب. بالنسبة لفويرباخ، يُظهر لوثر محبة الله التي يكنها لي، مؤكدا أنه يجب علي أن أحب نفسي وهكذا "يعيد توجيه الإنسان إلى ذاته". إن حب الذات على مستوى الجنس يتيح لنا أن نفهم أن الله ليس أكثر من الإنسان وأن الأخير مدعو ليجد نفسه. هذه الحقيقة تفتح الطريق أمام التحرر، لأنه قبل أن يكون محبوبا، يجد الإنسان نفسه فقط من خلال الآخر، من خلال محبة الآخر التي تدعوه إلى حب نفسه. ولهذا السبب فإن "الأنانية" و"الشيوعية"، وحب الذات وحب الآخر لا ينفصل بعضها عن البعض الٱخر. ويمكن بعد ذلك تلخيص نطاق لوثر على النحو التالي:
"[...] لقد أوضحت لك أن ما تعتقده وتؤمن به أنه الأسمى عند إلهك هو محبة الإنسان للإنسان. [...] لكن أعني بالحب نشاط الجسد كما نشاط الروح، الحياة لأجل الآخرين، لأجل الإنسانية، لأجل غايات كونية. وبما أن هذه الغايات الكونية لا تجد واقعها وحقيقتها إلا في أن صيرورةـ إنسان– إذا كنت أريد، مثلا، الحرية، فأنا لا أريد شيئًا آخر غير أناس أحرار، ولا أريد الحرية فقط في الرأس أو الإرادة، بل أريد الحرية المرئية والمحسوسة – أنا دائما أضع الإنسان على هيأة l’A et l’Ω".
يبقى أن فيورباخ، وهو يعتمد على لوثر، يميز نفسه عنه. عن المحبة والإيمان كتب لوثر في "حرية المسيحي":
"[...] المسيحي لا يعيش في ذاته، بل في المسيح وفي قريبه، في المسيح بالإيمان، في قريبه بالمحبة: بالإيمان يرتفع فوق ذاته في الله، ومن الله ينزل نحو ذاته بالمحبة، ومع ذلك يبقى دائما في الله وفي المحبة الإلهية [...]*.
يتجاهل فيورباخ عمدا القضية الأخيرة، وهي أن حب القريب والإيمان بالله يظلان بالنسبة إلى لوثر مغلفين بـ "الحب الإلهي"، أي بالحب القادم من الله. ولم يعد هذا هو الحال في القراءة التي تجعلهما يتماشيان وأطروحة الاختزال المزدوج (1) لله في ذاته، كموضوع للاهوت والفلسفة التأملية، إلى علاقة الإنسان بالله، التي هي الدين، و (2) لعلاقة الإنسان بالله إلى علاقة الإنسان بذاته، وهي الأنثروبولوجيا الدينية. هذه الحركة، حيث الممارسة العملية هي تحقيق الذات قبل أن تكون في الحقيقة تحقيقا اجتماعيا، هي حركة الإصلاح التي يسميها فيورباخ “الطريق إلى الحقيقة والحرية”.
في هذه المرحلة الرابعة من جولتنا في قارة الفلسفة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية، نحط الرحال عند الفيلسوفة البولندية فرانسيسكا ريفيتي باربو (1922-2009) لنتحلق حول أحد نصوصها الذي كرسته لما نحن بصدد البحث عنه. يتعلق الأمر بمقالها المترجم من اللغة البولونية إلى اللغة الفرنسية والمنشور في مطلع ألفتينا الحالية تحت عنوان: "الحقيقة والحرية. من المعرفة العادية إلى الفلسفة".
من الناحية المنهجية والتنظيمية، وزعت الفيلسوفة باربو مقالها على بضعة محاور. في المحور، تحدثت عن الأزمات التي تعاني منها المجتمعات الأوربية، وعن تعدد التصورات حول الحرية. وهكذا تبدأ بالإشارة إلى أن هناك اليوم العديد من المفاهيم عن الحرية مختلفة تماما عن بعضها البعض. هذه علامة على واقعة أن المجتمعات الغربية حاليا هي بلا شك متعددة الثقافات. تتوقف فكرة أننا نعيش الحرية، فعلا وتحديدا، على ثقافتنا: ذلك أن كل واحد منا يتقاسمها، عادة، مع مجموعة أو أخرى من الناس.
إن تعدد تصورات الحرية الذي تتميز به المجتمعات الغربية، هو أحد أعراض الأزمات الثقافية التي تتخبط فيها. وهو أيضاً أحد أسبابها: وربما هو سببها الرئيسي.
ما العمل؟ هل نشكل ثقافة جديدة للحقيقة؟ ما العمل إذن من أجل أن تتجاوز المجتمعات الغربية أزماتها الثقافية؟ يجب الكفاح، ولو ضد التيار، من أجل "ثقافة الحقيقة" جديدة ومتجذرة في الحكمة المسيحية لشعوب اوربا. إن "ثقافة الحقيقة" هذه قادرة بالضبط على تأسيس "مدنية المحبة".
هذا الارتباط (بين هذه الثقافة ومدنية المحبة) يرجع قبل كل شيء إلى حقيقة أن الحرية الحقيقية في هذه المجتمعات مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحقائق التي تمكنت من الاعتراف بها: يصبح ذلك واضحا بمجرد وصولها إلى مفهوم صحيح عن الحرية (كما سنرى لاحقا). إنها أولاً وقبل كل شيء حريتنا الداخلية الحقيقية: وهي الأكثر أهمية لأنه بدونها لن تكون هناك حرية خارجية حقيقية.
إذن، "ثقافة الحقيقة" هاته هي شرط أساسي للحرية الحقيقية وازدهارها. لذلك، من المهم للغاية أن تترسخ وتنتشر بفضل الجهود المبذولة إن أمكن من الجميع.
من بين أهم الحقائق إليكم ما يتعلق بحريتنا. في المقام الأول، هناك حقائق تجعلنا نفهم ماهية الحرية الإنسانية الحقيقية، الداخلية. باعتبارنا "فلاسفة"، يقع على عاتقنا تسليط الضوء عليها. إليكم بالضبط حجتي:
سأبدأ بوصف أحد أعمالنا الحرة، الذي يعطي لمحة عامة عن غنى مكوناته. هكذا أستطيع في ٱن واحد رسم الخطوط العريضة لتصور صحيح عن حريتنا، وبعض الطرق الأساسية (كل منها مختلف تماما عن الآخر) التي يستخدمها الناس للتفكير في حريتهم. على هذا الأساس سنسعى إلى معرفة أي الأسباب المبدئية للصعوبات التي نصادفها على هذا السبيل. يتعلق الأمر بنفس الأسباب التي هي أيضا أصل ما يسمى بالاختلافات بين تصورات الحرية، التي تبدو اليوم ملموسة وواسعة الانتشار.
ويمكن تقديم تفسيرات مختلفة لهذه الصعوبات، تقع على مستويين: من ناحية تفسيرات أكثر بساطة، من ناحية أخرى، أسباب أكثر عمقا. هذه الأخيرة هي الأهم: مع أنه يحدث أننا لا نلاحظها. هكذا سوف نصل إلى جوهر المشكلة، سوف نجد شيئا به نتجاوز كل عقبة ونوضح أسس حريتنا والسبب الرئيسي في اتساع مداها.
ما العمل لتعزيز حريتنا الحقيقية، هل بفضل "ثقافة الحقيقة"؟ نحن بحاجة للحديث عن ذلك للجميع، وخاصة لمن هم أصغر سنا بطريقة يفهمونها. لكننا لم نعد نفهم بعضنا البعض. هذا تعبير صحيح تماما اليوم؛ ما دام أن اللغة نفسها تغيرت. ولجعل المصطلحات مفهومة، لا بد من إعادة تقديمها مرة أخرى؛ ولهذا ليس هناك أفضل من الأمثلة.
هكذا نصل إلى المحور الثاني الذي يتناول بالشرح والتحليل المسند الحامل لوصف للحرية والمتخذ هنا كمثال أول. للقيام بذلك، بدأت الكاتبة بإحدى تجاربنا الأكثر شيوعا: يجب أن يكون هذا خطابا موجها للجميع. ماذا يحدث عندما نتخذ قرارا حرا؟ قبل كل شيء، كل قرار حر هو عمل حيوي، يقوم به كائن وافعي: جوهر حي، رجل-أو-امرأة، عارف ولديه ميول. قررت، بحرية، أن أتسلق هذا الجبل، مع هؤلاء الأصدقاء وهذا المرشد. لماذا قمت بذلك؟ لأن ذلك يجذبني، كإحدى أمنياتي. هذا في الواقع ما أتمناه لنفسي، أن أشاهد منظرا جميلا جدا من الأعلى جداً، أن أقصي يوما رائعا مع هؤلاء الأصدقاء وهذا المرشد.. انخرطت في هذا البرنامج بهدف الحصول على راحة مفيدة طوال حياتي، مع مراعاة وحدتها: بطريقة يستطيع معها كل ذلك أن يتناغم أيضا في وحدة لاحقة... هذا المرشد، هؤلاء الأصدقاء، هذه الراحة...، كل ذلك جيد حقا، بالإضافة إلى أن كل ما تم جرده حتى الآن، هو شيء ما (كائن).
الأشياء التي يقع عليها اختياري معقدة، متغيرة، متحدة بالروابط التي تشكل شبكاتها. لنر عن كثب كيف يقدم كل ذلك نفسه: ما أختاره (أي هذه الكائنات الجميلة جدا والحسنة جدا)، أمر معقد للغاية، وقابل للتغير. أكثر من ذلك، كل هذه الكائنات مرتبط بعضها ببعض (وبأشياء أخرى أيضا)، بطريقة تتشكل معها شبكات (هي أيضا معقدة للغاية ومتحركة).
مشاريعي تستهدف الواقع ولا يزيغ ناظري عن الإمكانات. أختار هذا المشروع أو ذاك، وأنا أتوقع أن يتحقق. في هذه الأثناء، هو احتمال واحد فقط: شيء ممكن. غايتي الأخيرة، قراراتي الحرة، لا أستطيع عزلها أبدا عن بقية حياتي: إنما إذن وأنا أتطلع دائما إلى تحقيق هدف عام معين أتخذ قراري.
بالنسبة إلى الصعوبات، فلسوء الحظ، يمكن لحادث سيئ أن يحدث دائما. وبالنسبة إلى تجاربي الداخلية؛ أي "ٱبيتوسي" (فضائل، رذائل، عادة التحكم في النفس أو سهولة فقدان السيطرة عليها..) لها تأثير ملحوظ على قراراتي الحرة. من أعماق باطني ينبعث صوت ضميري ليكون مسموعا.
كل ما أفكر فيه بهذا الصدد، أعرفه (بوضوح أكثر أو أقل). أقول في قرارة نفسي: صحيح أن هذا المرشد رائع حقا، أو: صحيح أن هذه النزهة مريحة حقا، إلخ... كل ذلك أريده من خلال أفعال إرادية. لكن، ماذا لو امتنعت عن اتخاذ القرار؟ أحيانا أقرر عدم اتخاذ أي قرار بخصوص أمر ما.
الخلاصة، إذن، هي أن حرية الإنسان تتكون من متواليات من أفعال التصرف (أو عدم التصرف) (أ) المقترفة من قبل رجل-أو-امرأة؛ (ب) المؤلفة من أفعال معرفة، وتطلع إلى، شيئ ما: بما في ذلك، على أية حال، أفعال التفكير والإرادة؛ (ج) المشروطة بما يتعلق بالفاعل. بالإضافة إلى أن (د) كل فعل من هذه الأفعال له تأثيره على الأفعال الحرة، المتعاقبة، لنفس الشخص. كل هذا يساهم إذن في تكوين شخصيته. هذه المكونات وهذه الخصائص موجودة مع أي فعل حر، بشري.
هناك أربع ملاحظات على مدى حريتنا: إما (1) على حسابنا، أو (2) لصالحنا؛ أو مع (3) حوافز على بلوغ المثل الأعلى، أو مع (4) "أحلام اليقظة" اللامحدودة. أما بخصوص الحرية الإنسانية في هذا العالم، يمكن إضافة العديد من الملاحظات الأخرى. سوف نتوقف عند الرابعة، وهي الأهم.
كل واحد حر تماما طوال حياته في هذا العالم بحيث، من ناحية، (1) يمكنه أن يدمر نفسه: يكفيه فقط أن يتعاطى للمخدرات.؛ لكن هذا فيه تزييف للحرية. من ناحية أخرى، (2) كل واحد يستطيع اتخاذ قرارات سليمة، وهكذا يطور شخصيته: هذه هي الحرية الحقيقية. فوق كل ذلك، ها هي رغبات لانهاية لها، كأن (3) ينطلق شخص ما نحو مثل أعلى، أو كأن (4) ننساق مع أحلام اليقظة: يتخيل شخص ما أيضا الجنة قائمة على أرضنا. لذلك هناك طرق مختلفة جدا في العيش بحرية. وبالتالي، هناك أيضا اختلافات جذرية بين الأفكار التي تتكون لدينا بهذا الصدد. علام يتوقف ذلك؟
(يتبع)
--------------------------------
المرجعان: https://journals.openedition.org/rgi/378
- FRANCESCA RIVETTI BARBO, LIBERTÉ ET VÉRITÉ
DU SAVOIR COMMUN À LA PHILOSOPHIE