آخر مقالات الفلسفة والتربية
المزيد
فلسفـة و تربية
كانت الأسئلة ولا تزال مفاتيح لتبديد حيرة الإنسان إزاء ذاته والموجودات من حوله. كلما استوقفه غموض أو غرابة، إلا وتوسل بتلك العملية الفطرية التي حقق بفضلها قفزات علمية وحضارية هائلة. بل ليس من المبالغة القول بأن أي حدث تاريخي أو علمي أو حتى مأساوي لم يخلُ من سؤال أو أسئلة سبقته، وحفزت البشرية للبحث عن أجوبة.
نتساءل عن كل شيء في حياتنا اليومية، لكن تكمن المشكلة في عدم امتلاكنا المسبق لصيغة تحدد الأسئلة التي يجب طرحها، وتلك التي ينبغي تنحيتها. وحتى يكون السؤال في محله فالمرء بحاجة إلى ما يشبه الموهبة التي يمكن أن يتعلمها؛ كأن النجابة تتوقف على طرح السؤال الجيد الذي يتناسب مع السياق، أي مع البيئة العامة التي توفر للسائل والمتلقي فهما أفضل للتوقعات. لذا تضعنا كتب اللغة والأدب أمام آلاف الوضعيات التي تختبر مقدرتنا على تفكيك الغامض والمبهم والمدهش، بنحت مثير عقلي واضح، يتوقف عليه حدوث استجابة ملائمة، وذلك هو السؤال!
ضمن حكايات وأخبار متفرقة، يحيل ظاهرها على الطرفة والإمتاع، ينبه ابن الجوزي قارئ كتابه (أخبار الأذكياء) إلى ثلاثة أغراض ينشد تحقيقها وهي:
- معرفة أقدارهم (الأذكياء) بذكر أحوالهم.
- تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة.
- تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من يعسر عليه لَحاقه.
وبين المعرفة والتلقيح والتأديب يتشكل فن السؤال باعتباره مرآة النجابة، ومظهرا أساسيا يكشف عن قوة الفطنة، وقوة جوهرية العقول:
" قال رجل لهشام بن عمرو القرَظي: كم تعُدّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم تعدّ من السن؟ قال: اثنتين وثلاثين سِنّة، ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم لك من السنين؟ قال: مالي منها شيء، كلها لله عز وجل، قال: فما سنك؟ قال: عظم، قال: فابنُ كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أب وأم، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليّ شيء لقتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟".
تفتح الأسئلة إذن خيارات التعلم للانتقال بالفرد من وضع التلقي السلبي إلى وضع التعلم النشط والحيوي والمتكامل. لا غرو إذن أن تشكل الأسئلة جوهر العملية التعليمية في فضائنا المدرسي، إذ لا يتصور في الأذهان تدريس خال من طرح الأسئلة، خاصة في ظل المقاربات الحديثة التي تبدي وعيا أكبر بضرورة التمحور حول المتعلم وتلبية احتياجاته.
إن كتاب جان جاك روسو، الذي ولد في 28 يونيو 1712 في جنيف وتوفي في 2 يوليو 1778 في إرمينونفيل، "إميل" أو "في التعليم" هو عبارة عن نصف أطروحة ونصف رواية تحكي قصة حياة رجل خيالي يدعى إميل. في هذا الكتاب، يتتبع روسو مسار تطور إميل والتعليم الذي تلقاه، وهو تعليم مصمم ليخلق فيه كل فضائل "الشخص الطبيعي" المثالي لروسو، والذي لم يفسده المجتمع الحديث. وفقًا لروسو، لا يمكن رعاية الخير الطبيعي للإنسان والحفاظ عليه إلا وفقًا لهذا النموذج التوجيهي للغاية للتعليم، ويذكر روسو أن هدفه في إميل هو تحديد الخطوط العريضة لهذا النموذج - وهو نموذج يختلف بشكل حاد عن جميع الأشكال المقبولة من التعليم. يقترح نظام روسو التعليمي تفاصيل طرق تدريس محددة لكل مرحلة من مراحل الحياة، وطريقة تعليمية تتوافق مع الخصائص الخاصة لتلك المرحلة من التطور البشري. وبناء على ذلك، تم تقسيم إميل إلى خمسة كتب، كل منها يتوافق مع مرحلة من مراحل النمو. يصف الكتابان الأول والثاني عصر الطبيعة حتى سن الثانية عشرة؛ يصف الكتابان الثالث والرابع المراحل الانتقالية للمراهقة؛ ويصف الكتاب الخامس عصر الحكمة، الذي يتوافق تقريبًا مع الأعمار من عشرين إلى خمسة وعشرين عامًا. يدعي روسو أن هذه المرحلة يتبعها عصر السعادة، وهي المرحلة الأخيرة من التطور، والتي لم يتناولها في إميل. في الكتابين الأول والثاني، يصر روسو على أن الأطفال الصغار في عصر الطبيعة يجب أن يركزوا على الجانب الجسدي لتعليمهم. مثل الحيوانات الصغيرة، يجب تحريرهم من القماط الضيق، وإرضاعهم من أمهاتهم، والسماح لهم باللعب في الخارج، وبالتالي تنمية الحواس الجسدية التي ستكون أهم الأدوات في اكتسابهم للمعرفة. لاحقًا، عندما يقتربون من سن البلوغ، يجب تعليمهم حرفة يدوية، مثل النجارة، والسماح لهم بالتطور فيها، مما يزيد من قدراتهم البدنية والتنسيق بين اليد والعقل. ويواصل روسو القول إنه عندما يدخل إميل سنوات مراهقته، عليه أن يبدأ التعليم الرسمي. ومع ذلك، فإن التعليم الذي يقترحه روسو يتضمن العمل فقط مع مدرس خاص ودراسة وقراءة فقط ما يثير فضوله، فقط ما هو "مفيد" أو "ممتع". يوضح روسو أنه بهذه الطريقة سوف يقوم إميل بتثقيف نفسه بشكل أساسي وسيكون متحمسًا للتعلم. سوف يغذي حبه لكل الأشياء الجميلة ويتعلم ألا يقمع انجذابه الطبيعي نحوها. يقول روسو أن فترة المراهقة المبكرة هي أفضل وقت لبدء مثل هذه الدراسة، لأنه بعد البلوغ يكتمل نمو الشاب جسديًا ولكنه لا يزال غير فاسد بسبب عواطف السنوات اللاحقة. إنه قادر على تطوير قدراته العقلية، تحت إشراف معلم يحرص على ملاحظة الخصائص الشخصية لطالبه ويقترح المواد الدراسية وفقًا لطبيعته الفردية.
" الحكايات تُحَف الجنة." مالك بن دينار
مثلما يقف الشعب باعتزاز على الأرض التي حررها بدماء أسلافه وبطولاتهم، فإنه يستلهم كيانه وهويته، ومُثُله وقيمه من ثقافته الشعبية التي تشكلت على مدار أزمان غابرة، لتصبح ذخيرته الحية، وعملته الحقيقية المتداولة في حاضره وغده.
ولأن الحكاية الشعبية جزء أصيل من تلك الثقافة، ووسيلة كل شعب لحفظ ذاكرته وخياله المشترك، فإنها لقيت عناية كبيرة لما تعكسه من تجارب حياتية، وأحلام ومخاوف، وآمال تلتمس التعويض في عالم مثالي. كذلك كانت الحكاية الشعبية حتى وقت قريب، قبل أن تداهمها التكنولوجيا بترسانة هائلة من وسائل الترفيه والتسلية، وتنزع عن الجدّات ثياب الحكواتي!
إن وظيفة حفظ التاريخ والذاكرة لا تمنع الحكاية الشعبية من أن تظل إنتاجا حيا ومتواصلا، ينسج من خلالها العقل البشري عالما مثاليا يطمح لتجسيده في واقعه، ويستدرك من خلاله نقائص المجتمع وخطاياه. تلك الاستمرارية رهينة إلى حد كبير باستثمارها كمدخل بيداغوجي، واعتمادها أداة ناجعة للتعلم، وتمرير القيم الأخلاقية، وتأسيس جمالية الحكي داخل فضاء تعلمي تفاعلي.
لهذا الفن القديم خصائصه ومرتكزاته التي تميزه عن سائر الأجناس الأدبية؛ حيث تتمتع الحكاية الشعبية ببساطة البناء والأسلوب، وبلغة خاصة ومتميزة تحقق الإيحاء والإثارة الفنية المطلوبة. للحبكة فيها دلائل نفسية وقيمية يصل دويها إلى أعماق المستمع. متحررة من خصوصيات الزمان والمكان والشخوص، مما أتاح لبنائها وتركيبها أن يكتسب سمات العالمية. هكذا تنقلت حكاية "سندريلا" من خلال ثلاثمئة وخمسة وأربعين نصا مختلفا، عبر رقعة تمتد بين روسيا وإيرلندا، فهي في إيطاليا "سينيرنتولا"، وفي فرنسا" سندريلون"، وفي ألمانيا" اشينبويل"، وفي المجر "بوبلوث"، وفي روسيا" جيرنوشكا"، بينما يرقى تاريخها في الصين إلى ما قبل سنة 800 ميلادية تحت اسم" يه هسين"، قبل أن تأخذ في الشرق لقب "ست الحسن".
تقوم الحكاية الشعبية على سرد مباشر يروم الإقناع والتأثير، ويتخذ من المغامرات الخيالية والأحداث الغريبة موضوعا له. وقد تكون الأحداث حقيقية، غير أنها مُزجت بآمال الناس وأحلامهم وخلاصات تجاربهم، فحررتها من صلتها المباشرة بالواقع لتعتمد على الخوارق والعجائب، وتضفي على الطبيعة الإنسانية المتشابهة في كل مكان وزمان، أزياء محلية متنوعة. ولذلك التشابه العالمي تفسيراته، من بينها الترجمة، والنشاط التجاري بين البلدان، بالإضافة إلى تحركات الجموع البشرية الموسومة بالهجرة.
مقدمة :
يعتبر كارل يونغ (1875 - 1961) مؤسس علم النفس التحليلي و واحدا من أهم رواد مجاله. أسس ما يسمى اليوم ب "علم النفس اليونغي" و الذي يختلف عن غيره من فروع علم النفس بعدة مميزات، من ضمنها بعض المفاهيم الجديدة التي صاغها و عرفها من خلال كتبه، إضافة إلى نظرياته التي باتت جزءا لا يتجزأ من الأدبيات العلمية المتعلقة بعلم النفس.
يركز علم النفسي اليونغي على الطفولة كونها فترة جد مهمة للنمو النفسي لدى الفرد، إذ أنها الفترة التي تتشكل فيها الأنماط الأولية و يكتشف الطفل ذاته ويبني تكامله النفسي و العاطفي خلالها. و في نفس السياق، فإن أدب الأطفال شكل من أشكال الفنون التي تقوي اتصال الفرد بالعالم حوله و تصقل إنسانيته و حسه الفني لتجعل منه كائنا حساسا ينتمي إلى مدرسة الرومانسية و تعلمه كيفية التواصل مع أحاسيسه الأكثر تعقيدا. فكيف يؤثر أدب الأطفال في نموهم السيكولوجي و كيف له أن يساهم في تكوين شخصيتهم؟
أدب الأطفال كوسيلة للتربية و التعليم :
إلى جانب سبل التعليم التقليدية التي تعتمدها معظم المدارس الحكومية في العالم، شهد المجال التربوي ظهور أساليب جديدة تهدف إلى جعل عملية التعلم أكثر متعة بالنسبة للطفل. من بين هذه الأساليب نجد القصة المصورة التي تمكن المعلم من تحقيق أهداف دراسية عديدة من خلال نشاط واحد، إذ أن القصة المصورة تساعد الطفل على تعلم القراءة والتعود عليها، و تلقنه الأخلاق و القيم الحسنة، كما تمده بالمعرفة الثقافية و العلمية.
من الطبيعي جدا أن يجد الطفل ذاته من خلال التعرف عليها في شخصيات خيالية معينة و أن يتعاطف معها و مع قضاياها؛ هذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرة الطفل على رصد الأنماط الأولية (Archetypes) التي تحتوي عليها معظم الكتب و الروايات، سواء أ كانت للصغار أم للبالغين. تعتبر هاته الأنماط الأولية لدى كارل يونغ إمكانات فطرية يتم التعبير عنها في السلوك والتجارب البشرية و تعززها التجارب الفردية والثقافية[1]. انطلاقا من ملاحظة هذه الأنماط و رصدها من خلال التفاعلات الاجتماعية التي تحدث خلال فترة الطفولة، يتمكن الطفل من بناء نظرة أولية على المجتمع و فهم مكامن النفس البشرية المعقدة بطبيعتها. إضافة إلى الملاحظة التي تعد أداة من أدوات التعلم، فإن القراءة وما تقدمه من رصيد معرفي للأطفال كما للبالغين تغنيهم علما و اطلاعا على اﻷنماط اليونغية التي تؤطر تفاعلاتهم الاجتماعية خلال حياتهم البالغة. يعد أدب الأطفال بمثابة وسيلة لدمقرطة القيم و الروح الأخلاقية، وذلك بفضل العنصر القيمي الذي يزخر به هذا الصنف الأدبي، إذ يقدم الكاتب عادة شخصيات خيالية عديدة منها الخَيِّرُ و منها الشرير، كما ينشر من خلال اللغة و جماليتها حب الجمال و تفضيله، و يقدم دروسا حياتية للقارئ عبر حبكة أدبية مميزة من شأنها أن تنمي الحس الإبداعي لدى الطفل. ثم إن تشجيع الأطفال على القراءة يدفعهم إلى التعود على هذا النشاط التعلمي، مما يجعل مسارهم الدراسي حافلا بالنجاح و التميز الأكاديمي، و يغرس حس الفضول وحب المعرفة فيهم منذ الطفولة ليعودهم على ما فيه نفع لهم.
قبل أن يوجد المخرج كانت النصوص المسرحية تحمل في طياتها إرشادات وتوجيهات، تحدد شكل العرض وصياغته المشهدية. وبتتبع تاريخ العرض المسرحي في كل الحضارات، أمكن رصد التشكلات الأولى لدور المخرج باعتباره مسؤولا عن الولادة الثانية للنص، من خلال تنظيم مكوناته من أداء، وديكور، وموسيقى، وأضواء.
في القرون الوسطى كان ترتيب المناظر والحيل المسرحية، كما يصفها أرسطو في كتابه (فن الشعر) يقع على عاتق مدير اللعبة Meneur de jeu، وهي المهمة التي قد يتولاها الممثل الأول في الفرقة أو حتى مصمم الديكور. لكن في نهاية القرن التاسع عشر سيترافق ظهور الإخراج، كمكون أساسي في العملية المسرحية، مع ميلاد السينما، والتغيير الهائل الذي أحدثته في تركيبة الجمهور وأذواقه. وسعى منذ ظهوره إلى التجريب والبحث عن صيغ وجماليات متنوعة. لكنه خلال رحلته المديدة التي يُرجعها العلماء إلى زمن الفراعنة، لم يلتفت لجمهور الصغار إلا قبل مئة عام أو يزيد قليلا.
من المعلوم أن مسرح الطفل نشأ في سياق البحث عن طرائق تربوية جديدة لتربية وإرشاد الأطفال. وبفضل المنجز الذي حققته الأبحاث في ميادين علم النفس، برزت سمات وخصائص نمائية لمرحلة الطفولة، شجعت على توظيف المحاكاة الفطرية التي يتمتع بها الطفل منذ سنواته الأولى، ضمن إطارها الفني، عبر ثلاث محاور: التمثيل للطفل، والتمثيل مع الطفل، ثم الطفل يمثل بمفرده. هكذا نشأت بوادر الكتابة المسرحية للطفل، وتقريب مكونات العرض المسرحي من عالم الطفولة الفريد، ومن بينها الإخراج بطبيعة الحال.
إن تطوير الذوق الفني والجمالي للطفل، وبناء ثقته بنفسه، وتغيير توجهاته الفكرية والثقافية والاجتماعية لهي أهداف يلتئم حولها كاتب النص ومخرجه. بمعنى أن العرض المسرحي الذي يؤديه الطفل ويشاهده، ليس فقط وسيلة تربوية لغرس القيم، وتوجيه السلوك وجهة محمودة، وإنما هو أيضا اندماج مع عالم مواز لحياته اليومية؛ أعني عالم المسرح بتقنياته المختلفة، من اكسسوار وماكياج وإضاءة ومؤثرات صوتية. وهو الاندماج الذي يحتم العناية بالعملية الإخراجية، والتعرف على أسسها وقواعدها التي تسهم في إعداد الممثل الصغير.
يلج الطفل عالم المسرح متوسلا بميله الفطري إلى المحاكاة. تلك المهارة المتجذرة في طبيعته الإنسانية والتي تعتمد على الصوت والجسد في تقليد الآخرين، واكتساب المعارف الأولية، بالإضافة إلى التأثر بما يجري في محيطه. وهي في الوقت نفسه إحدى خواص الفن المسرحي، متى أحسن المدرس أو المنشط تحفيز أداء الطفل، وإعداده لتجربة متنوعة تعتمد الاستخدام الكامل لإمكاناته.
ليس الهدف بالضرورة خلق ممثل محترف، إذ يؤمن الطفل في النهاية بأن الأداء المسرحي هو لعبة للتنفيس عن توتره، وتنظيم انفعالاته، ومعالجة بعض مشاكله النفسية كالخجل وعيوب النطق. لكن ما الذي يمنع من الارتقاء بما يجري داخل الفصل الدراسي، أو في دور الشباب ومراكز الطفولة، إلى ممارسة واعية وممتدة، تتحرر من البساطة والتلقائية المعهودة لتربية الممثل الصغير؟
قدم المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي منهجا وطريقة في تدريب الممثل، تهتم بتفجير ملكات المخيلة والإبداع. وهو يؤمن بأن الممثل الذي يستشعر الموقف الوهمي، لن يجد صعوبة في التجسيد وإظهار العواطف والانفعالات الملائمة. وتعتمد طريقته على استرخاء الجسم والصوت، وتركيز الانتباه، وتحفيز الخيال دون فرض قواعد أو نماذج مسبقة.
يرتكز إذن تدريب الممثل وفق أسلوب ستانيسلافسكي على:
- الاسترخاء: وذلك من خلال تمارين يتم تنفيذها مع كل جزء من أجزاء الجسم على حدة، وتهدف لتقليل التوتر، والسيطرة التامة على الصوت والجسد. ويمكن تشبيه الاسترخاء هنا بعملية ضبط الآلة الموسيقية قبل العزف.
- التركيز: ويتضمن اختيار الممثل لموضوع أو مشكلة محددة للتدرب عليها. ويخدم التركيز هنا عدة جوانب من بينها: عزل الممثل عن التشويش الخارجي، وتحرير العقل ليتمكن من خلق المشهد المتخيل، ثم العيش في الجو التمثيلي كأنه حقيقة واقعية" مثلا التدريب على حمل كوب من الشاي، حيث يستعين الطفل بكوب حقيقي، ثم يحاول أن يستعيد تلك الخبرة مع كوب خيالي، مستحضرا وزنه وملمسه والسخونة التي يسببها".
تبدأ علاقة الطفل بالقصة والحكاية مستمعا ثم قارئا؛ لكن المسرح بإمكاناته الهائلة ينقله إلى عالم جديد قوامه التمثيل والفرجة، والمزج بين التعبيرات المتعددة على الخشبة. وهو انتقال يتطلب بالأساس اهتماما بالسمات النفسية التي تُمهّد لعلاقته بالمسرح؛ حيث إن الطفل يولد فنانا، يقول بابلو بيكاسو، لكن المشكل هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما يكبر.
غير خفي إذن أن مسرح الطفل تتحكم في إنتاجه اعتبارات تربوية وفنية، متسقة بطبيعة الحال مع النمو النفسي والإدراكي والمعرفي للطفل. وهذا يعني أن إعداد عمل مسرحي ينطلق من استيعاب للخصائص السيكولوجية للطفل والمراهق؛ لأن عدم الاهتمام يؤدي في النهاية إلى تقديم عروض مسرحية ضعيفة أو مربكة لقدراته الذهنية. وبالنظر إلى عدد السنوات التي يقضيها الطفل في حضن المدرسة الابتدائية، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين:
- مرحلة الخيال الحر والمطلق، حيث يتطلع الطفل في الفترة ما بين 6 إلى 9 سنوات إلى عوالم خيالية، تستوعب رغبته في المتعة والانطلاق خارج حدود واقعه اليومي. لذا يُظهر ميلا شديدا لقصص الحوريات والعمالقة والأقزام، وللحكايات المستلهمة من التراث الشعبي.
- مرحلة البطولة والمغامرة والخيال الواقعي، وهي الممتدة إلى سن 12 سنة، حيث يبدأ تحرر الطفل تدريجيا من عالم الخيال، ليصير تفكيره أكثر نضجا واستعدادا لإظهار الشجاعة والمسؤولية. وخلال هذه المرحلة تستهويه قصص المغامرة التي تعتمد التفكير والتوقع، وتجعل من شخصية البطل قالبا ملائما لتمرير القيم والمواقف، وتأكيد ارتباطه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المختلفة.
تحدد تلك الخصائص وجهة المدرس أو المنشط في اختيار النص المسرحي الذي يتناسب مع إدراك الطفل واحتياجاته. نص ينبغي أن يتحقق فيه قدر من التبسيط، ووضوح العلاقات بين شخصياته، وبناء درامي تتنامى داخله الأحداث بشكل تسلسلي لا يعتمد القفزات المفاجئة.
بالنظر إلى الصعوبات التي تكتنف الكتابة المسرحية للطفل في العالم العربي، فإن المدرس أو المنشط يجد نفسه أمام خيارين: إما إيجاد نص ملائم، أو بذل جهد إضافي يتمثل في مسرحة نص أدبي " قصة، حكاية، شعر..." مع متطلبات البناء المسرحي. وفي كلتا الحالتين لابد من مراعاة بعض القواعد التي تجعل النص ملائما لنفسية الطفل وقدراته.
تشير البيداغوجيا التلقينية إلى تربية وتلقين المتعلمين مجموعة من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات في سياق ضبطهم إياها، حيث تجعل من ضبط محتوى ومضامين المعرفة الغاية الأسمى من كل تعليم، حيث يركز الأستاذ المدرس على الجانب/البعد المعرفي في المتعلم ويقصي الجوانب الأخرى، ومن هنا تنطلق البيداغوجيا التلقينية أو كما عرفت في الأدبيات التربوية ببيداغوجيا المضامين أو المحتوى، وهي بالمناسبة بيداغوجيا تقليدية تلقينية، لأنها تنطلق من مسلمة/فرضية أساسية وهي أن عقل التلميذ صفحة بيضاء ومن ثم وجب ملؤه وشحذه بكمية من المعارف والعلوم الجاهزة، بدون مراعاة لتمثلاته الشخصية التي يكتسيها من المحيط الإجتماعي الذي يندرج منه، ومن ثم فهي تؤكد على قيمة وأهمية التلقين على حساب الإبداع، وذلك من خلال محاكاة المتعلم لسلطة النموذج السلوكي والتشبع بالعديد من القيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة، بدون فحصها وتمحيصها لهذا يتم نعتها بالمقاربة التلقينية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه توجد العديد من الممارسات المهنية لبعض المدرسين -في جميع المواد التعليمية- لازالت تركز لنا على الجانب المعرفي والفكري للمتعلم، ويتم التركيز بالخصوص على المضامين والمحتويات المعرفية، وكأن رهان تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي هو شحذ ذهن المتعلم بمنظومة من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات الفلسفية -التي أصبحت متجاوزة وتعرضت للكثير من النقود- فيركز الأستاذ /المدرس على سيرورتي إفهام تصور الفيلسوف وتذكير المتعلمين بحفظه وضبطه جيداً، من أجل استرجاعه أثناء المراقبة المستمرة أو الامتحان النهائي، وهكذا يتم ضمان نقطة كاملة في مادة الفلسفة وغيرها من المواد.
ما نلحظه هنا هو أن ما يميز المقاربة التلقينية هو أنها مقاربة تقليدية تركز على أسلوبي التلقين والاجترار والتكرار والاسترجاع، كما تركز على ملكة الذاكرة، بدل ملكة الفهم والإدراك والعقل، كما أن ما يميزها هو رفضها لكل إبداع وخلق وابتكار وتجديد وبحث ...
فماذا سننتظر من مادة الفلسفة في ضوء هذه البيداغوجيا التلقينية؟ سوى أن تتحول هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية والتساؤلية إلى منظومة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي يكررها المتعلمون كالببغاوات، فتجدهم يكررون قولة أو كوجيطو رونيه ديكارت الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، دون إدراك عمقها الفكري والفلسفي، بل وكيف أسست للفلسفة الحديثة، وركن الحداثة، وأن هذه المقولة ما هي سوى صَدَى وَرَدُّ فِعْلٍ للثّوْرَةِ الكُوبِّيرْنِيكِيّةِ الشهيرة لسنة 1543م.
وما يهمنا هنا في حقيقة الأمر هو سعي الأستاذ /المدرس الحثيث إلى تلقين المتعلمين المنظومة المعرفية المثقلة التي تنتمي لتاريخ الفلسفة الضخم، وهي معارف ترنسندنتالية بمعناها المتعالي والعاجي، لم يساهم المتعلم في تكوينها وتكونها نتيجة هذه البيداغوجيا التي تعتمد التلقين.
هكذا يعتمد تعريف التلقين على تلك العقيدة المرتبطة به، أو المذهب الذي يتمّ تعليمه. لهذا تهدف البيداغوجيا الحقيقية إلى تكوين أفراد مسؤولين وواعين يفكرون بأنفسهم لأنفسهم مهما حدث ويحترمون الآخرين. بالنسبة إلى أوليفيي روبول، " فإن أي تعليم ينحرف عن هذه الأهداف هو "تعليم مضاد". ويضيف أن المدرس يواجه دائمًا خطر التأثير على طلابه إما لأنه ينخرط في الدعاية أو، على العكس من ذلك، لأنه يُشْعِرُهُمْ بالمَلَلِ من تَعْلِيمِهِم. " [1].
ولهذا نلحظ العديد من المتعلمين الذين يخلق لديهم هذا الأسلوب التلقيني العقيم في التدريس، الملل والرتابة والضَّجَرِ، لهذا تجدهم يعبرون عن تذمرهم وسوء فهمهم للمعارف الفلسفية بل وكيفية تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع.
الدرجات الفخرية هي الاعتراف المرموق في التعليم العالي، مخصصة للأفراد البارزين ذوي السمعة الوطنية أو الدولية. عادةً ما يكون المتلقون هم كبار العلماء والمكتشفين والمخترعين والمؤلفين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين والقادة في السياسة أو الحكومة. في بعض الأحيان، يتم منح الدرجات الفخرية للأشخاص الذين قدموا خدمة مدى الحياة للجامعة من خلال عضوية مجلس الإدارة، أو العمل التطوعي، أو المساهمات المالية الكبيرة. وهي معروفة أيضاً بالعبارات اللاتينية Honoris Causa الدرجة عادة ما تكون درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير بصورة أقل شيوعاً.
إذن الدكتوراه الفخرية هي درجة اسمية تكريمية وتشريفية، وليست مرتبة علمية أو أكاديمية، ولا تحمل معها أي مؤهل أكاديمي رسمي. على هذا النحو، من المتوقع دائماً أن يتم إدراج هذه الدرجات العلمية في السيرة الذاتية للفرد كجائزة، وليس في قسم التعليم. وفيما يتعلق باستخدام هذا اللقب التشريفي، فإن سياسات مؤسسات التعليم العالي تطلب بشكل عام من الحاصلين عليه "الامتناع عن اعتماد اللقب المضلل" وأن الحاصل على الدكتوراه الفخرية يجب أن يقيد استخدام لقب "الدكتور" قبل اسمهم حصراً مع مؤسسة التعليم العالي المعنية وليس خارجها.
تسلط شهادات الدكتوراه الفخرية الضوء على أسئلة غير مريحة، ولكنها مهمة حول غرض الجامعة ودورها في تعزيز البحث العلمي، وفي المجتمع الأوسع. اتُهمت بعض الجامعات والكليات بمنح درجات فخرية مقابل تبرعات كبيرة. يتعرض الحاصلون على الدرجة الفخرية، وخاصة أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات أكاديمية سابقة، للانتقاد في بعض الأحيان إذا أصروا على أن يطلق عليهم لقب "دكتور" نتيجة لمنحتهم، لأن التكريم قد يضلل عامة الناس بشأن مؤهلاتهم.
الأصل التاريخي
تعود هذه الممارسة إلى العصور الوسطى، عندما يتم إقناع الجامعة، لأسباب مختلفة ـ أو تراها الجامعة مناسبة ـ بمنح الإعفاء من بعض أو كل المتطلبات القانونية المعتادة لمنح الدرجة العلمية.
لقد تم استخدام الدكتوراه الفخرية منذ فترة طويلة لتعزيز العلاقات المفيدة مع الأفراد أو البلدان أو المنظمات. منحت جامعة أكسفورد أول دكتوراه فخرية مسجلة في حوالي عام 1478 إلى "ليونيل وودفيل" Lionel Woodville صهر ملك إنجلترا "إدوارد الرابع" Edward IV في محاولة واضحة "للحصول على تأييد رجل يتمتع بنفوذ كبير، وأصبح فيما بعد أسقف "سالزبوري" Salisbury.
في أواخر القرن السادس عشر، أصبح منح الدرجات الفخرية أمراً شائعاً جداً، خاصة بمناسبة الزيارات الملكية إلى أكسفورد أو كامبريدج. في زيارة "جيمس الأول" James I إلى أكسفورد عام 1605، على سبيل المثال، حصل ثلاثة وأربعون عضواً من حاشيته (خمسة عشر منهم من الإيرل earls أو البارونات barons ) على درجة الماجستير في الآداب، وينص سجل الدعوة صراحة على أن هذه كانت درجات كاملة تحمل الامتيازات المعتادة (مثل حقوق التصويت في الدعوة والتجمع).
تمهيد
لعل مصطلح "فلسفة جذرية" يُطلق على مجموعة من المصلحين في أوائل القرن التاسع عشر الذين استندوا في تعاملهم مع الحكومة والمجتمع إلى حد كبير على النظريات النفعية لجيريمي بينثام، وإن كانوا قد تأثروا أيضًا بمالثوس وريكاردو وهارتلي. وكان من أبرز المؤيدين جيمس وجون ستيوارت ميل وجورج جروت وجون رويبوك، بدعم من مورنينج كرونيكل وويستمنستر ريفيو ولندن ريفيو. ولم تنجح جهودهم في بناء حزب راديكالي في البرلمان بعد عام 1832: "لم يفعلوا سوى القليل لتعزيز أي آراء"، كما كتب ج. س. ميل، "كان لديهم القليل من المبادرة والنشاط". لكن التأثير العام للأفكار النفعية تغلغل في السياسة، وخاصة في الفترة من 1820 إلى 1850، أنتج "عصر الإصلاح". في هذه المقدمة الموجزة، نوضح الأهداف والأساليب التحررية المشتركة للعديد من الفلسفات الراديكالية، من الماركسية والنسوية إلى نظرية العرق والمثلية النقدية. تدرس الفلسفة الراديكالية العلاقات بين النظرية والممارسة، والمعرفة والقوة، فضلاً عن وظيفة القانون في خلق أشكال خارجة عن القانون من الهيمنة. من خلال المشاركة النقدية في تاريخ الفلسفة، نعيد بناء التقاليد المضادة المهمة للأشكال التاريخية والجدلية والتفكرية للنقد ذات الصلة بالنضالات الاجتماعية المعاصرة. والنتيجة هي دليل مبتكر ومنهجي للنظرية الراديكالية والمقاومة النقدية. فمتى نشأت الفلسفة الجذرية؟ وماهي خصائصها ومهامها؟ وهل يمكن تحيين للفلسفة الجذرية؟
الترجمة
"كان بينثام من أتباع الفلسفة السياسية النفعية التي نشأت عن الفقيه القانوني الإنجليزي جيريمي بينثام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبلغت ذروتها في عقيدة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. كان بينثام يعتقد أن "الطبيعة وضعت البشرية تحت حكم سيدين، الألم والمتعة" وأن الأفعال يجب أن يحكم عليها أخلاقياً بأنها صحيحة أو خاطئة وفقاً لما إذا كانت تميل إلى تعظيم المتعة وتقليل الألم بين المتأثرين بها أم لا. وقد استكشف بينثام آثار هذا المبدأ على المؤسسات القانونية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. وقد طور ميل نظرية بينثام وصقلها، حيث رأى أن الأفعال صحيحة بما يتناسب مع ميلها إلى تعزيز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. ومن بين الفلاسفة المتطرفين الآخرين الاقتصاديين جيمس ميل وديفيد ريكاردو، والفقيه القانوني جون أوستن، والمؤرخ جورج جروت. وقد فضلوا الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من كونهم من المنظرين في المقام الأول، فقد سعوا إلى تحقيق تأثير عملي كبير وحققوا ذلك. التنوير يُعرف أيضًا باسم: عصر العقل، أو التنوير، أو عصر النور. الشخصيات الرئيسية: فرانسيس بيكون، إيمانويل كانط، جون لوك، فريدريش نيكولاي، جان جاك روسو. أهم الأسئلة هي متى وأين حدث التنوير؟ وما الذي أدى إلى التنوير؟ من هم بعض الشخصيات الرئيسية في عصر التنوير؟
منذ اسبينوزا، كنا حذرين من النزعات الأحادية (النظريات التي تؤكد أن الكل هو واحد)، لأننا نشتبه في أنها تؤدي إلى وحدة الوجود، وبالتالي إلى الإلحاد. يطمئن هيجل المنتقدين المحتملين لهذه النقطة ويتجنب الرقابة، من خلال إظهار أننا نستطيع تصور شكل من أشكال الأحادية التي تحافظ على فكرة الله؛ يكفي أن يتم تعريف الكل على أنه روح وليس مجرد جوهر:
"أحدث فهم الله باعتباره الجوهر الواحد ثورةً في القرن الذي جاء فيه هذا التعريف […]؛ كان السبب […] في غريزة أن الوعي الذاتي ما تم الحفاظ عليه فيه، ولكنه ببساطة غاص فيه".
مع ذلك، لنلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى هيجل لا يتعلق بتعارض بين الجوهر والروح: قد نبقى في ثنائية، غير قادرين على القيام بتوليف بين مصطلحين متعارضين. على العكس من ذلك، يعرف هيغل الحقيقي، المطلق، بالطريقة التالية: "هو الجوهر الروحي".
في الواقع ، لا يدعي هيجل أنه يقوم بعمل أصيل من خلال تعريف المطلق بكونه روحا. ويؤكد أن هذه هي مساهمة المسيحية اللاتعوض، والتي تشكل حقيقة عصرها: المطلق كروح: مفهوم سام بين الجميع، والذي ينتمي حقا إلى العصر الحديث وديانته. الحقيقي ملموس كما رأينا؛ لكن الروحي هو وحده الفعال. وكل شيء آخر مجرد، وما هو إلا تحديد للعقل مفصول بالتجريد عن هذا الأخير.
نستطيع إذن إعادة تركيز تفسيرنا حول فكرة "الروح". قلنا في بداية شرحنا أن مشروع هيجل هو دراسة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي يمكن أن تتخذها الحقيقة. يمكننا الآن إعادة صياغة ذلك بعبارات أكثر ملاءمة، قائلين إننا نبحث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الروح عبر التاريخ، في صيرورته الجدلية.
في الحقيقة، الأمران مرتبطان: الحقيقة هي ما يبدو كذلك للعقل. أو مرة أخرى، لا توجد حقيقة دون عقل يكتشفها. إن الحديث عن الأشكال المتعاقبة للحقيقة يعني في الواقع الحديث عن الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن الحقيقة. لكن بما أن الروح هي الكل، المطلق، الواحد في عبارة "الكل هو واحد"، يمكننا أن نقترح هذه الصيغة الأخيرة: نسعى هنا لوصف الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن حقيقة ما هو.
للقيام بذلك، يجب أن ينكشف لنفسه. وبعبارة أخرى: يجب أن يعي نفسه. ولذلك تظهر صلة أساسية بين الوعي والعقل. إن العقل، قبل كل شيء، ليس إلا "في ذاته": هو ما هو، دون أن يعرف أنه كذلك.
إذا كانت الحقيقة كلا تتبلور أشكاله واحدا تلو الآخر في التاريخ، فإننا هنا أبعد ما نكون عن أي شكل من أشكال التصوف، الذي يدعي أنه يفهم على الفور الحقيقة المطلقة، من خلال نوع من الحدس. ما لا يُعطى على الفور، ولكن يتطور تدريجيا، لا يمكن إدراكه من خلال هذا الفهم المباشر للحقيقة والذي سيكون الحدس. على هذا الأخير، ينبغي تفضيل المفهوم، الذي هو العنصر الحقيقي الذي يمكن للحقيقة أن تظهر فيه، وهو العنصر الوحيد الذي يمكن أن يضمن علمية المعرفة الناتجة عنه: "الحقيقة […] لا وجود لعنصر وجودها إلا في المفهوم".
خصص هيجل عدة فقرات لإدانة هذا الوهم، الحدس الصوفي، الذي سيكون بمثابة معرفة مباشرة بالدين المطلق، بالوجود. ولخصه على النحو التالي: ليس من المفترض أن نتصور المطلق، بل أن نشعر به ونتأمله. ليس المفهوم، بل الشعور الذي لدينا تجاهه وما نفكر فيه هو الذي من المفترض أن يقود المناقشات وأن يتم ذكره.
إذا كان هيجل يطور هنا نقدا للمذهب الحدسي، فذلك لأنه كان “متداولًا” في الوقت الذي كتب فيه هذه السطور. ثم شرح أصل هذا الجنون على النحو التالي: مع فلسفة التنوير، وظهور العقل ونقد الدين الذي نشأ عنه، فقد الإنسان صلته الطبيعية بالعالم.
لقد أدى هذا النقد الموجه إلى التنوير إلى حل العلاقات التي كانت تربط الإنسان ببيئته، وبوجوده. لقد شكّل العصر الذي أعقب ذلك، عصر هيجل، عصر الرومانسية الألمانية المنتصرة، نوعا من ردة الفعل: نتيجة لذلك، حاول الإنسان إعادة اكتشاف علاقته الطبيعية - وبالتالي المباشرة - بالوجود، أو الله، من خلال رفض مفهوم (العديل للتنوير) ومن خلال تفضيل الحدس، هذه العلاقة المباشرة.
بالعقل، بنقد التنوير، بالتفكير الذي باشره من الآن في العالم وفي ذاته، لم يعد الإنسان يعيش بطريقة طبيعية، ولم يعد يتطابق مع نفسه بطريقة ساذجة. إنه الألم الذي يدركه ويحاول أن يجد علاجا له، بواسطة إعادة اكتشاف ارتباطه الأصلي بالوجود، بواسطة الحدس:
طوال القرن التاسع عشر، كانت الفلسفة الألمانية مسكونة بشبح الثورة الفرنسية. فقد أمضى كانط وهيجل وأتباعهما حياتهم في صراع مع تراثها المدوي، محاولين تصور مسار ألماني خاص نحو "ثورة بدون ثورة". وبسبب حصار المجتمع المتحجر سياسياً، اندفع المثقفون الألمان إلى التفكير في طبيعة التجربة الثورية. في هذه الدراسة الطموحة والأصلية، يرسم ستاثيس كوفيلاكيس بانوراما غنية للشخصيات الفكرية والسياسية الرئيسية في فوران الفكر الألماني قبل ثورات 1848. ويوضح كيف دخلت محاولة رسم مسار إصلاحي معتدل في أزمة، مما أدى إلى توليد منظورين متعارضين داخل التيارات التقدمية في المجتمع الألماني. على الجانب الأول كان هناك هؤلاء الاشتراكيون - مثل موسى هيس والشاب فريدريك إنجلز - الذين سعوا إلى اكتشاف مبدأ الانسجام في العلاقات الاجتماعية. على الجانب الآخر، طور الشاعر هاينريش هاينه وكارل ماركس الشاب منظورًا جديدًا، يعبر عن القطيعة الثورية، وبالتالي إعادة تعريف مفهوم السياسة نفسه. يتضمن هذا الإصدار الجديد من الكتاب مقابلة طويلة مع كوفيلاكيس تضع العمل في سياقه. ربما يكون هذا أول إصدار جديد أصيل حقيقي لتكوين ماركس منذ تاريخ ما بعد الحرب الضخم الذي كتبه أوغست كورنو، ولكنه أيضًا نظرية جديدة لما هو الأكثر مركزية ومميزًا من الناحية البنيوية في إنجاز ماركس، ألا وهو الطبيعة السياسية الفريدة وقوى البروليتاريا. من المعلوم ان المؤلف ستاثيس كوفيلاكيس هو عضو سابق في حزب سيريزا في اليونان الذي انتُخِب للسلطة قبل أربع سنوات. لم يعد كوفيلاكيس عضوًا في المنظمة لأنه كان أحد النواب المعارضين الذين رفضوا استسلام رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس لحزمة التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي بعد فترة وجيزة من الانتخابات التي جلبت سيريزا إلى السلطة.
يتنزّل مفهوم الفضاء هو الآخر ضمن نسق الأشكال الرّمزيّة، إذْ سيعمل كاسيرر بنفس الطّريقة على نقل الخلاف حول الفضاء من ساحة الهندسة والعلوم الرّياضيّة إلى حقل الثّقافة. فيحُدّ بذلك من انحسار المفهوم في مجال الفيزياء والرّياضيات مُتخطّيا بذلك مقولة الفضاء المطلق عند الذرّيين وفكرة الفضاء الماقبلي في فلسفة كانط. وسيتبنّى كاسيرر وجهة نظر مغايرة ترى الفضاءَ ليس جوهرا ثابتا مطلقا بقدر ما هو مفهوم وظيفيٌّ عَلَقيٌّ ومنطقيٌّ. مثلما تحدّث عن أفضية أخرى يُنشئها الذّهن الإنساني بالتّرميز والتّخطيط وما الفضاء النّظري الرّياضي إلاّ واحد من ممكنات أخرى.
وقبل تفكيك وتفسير متصوّر الفضاء الكاسيرري، لا بدّ من التّذكير بالمتصوّرات السّابقة الكلاسيكيّة انطلاقا من الذرّيين وصولاً إلى كانط ولايبنتز حول الفضاء.
نُشير هنا إلى أنّ نظريّة الفضاء المُطلق، من أقدم النّظريات الكوسمولوجيّة حول الفضاء، وقد قال بها الذرّيون (Les atomistes) قبل سقراط مثل "لوسيب" (Leucippe de Milet) و"ديمقريدس" (Démocrite d’Abdère) و"أبيقور" (Epicure) وغيرهم. وأساس الفكرة أنّ العالم يتكوّن من جُزيئات أو ذرّات غير متناهية والفضاء هو بمثابة الوعاء الحاضن لهذه الأجسام والذرّات. وهو ثَاِبت وسابق بصفة منطقيّة لهذه الأجسام وقابل للبقاء في حال زوال هذه الأجسام. فهو فضاء ضروريّ وأبديّ وغير مخلوق. وفي ضوء هذا التّصوّر بنى فيما بعد أفلاطون نظريّته في الهندسة. ففي "طيماوس"[1] (Timée)، وهو الحوار الأخير من جملة محاوراته يقوم بتركيب العناصر الأساسيّة المُنشئة للكون وهي: الماء والهواء والنّار والتّراب على أربعة أشكال هندسيّة أساسيّة. فيمنحُ الماءَ شكْلَ "العشريني الوجوه" (Icosaèdre) والتّراب شكل المُكعّب والنّار شكل الهَرم والهواء أو الأثير شكل "الاثني عشر وجها" (Dodécaèdre).
ونفس مُتصوّر الفضاء المُطلق هو الّذي سيُكيّف الفيزياء الميكانيكيّة لدى نيوتن. ففي الأصول الرّياضيّة للفلسفة الطّبيعيّة يقول: "الفضاء المُطلق، بطبيعته وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، يبقى دائما ثابتًا وهو نفسه"[2]. ثمّ يُميّز في نفس السّياق بين الموضع والفضاء، فالموضِع نسبيٌّ وقابلٌ للإدراك الحسّي من خلال علاقته بالأجسام الّتي تحُلّ فيه، في حين الفضاء المطلق هو مفهومٌ مجرّد لا يمكن الاستدلال عليه إلاّ رياضيّاً. وعادة ما يخلط "الإنسان العادي [الفضاء النّسبيّ أو الموضع] بالفضاء الثّابت"[3] والمطلق. وجوهر الميكانيكا النيوتونيّة يقوم على تحديد الأشياء ضمن المواضع التي تحلّ فيها، أي كلّما حدّدنا شيئًا مّا في موضعٍ ما، نكون قد أنشأنا علاقةً. "فالكتاب موضوعٌ على الكرسيّ وهو بدوره على يسار النّافذة"[4]. فالمَوْضَعَةُ تعني إنشاءَ علاقةٍ مّا، يمكن أن تأخذ مثلاً صفة المسافة (بعيد، قريب) أو الاتجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام، إلخ).
كما لا يمكن عزل فكرة الفضاء المطلق واللاّمحدود عن مظانّها الميتافيزيقيّة المتحكّمة في النّسق النيوتني. إذْ هي في النّهاية تعبيرة فيزيائيّة عن فكرة اللانهائيّة الإلهيّة. وسيتوضّح الأمرُ أكثر في كتاب "البصريات"(1706) عندما يستعيرُ للفضاء عبارة "جهاز الاستشعار الإلهي"[5] (Sensorium dei)، أي أنّ الفضاءَ هو الموضعُ الذي من خلاله نتحسّس الوجود الإلهي ومن خلاله أيضًا يتجلّى الفعل الإلهي في تشكيل وتنظيم حركة الكواكب في الكون. فالفضاء هو بمثابة العضو الحسّي الذي من خلاله يكون الإلهُ حاضرًا وحالاًّ في العالم.
هذا المتصوّر لفضاءٍ مطلق لامتناهٍ، وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، سيلقى نقدا واعتراضا من قبل الفيلسوف الألماني "ويلهالم لايبنيتز"(Wilhelm Leibniz)، وسيُنقَلُ النّقاش الخلافي في شكل مناظرة بالتّراسل بين لايبنتز ونيوتن جُمعت تحت عنوان "مراسلات لايبنيتز وكلارك"[6]. وفي ضوء هذا النّقاش الخلافي سينحتُ كاسيرر تصوّره الجديد للفضاء المتعدّد.
ولا بدّ من التّذكير أنّ الفضاء النيوتني قائم على خاصيات بديهيّة وهو كذلك الوسيط الذي يؤثّر من خلاله الإلهُ في الأشياء. هذه الفكرة ينقضها "لايبنيتز" انطلاقا من مبدأ تنزيه الإله عن حاجته لوسيط حتّى يؤثّر ويفعل في الكون. فيقول في أحد ردوده: "لا توجد عبارة جديرة بالرّفض في هذا الموضع كتلك التي تمنحُ اللّه إحساسًا أو استشعارا. ويبدو أنّ مثل هذه الفكرة قد تجعلُ من اللّه روح العالم" [7].
وهُنا تأتي جدّةُ الطّرح اللايبنيتزي، فيتصدّى لفكرة الفضاء المطلق ويستبدله بالفضاء المثالي والنّسبيّ. وصفة المثالي (Idéale) تكاد تُرادف معنى التمثّل، أي أنّ الفضاء يتجلّى في طريقة مَوْضَعَتِنَا (Juxtaposition) للأشياء عندما نكتشف العالم، فهو ليس بمعزل عن تمثّلاتنا الذّهنيّة للعالم. والموضعة تُفهم في النّسق اللاّيبنيتزي بوصفها إنشاء علاقات بين الأشياء والأجسام من قبيل الاتّجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام،) والمسافة والحجم (بعيد، قريب، عريض، طويل، قصير، إلخ). فالفضاء نسبيٌّ بحُكم علاقته بتمثّلات الذّهن وهو يَعْقِلُ الكونَ. هكذا ينفي "لايبنيتز" صفة الإطلاق والجوهرانيّة عن الفضاء فيقول: "هؤلاء السّادة (نيوتن وتلاميذه) يؤكّدون أنّ الفضاء هو مُعطىً حقيقي ومطلق وهو يؤدّي بهم إلى مزالق جمّة منها أنّ هذا المُعطى يجبُ أن يكون لانهائيّاً وأبديًّا وهو ما حمل البعض على الاعتقاد بأنّه هو اللّه نفسه في صفته وعظمته. غير أنّ هذا المُعطى يحتوي على أجزاء وحدود وبالتّالي لا يمكنه أن يتناسب مع اللّه"[8].
ولو لخّصنا انتقادات لايبنيتز لفكرة الفضاء المطلق النيوتونيّة، لألْفَيْناها قائمةً على مرجعيّتين: أولى منطقيّة تستندُ إلى مبدأ التّطابق (Principe des indiscernables) والذي يقول بأنّه لا يُمكن أن يُوجدَ شيئان منفصلان عن بعضهما البعض ويشتركان في نفس الوقت في نفس الخصائص. وكأنّ لايبنيتز يستعيدُ مبدأً اعتزاليا قديما يقوم على التّنزيه، أي عدم القبول منطقيّاً بمشاركة الزّمان والمكان الإلهَ في صفة الإطلاق واللاّتناهي.
أمّا المرجعيّة الثّانية فميتافيزيقيّة وقاعدتها مبدأ "السبّب الكافي". وبناءً عليه يفترضُ "لايبنيتز" أنّه إذا ما كان الفضاءُ خَوَاءً لامتناهيا ثمّ وضع فيه الإلهُ هذا الكونَ، فليس من المعقول أنّ يكون الإلهُ قد اختار فضاءً من جملة أفضية أخرى ليضع فيها الكون.
ينتهي "لايبنيتز" في الأخير إلى أنّ الفضاء هو نظام "المتواجدات المشتركة" أي مجموع العلاقات التي يبنيها الذّهنُ أثناء إدراكه للعالم وموضعة الأشياء فيه. فهو ليس وعاءً سابقا وحاضنا للأشياء، وإنّما هو نظامٌ من العلاقات بين الأشياء. والنّقطة في الفضاء لا تختلف عن عنصر في مجموعة، وهذا ما جعل "لايبنيتز" يرى في الفضاء الإقليدي المسطّح مجرّد مجموعة أو نسق بالمعنى المنطقيّ الرّياضيّ.
وسيستثمر "كاسيرر" مفهوميْ "النّظام" و"العلاقة" في النّقاش الخلافي بين لايبنيتز ونيوتن، لكنّه سيستفيد أيضًا من نقد كانط للوثوقيّة التّجريبيّة لنيونتن والوثوقيّة المثاليّة للايبنيتز. فالأوّل كان محتاجًا للفضاء المطلق الخاوي والسّابق لِيَبْنِيَ عليه كلّ قوانين الفيزياء الميكانيكيّة، والثّاني جعل من الفضاء تمثُّلاً مُجرّدا للعلاقات بين الأشياء. وسيُفرِغُ كانط مفهوم الفضاء من كلّ سمات الإطلاقيّة والمثاليّة ويجعلُ منه ظاهرة ذاتيّة حدسيّة في علاقة بالذّات العارفة. ولنعرضْ قبل ذلك اعتراضات كانط على لايبنيتز قبل تفسير نظريّته بخصوص الفضاء والزّمان.
قبل بلورة نظريّته في المكان والزّمان في "نقد العقل المحض" كتب كانط سنة 1768 نصًّا تناول فيه بالتّحليل الطّبيعة الأنطولوجيّة للمكان، وفيه نقد تعريف لايبنيتز للمكان والزّمان باعتبار الأوّل نظام تواجد (Ordre de coexistence) والثّاني نظام تتابع (Ordre de succession). ولا بدّ من التّذكير هُنا أنّ أُسًّ الجَدل الكانطي اللايبنتزي لا يقوم فقط على الخلاف المفهوميّ، بل يتجاوز ذلك إلى تصوّر المعرفة. وهي نقطة الانطلاق في الخلاف بين الرّجلين. فحسب رؤية لايبنيتز المنطقيّة والمفهوميّة،كلّ القضايا هي تحليليّة، أي أنّ المعرفة لا تنشأ إلاّ في صُلب القضايا التّحليليّة. ماذا يعني ذلك؟ بشيء من التّبسيط يمكن القول أنّ المعرفة كامنة في إحدى العبارتيْن المُكوّنتيْن للقضيّة من قبيل: الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نُقطتيْن. فهذه قضيّة تقدّم لنا معرفة انطلاقا من مكوّناتها الدّاخليّة المُحايثة، أي بناءً على منطقها الكامن في العبارات المكوّنة للقضيّة. ولسنا في حاجة إلى القيام بتجارب وقيس كلّ خطّ مستقيم حتّى نستدلّ على صحّتها. فالمعرفة هنا تحليليّة باعتبارها اكتشاف للمنطق الكامن في المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة.
بالنّسبة إلى كانط الموقف مُعاكسٌ تماما، فالمعرفة لا تكون إلاّ تأليفيّة، أي لا توجد في العبارات المكوّنة للقضيّة، بل نحتاج مغادرة المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة للاستدلال على صحّتها. وفي مثالنا السّابق لا يمكن التأكّد من صحّة القضيّة التي تقول بأنّ " الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين" إلاّ في ضوء مقارنة خارجيّة تستدعي أوّلا الخروجَ من مفهوم الخطّ المستقيم واستحضار الخطّ المُحدّب مثلا أو الخطّ المنكسر حتّى نُثْبِتَ أنّه الأقصرُ مسافةً بين نقطتين. فلا بدّ أن نتجاوز ونتخطّى ثمّ نعقد ونؤلّف القضيّة مع مقولات أخرى خارجيّة حتّى تحصل المعرفة ونتأكّد من سلامة القضيّة المطروحة.
أنّ لايبنيتز أمام هذا الاعتراض يعتبر أنّنا لم نُغادر البتّة المنطق التّحليلي. لماذا؟ لأنّه يعتبر الخطّ المستقيم هو الحدّ الأدنى أو الحدّ الصّفر للخطّ المُحدّب، أشبه بالسّكون الذي هو الحدّ الصّفر للحركة.
نخلص ممّا سبق إلى أنّ المعرفة عند لايبنيتز اكتشاف وتملّك بوصفها كامنة في المفاهيم، بينما هي عند كانط تجاوز وبناء وتأليف باعتبارها جامعة بين المفهوم وما هو خارج المفهوم. هذا هو أسّ الخلاف الذي سيفيض على بقيّة المسائل ومنها قضيّة "مبدأ التّطابق" اللايبنيتزي الذي عارضه كانط بشدّة. يقول لايبنيتز أنّ كلّ اختلاف هو في النّهايةِ مفهوميٌّ، فإذا اختلف شيئان مثلاً، فلا بُدّ من أن لا يختلفا فقط في العدد والشّكل وغيرهما، وإنّما أيضا في المفهوم. ويكفي تحليل المفهوم حتّى نقف على الاختلاف. بالنّسبة إلى كانط لا يمكن اختزال الاختلاف في المفهوم، وهُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة. فعندما ندرك العالم كما يتمثّل لنا، نجدُ صنفين من التّحديدات: تحديدًا مفهوميًّا كأن نقول "الطّائرُ هو الّذي يطير" وتحديدًا ثانيًا زمانيًّا مكانيًّا يجعلُ الشيءَ المُحدّد قائما في الزّمان والمكان أي: الآن وهُنا. بمعنى يملأ مساحة من المكان ويجري في الزّمان، فهو على اليمين أو على اليسار وهو ماثلٌ أمامي أو ورائي وهو يدوم إلى حيّز ما من الزّمن. هذا هو البُعد الثّاني في تحديد الأشياء وضبط اختلافها الذي يُضيفه كانط، وهو البعد الزّمكاني. والمثال الذي يُعارض به كانط لايبنيتز، هو اليَدَانِ، فرغم اشتراكهما في التّسمية والسّمات، إلاّ أنّهما لا يتطابقان بحُكم التّحديد المكاني والزّماني الذي يجعل يدًا واقعة في الجهة اليُمنى والأخرى في اليُسرى.
فحسب كانط نظام الاختلاف أو التّطابق يبقى دائما خارج المفاهيم، لأنّه محكوم باختلافات زمانيّة ومكانيّة. فالمعرفة حصيلة تأليفيّة بين التّحديدات المفهوميّة والتّحديدات الزّماكانيّة. فلا يمكن تصديق القضيّة القائلة بأنّ "الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتيْن"، بدون استحضار إحداثيات مكانيّة وزمانيّة.
نصلُ هُنا إلى نقطة الخلاف التي انطلقنا منها حول مفهوم الزّمان والمكان. وأين تكمن الجدّةُ في الاستدراك الكانطي على لايبنيتز؟ وحتّى نمسك بالمسار الجدلي بينهما لا بدّ من التّذكير بالتّعريف المفهوميّ للمكان والزّمان عند لايبنيتز. والذي يقول فيه أنّ الأوّل هو "نظام تواجدات ممكنة" والثّاني "نظام تتابعات ممكنة". والاعتراض الأوّل لكانط هو في اعتبار المكان نظام تواجدات ممكنة، والحال أنّ التّواجد هو تزامن أي إحلال الأشياء في الفضاء في نفس الحيّز الزمنيّ، وبالتّالي التّواجد هو منوال زمنيّ ولا يمكن أن نُعرّف به المكان أو الفضاء. فالتّواجد يجري هو الآخر في الزّمان. الاعتراض الثّاني، مُنطلقه المناويل الثّلاثة التي يحدّ بها كانط الزّمان وهي: الدّيمومة (ما يدوم)، التّتابع (ما يجري)، والتّزامن (ما يتواجد). وبالتّالي لا يمكن تعريف الزّمان بنظام تتابع، لأنّ التّتابع هو أحد مناويل الزّمن، أي مجرّد بُعد من أبعاده.
لندفع بالتّحليل قليلاً، ونضع لايبنيتز في سياق التّصوّر الكلاسيكي للزّمان والمكان. فنظام التّتابع ونظام التّواجد يقتضيان بالضّرورة تصوّرَ الزّمان والمكان كجوهرٍ أو ماهيةٍ، أي أنّ النّظامَ المكانيَّ لا معنى له بدون الأشياء التي تملأ المكانَ، فهو في النّهاية ماهيةٌ. وفي هذه النقطة المفصليّة يأتي المنعطف الكانطي الذي يُحوّل الزّمان والمكان من ماهية أو جوهر إلى شكلٍ. المكان هو شكلٌ وليس ماهيةً. ماذا يعني ذلك؟ هو الشّكل الذي يأتينا من خلاله كلّ ما هو خارجٌ عنّا. الشّكل الذي من خلاله نتملّك العالم الخارجيّ. يعني ببساطة، بدون مكان لا يمكن الحديث عن خارجٍ. أمّا الزّمان فهو شكل الدّاخل، أي الطّريقة التي يكون بها الشّيءُ داخِلَ نفسه. وإذا كانت الأشياءُ كائنةً في الزّمان، فإنّ ذلك يعني أنّ لها داخليّةً.
وفي ضوء مقولتيْ المكان والزّمان، يُحدّد كانط مفهوم الظّاهرة التي يشحنها بدلالة تأويليّة مخصوصة. فالظّاهرة بالنسبة إليه ليست التي تحجُبُ ماهيةً أو جوهرا. وليست أيضًا مجرّد الظّهور المحسوس بالمعنى البسيط والسّاذج، وإنّما الظّاهرة هي كلّ ما يبرز في الزّمان والمكان ويمنحها شكلاً أو معنى أو لنقُل سِمةً وعلامةً بالمعنى "البيرسي". وبناءً على هذا المُتصوّر لم يعُد يُنظر إلى الظّاهرة في علاقتها بالماهية أو بالجوهر وإنّما في علاقتها بالشّروط الزّمكانية أو بالمعنى المَمْنُوحِ لها. هكذا تَرَكَ مفهومُ الماهية مكانَه لمفهوم المعنى والدّلالة أو الشّروط. وخلف ستار الظّاهرة لا يوجدُ شيءٌ لنراه غير المعنى والدّلالة التي يصبغها التمثّل الذّهني على الأشياء في الكون.
إلاّ أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السّياق، ماذا يعني كانط بمفهوم الشّكل المنسوب للزّمان والمكان؟ وأيّ فرق بينه وبين الزّمان والمكان كمفهوم لدى لايبنيتز؟ هُنا لابدّ أيضا من استحضار المفاهيم الأساسيّة التي نحتت التّصوّر الكانطي للأشياء، فالجدّة والتّجاوز في التّفكير الفلسفي تنهضُ بدرجة أولى على ابتكار شبكة مفاهيم جديدة نقتصر منها على مفهوميْ: الماقبلي (L’apriori) والمتعالي (Le transcendantal). وللأمانة فإنّ الماقبلي والمابعدي (L’apostériori) مفهومان قديمان غير أنّ كانط غيّر المعنى. وإذا أخذنا الماقبليَّ في معنى ما هو مستقلٌّ عن التّجربة وحاصلٌ بالبديهة والعَقْلِ بصفة مُسْبَقة عن كلّ إدارك أو تجريب، فالسّؤال يكون: هل ثمّة معارف حاصلة بصفة ماقبليّة وبشكل مستقلّ عن التّجربة؟ وفي ضوء السّؤال سيكون الوجودُ مُعطًى ثانويًّا بالنّظر إلى الماقبليّ الأوّل.
والإجابة الكانطيّة الأولى عن هذا السّؤال تأتي في شكل حدٍّ بالوصف، فالماقبليُّ ليس فقط ما هو مستقلّ عن التّجربة، بل هو الحتميُّ والكونيُّ. ماذا يعني ذلك؟ لنأخذ مثالاً يقول: "إنّ كلّ الأجسام تسقُط حتما على الأرض بنفس السّرعة". هذا قانون فيزيائي لا يمكن الشّك في صحّته، غير أنّه ليس في وسع التّجربة وحدها أن تثبت صحّته لأنّه لا يمكن إجراء التّجربة على كلّ الأجسام الموجودة في الكون حتّى نتأكّد من ذلك. بمعنى أنّ التّجربة لا تُغطّي إلاّ عددًا قليلاً من الأجسام، بناءً على فرضية وجود أجسام تسقط بسرعة مختلفة عن البقيّة التي شملتها التّجربة. فالتّجربة لا تشمل إلاّ ما هو جُزئيٌّ وطارئٌ. والسّؤال في هذا السّياق: من أين أتتْ عبارة "حتما"؟ قياسا على عبارات أخرى مثل "كلّما"، "دائما"، بـ"الضّرورة"، وغيرها. هُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة في إدخال مفهوم المقولات (Les catégories) الماقبليّة، وهي عبارة عن صفات أو تعريفات تُقال وتنطبق على كلّ الأشياء في الكون ولا تحتاج إلى تجربة للاستدلال عليها كأَنْ نقول: "لكلّ شيء سببٌ ما". فالمقولات هي الأشكال الماقبليّة للوعي الخالص بالكون والأشياء. غير أنّه هُنا لا يجب أن تُفهمَ المقولات بوصفها معارف أوليّة مجرّدة بشكل خالص. فهي لا تنشأ وتتطوّر في الذّهن بمعزل عن المُدركات الحسيّة. لأنّه بفضل المقولات يمكن للذّهن البشريّ أن يقوم بتأليف المختلف وتنظيم فوضى الأشياء المُدركة في الكون وهو ما يُسمّى "مَقْوَلَة" العالم. وكأنّ كانط يقول لنا أنّه خارج المَقْوَلة التي يقوم بها الذّهن وهو يَعِي العالمَ، لا يوجد إلاّ سديمٌ من الفوضى، وليس لنا من سبيل للسّيطرة على الفوضى إلاّ عبر عمليّة المَقْوَلَة. ماذا يعني ذلك أيضاً؟ يعني أنّ العالمَ المُدرَكَ يأتينا في شكل معارف ومعلومات مُهيكلة ومُنمّطة، وممقولة، وليس في شكل معلومات مشتّتة ومفاجئة. ويوعز كانط هذا الأمر إلى "المنطق المتعالي" (La logique transcendantale) الذي يسبق "المنطق العامّ"، فهو يُشبه إلى حدّ ما "البرنامج الأدنوي" التّشومسكي والذي يُحاكي تقريبا برنامج المُدخَلات والمخرجات الأساسيّة للنّظام الحاسوبي (Bios). فلا يُمكن تحميل أيّ نظام تشغيل بدون البرنامج القاعدي الأساسي.
ويُقسّم كانط المقولات تقسيما ثلاثيّا إلى أربع عائلات[9] كما هو موضّح في الجدول التالي:
مقولات الكمّ |
مقولات النّوع |
مقولات العلاقة |
مقولات الجهة |
الوِحْدَة |
الإثبات |
الجوهر والعرض (ماهوي/عرضي) |
ممكن/ممتنع |
التّعدّد |
النّفي |
السببيّة والتّبعيّة (سبب/نتيجة) |
موجود/منعدم |
الإجمال |
المحدوديّة |
الاشتراك (التفاعلية بين الباثّ والمتقبّل) |
الوجوب/ الجَواز (واجب/جائز) |
وبالعودة إلى ما انطلقنا منه، جديرٌ بنا أن نتساءل: هل الزّمان والمكان في النّسق الكانطي هُما من جنس المقولات أم لا؟ وإذا سلّمنا بأنّهما يشتركان مع المقولات في خاصيّة الماقبليّة ولكنّهما يختلفان عنها في نفس الوقت، يكون السّؤال المنطقيّ: لماذا ميّزهما كانط عن المقولات؟ أو لماذا لم يعتبرهما من ضمن المقولات؟
يمكن النّظر إلى المسألة من زاويتيْن: الأولى في علاقة بتكامل النّسق النّظري الكانطي، إذْ لو جعل الزّمان والمكان من جنس المقولات، لسقط في نفس التّجريد النّظري والمفهومي والذي عابه على "لايبنيتز". ثمّة إذًا نوعان من الماقبليات: المقولات والزّمان والمكان. ولكنّ ما هو وجه الاختلاف بينهما؟
تأتي هُنا الإضافة الفارقة لكانط: فإذا كانت المقولات مفاهيم متولّدة عن التمثّلات الذّهنيّة الماقبليّة للكون والأشياء، فإنّ الزّمان والمكان هُما شرط ظهور الأشياء وحدسها، بناءً على أنّ هذه الأشياء لا تكون أشياء إلاّ بما هي واقعة في إحداثيات المكان والزّمان. فالزّمان والمكان يتعلّقان بشكل تمظهر الأشياء، في حين المقولات ترتبط بمنوال تمثّل هذا الظّهور. من خلال هذا التّصوّر يمكن أن نقفَ على نتائج جدّ مُهمّة. وإن لم يعلن عنها كانط فقد بلورها وطوّرها في ما بعد تلاميذه منها:
- أنّ العالم ليس له خاصّيات مكانيّة في ذاته إلاّ ما ينسبه إليه الذّهن البشريّ. فالأبعاد والمسافات والمواقع وأشكال الامتداد، هي ثمرة التمثّلات الذّهنيّة للعالم الخارجي والقائمة بدورها على الاستعدادات الفطريّة الأوليّة والتي تمثّلها المقولات والزّمان والمكان.
- الزّمان والمكان هُما شكلٌ وليس ماهية.
- الحدس الفطريّ بالأشياء في الزّمان والمكان، هو شرط ظهورها وتمثّلها ذهنيّا وصَوْغِها مفهوميًّا.
لا شكّ أنّ كاسيرر باعتباره كانطيّا مُجدّدا، سيستفيد من مفهوم الشّكل، والخُطاطة وغيرها، ليضع متصوّر الزّمان والمكان ضمن فلسفة الأشكال الرّمزيّة وتحديدا الوظائف الرمزيّة الثّلاث: الوظيفة التّعبيرية، الوظيفة التّمثيلية، والوظيفة الدّلاليّة. وضمن كلّ وظيفة يتشكّل تصوّرٌ مخصوصٌ حول الفضاء والزّمان. فثمّة الفضاء الأسطوري المرتبط بالتمثّلات العفويّة والبدائيّة للإنسان حول الفضاء. وثمّة الفضاءُ الجماليُّ الذي تُنشئه شتّى الأشكال الثّقافيّة والرّمزيّة التي يُبدعها الإنسان. وأخير يوجد الفضاء النّظري الذي تبنيه العلوم انطلاقا من تصوراتها للعالم والأشياء. وسنعود بالتّفصيل لكلّ نوعٍ على حدة. غير أنّه من الجدير بالتّذكير أنّ كاسيرر استفاد أيضا من فكرة نظام التّواجد ونظام التّتابع للايبنيتز، ليخلُص إلى أنّ المسألةَ ذات بُعْدٍ عَلَقي (Relationel) أي الكيفيّة التي نُنشئ بها علاقة مع العالم والأشياء وهي تختلف من حقل إلى آخر. وفي نفس الوقت لا يمكن فصل التّصوّر الزّمكاني عن كيفيّة معرفتنا بالعالم المُدرَك أو الممكن أو المُتخيّل.
هذا الجانب العلقيُّ، يُشبه إلى حدّ ما مفهوم الأنموذج التّفسيري أو البراديغم (Paradigme) في إيبستيمولوجيا تاريخ العلوم. فالمكان مثلاً أخذ أوجُهًا عديدة في حقل العلوم على مرّ التاريخ، فنجد الفضاء الفيزيائي الكوسمولوجي النيوتني المطلق، ونجدُ المكان والزمان "المينكاوسكي" (Minkowski) رباعيّ الأبعاد، ونجد زمان ومكان النّسبية العامة لإينشتاين.
- الفضاء الأسطوري
حسب النّسق الكاسيرري، لا يوجد حُدسٌ عامّ وثابت حول الفضاء، ولا يكتسبُ الفضاء محتواه وخصائصه إلاّ في ضوء الدّلالة والتّرميز الذي يمنحه له الإنسان في ظرفٍ تاريخيّ ما وضمن نسقٍ مخصوص من التّرميز. يُستشفّ من ذلك أنّ الفضاء ليس مُعطىً أو بنيةً ثابتةً، بل قابلاً للتّغيّر وفقًا للتّنظيم الدّلالي الذي يهيكل به الإنسان العالم من حوله. وضمن هذا التّصوّر، يُفهم الفضاء الأسطوريّ كواحد من الممكنات أو من الأشكال التّرميزيّة للفضاء من جملة أشكال أخرى. وهو الشّكل شبه الأوّلي المرتبط بالوعي العفوي والحسّي للإنسان. وقبل الحديث عن الخصائص المميّزة للفضاء الأسطوريّ لا بدّ من التّذكير أنّ المكان والزّمان بالنّسبة لكاسيرر، هُما الأسّ والإطار الحاضن الّذي تُبنى في ضوئه كلّ معارف الإنسان وتصوّراته حول الأشياء والعالم. وانطلاقا من ذلك يكون حدس المكان والزّمان حاملاً لمظانّ معرفيّة تختلف من نسقٍ رمزيّ إلى آخر.
ولعلّ أولى التصوّرات التي ينبني عليها حدس المكان والزمان في الرّمزيّة الأسطوريّة، تقوم على ظاهرة التّماهي بين الإنسان والعالم والأشياء. ويبرز التّماهي في الوعي الأسطوريّ من خلال عدم الفصل بين الأجزاء والكلّيات وبين الصّور والأشياء وبين الأسماء ومُسمّياتها. فالتّأثير السّحريّ مثلاً يُمكن أن يحدُث بوسائط وجزئيات تمثّل الشّخص نفسه حتّى وإن كان غائبا من قبيل: خصلة من الشّعر، اسم الشّخص أو ظلّه[10]، بعض ممتلكاته، إلخ. وهي أشياء لا تُعدُّ في الرّمزيّة الأسطوريّة مجرّد تمثيل أو بديلاً للشّخص وإنّما يُنظر إليها بوصفها الشخص ذاته على سبيل التّماهي. ونفس الشيء يُقال حول العلاقة بين الاسم والمُسمّى القائمة على المُحايثة والتّماهي بين الدّال والشّيء المدلول عليه. أي أنّ الكلام في الوعي الأسطوري البدائي له طاقة وقوّة إنجازيّة كبيرة، أي يكفي التلفّظ بالشّيء حتّى يتحقّق حضوره على نحو ما وإن كان غائبًا عن العيان. وبه نستطيع أن نفهم سحر الكلام وقوّته الإنجازيّة في النّصوص الدينيّة (في البدء كانت الكلمة) وكذلك أهميّة التّعاقدات الكلاميّة في المجتمعات البدائيّة.
في ضوء ظاهرة التماهي يتنزّل حدس المكان في الوعي الأسطوري، فيكتسي طابعا ذاتيّا وعاطفيّا وحسّيا، أي لم يرتق بعدُ إلى تخطيطٍ وفهمٍ مُجرّد. ويُفسّر هذا الحَدس البيولوجي والعضويّ للمكان انطلاقا من نتيجة توصّل إليها الأنتروبولوجيون، وهي أنّ الإنسان في هذا الطّور يُهيكل العالم انطلاقا من جسده[11]. وبهذه المركزيّة يغدو المكان أو الموضع أو الحيّز مشروطا بما يحتويه وبالحضور المادّي والحسّي لمن يحدس المكان. فالـ "هُنا" والـ "هُناك" في الفضاء الأسطوريّ هي لحظة آنيّة سرعان ما تنتفي وتنتهي بانتهاء لحظة الحضور ولحظة حدس المكان. أي لا يُمكن تمثّل الـ"هُنا" والـ "هناك" كفضاء مجرّد رمزيّ في حال الغياب. فالفضاء الأسطوري البدائي، فضاءٌ عمليّ عضويّ مرتبط بالحواس البصريّة والّلمسيّة، والسّمعيّة، والشّميّة، وغيرها. وهو فضاء متنوّع ومتغيّر وغير متجانس لأنّ الإنسان البدائي لم يصل بعدُ إلى مَوْضَعَةِ (Objectivisation) الفضاء كمُخطّط (schème) أو كنظام رمزيّ مجرّد. يقول كاسيرر: "ويدلّنا علم الأنتروبولوجيا على أنّ القبائل في العادة موهوبةٌ بإحساسٍ للمسافة غاية في الحدّة، فالفردُ من تلك القبائل ذو بَصر بأدقّ الدّقائق في بيئته، مُرهف الحسّ لكلّ تغيّر يطرأ على الموجودات المألوفة من حوله...فإذا جدّف أو أبحر تتبّع بدقّة بالغة كلّ منعطفات النّهر ذاهبًا وآيِبًا، لكن إذا دقّقنا الفحص اكتشفنا لدهشتنا أنّه يفتقر افتقارا غريبا لإدراك المسافة...فإن سألته أن يُعطيك وصفًا عامًّا، أي تخطيطا لمجرى النّهر عجز عن ذلك، وإذا رغبتَ إليه في أن يرسم خريطةً للنّهر ومنعطفاته المتعدّدة لم يكد يفهمُ ما تقول. ومن هذا نتبيّنُ بوضوحٍ وجلاءٍ أمر الاختلاف بين الفهم المحسوس والمُجرّد للمسافات والعلاقات المسافيّة"[12]. فالمعرفة بالفضاء لدى البدائي قائمة فقط على العرض والتّعيين (Présentation)ولمْ تَرقَ بعدُ إلى مستوى التمثّل (Représentation)[13].
- الفضاء الجمالي
وهو الفضاء المُتشكّل ثقافيّا من خلال أفانين النّحت والرّسم وشتّى الأشكال التّعبيريّة. وضمن هذا المستوى المتقدّم يكون الإنسان قد غيّر منظوره إلى الفضاء مُتجاوزا الحدس البيولوجي والوجداني إلى مستوى أرقى من التّرميز والسَّميأة (Sémiotisation) الثّقافيّة. وانطلاقا من هذا المنظور يكون الإنسان قد حقّق نسبة من التّحرّر بخصوص مركزة الفضاء في علاقته بالذّات، أي موْضَعته وإخراجه من حيّز الأنا إلى حيّز الموضوع القابل للنّقل والتمثّل والتّرميز. فالموضعة هي النّقطة الفارقة بين الحدس البيولوجي الحيواني للفضاء، والتمثّل الذّهنيّ والإنسانيّ له كموضوع مستقلّ وقابل للتّرميز بواسطة اللّغة أو الرّسم أو النّحت أو التّصوير وغيرها من العلامات.
ج- الفضاء النّظري
ويقصد به كاسيرر الفضاء الذي أنتجته العلوم الرّياضيّة والمُلائم للمقتضيات العلميّة. وتُعتبر الهندسة الإقليديّة أوّل مظهر من بواكير مَوْضَعَة الفضاء من النّاحية العلميّة. وهي هندسة ثلاثيّة الأبعاد قائمة على فضاء مُسطّح. غير أنّه رغم نجاعة الهندسة الإقليديّة، فإنّ مُتصوّر الفضاء سيهتزّ هو الآخر على المستوى الرّياضي والعلميّ بمُجرّد نقض إحدى نتائج المُسلّمة (Axiome) الخامسة من قوانين إقليدس الهندسة. وعندما نقول مُسلّمة في النّسق الإقليدي، فإنّ ذلك يعني حقيقة بديهيّة وحتميّة وليست في حاجة إلى البرهنة والإثبات. وعندما نتحدّث عن نقض المُسلّمة، فإنّ ذلك يعني نفي البداهة عنها وتحويلها من مُسلّمة إلى مُجرّد فرضيّة أو إواليّة (Postulat)قابلة أن تصدُق في فضاء مُسطّح، وأن لا تصدُق في أفضية أخرى غير مُسطّحة. ولنعُدْ إلى البديهة الخامسة لإقليدس.
في الحقيقة، لم يتحدّث إقليدس في كتاب "العناصر" عن نظريّة المتوازيات، وإنّما تولّد القانون منطقيًّا ورياضيًّا من المُبرهنة الخامسة. يقول نصّ المُبرهنة "إذا قَطعنا مُستقيمان بمُستقيمٍ ثالثٍ وكان مجموعُ زاويتيْه الدّاخليّتيْن والواقعتيْن على جِهةٍ واحدة، أقلَّ من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المُستقيميْن سيلتقيان من جِهَةِ القَاطِعِ إذا مُدّ إلى ما لا نهاية"[14]. ونُوضّح المبرهنة بالرّسم الهندسيّ التّالي:
يتوضّح من الرّسم أيضا، أنّ مجموع زاويتيْ القاطع (AB) إذا كان أصغر أو أكبر من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المستقيميْن(D) و(D’) سيلتقيان لامحالة إذا مُدّا إلى ما لا نهاية. ماذا يعني ذلك منطقيّا ورياضيّاً؟ يعني أنّ المستقيميْن (D) و(D’) لا يتقاطعان ويمتدّان بشكلٍ متوازٍ إلى ما لا نهاية إذا كان مجموع زاويتيْ القاطع (AB) مُساويًا لمجموع زاويتيْن قائمتيْن. ويمكن توضيح ذلك بالرّسم الهندسيّ التّالي:
نصلُ الآن إلى الاستنتاجات أو القوانين المتولّدة من البديهيّة الخامسة، لأنّه في الحقيقة لم تردْ عبارة التّوازي في مبرهنة إقليدس، وإنّما جاءت كفرضيّة منطقيّة تقول "أنّه انطلاقًا من نقطة خارجيّة (M) عن مستقيمٍ (D) يمرّ فقط مُتوازٍ واحدٌ للمستقيم (D)" ويمكن تمثيل الفرضيّة بالشّكل الهندسيّ التّالي:
في سنة 1902 قدّم هنري بونكاريه مِنْوَالاً هندسيّا يثبت فيه عدم صدقيّة مبرهنة إقليدس الخامسة وما يترتّب عنها من نتائج، لكنّ قبله بما يٌقارب القرن من الزّمان وتحديدا سنة 1820، طلبت الامبراطوريّة الألمانيّة من الرّياضي "فريديريك غوس" (Friedrich Gauss)أن يُقدّم لها مَسْحًا جغرافيّا لمساحة المملكة وهُنا فكّر "غوس" في مساحة الكرة الأرضيّة وتساءل: كيف يمكن رسم مستقيم على فضاء مُحدّب؟ وهل أنّ تعريف المستقيم بوصفه أقصر مسافة بين نُقطتيْن يصدقُ في أفضية أخرى مثل سطح الأرض؟ والسّؤال الأهمّ بالنّسبة إليه هو كيف نُنجزُ هندسةً ونحن نعيش على فضاءٍ كرويّ؟ وانطلاقا من هذه الأسئلة بدأ "غوس" في التّفكير في هندسة أخرى مُغايرة للهندسة الإقليديّة القائمة على فضاء مُسطّح أو مُستوٍ. وهي نفس الأسئلة الّتي ستفتح الطّريق فيما بعد لنيكولا لوباتشفسكي (Nicolas Lobatchevski) لينقُض المبرهنة الخامسة وفرضيّة المتوازيات فيما يُشبه القطيعة الإيبستيمولوجيّة مع النّسق الإقليدي الكلاسيكيّ.
قدّم لوباتشفسكي منوالا هندسيّا قائما على فضاء مُقعّر وأثبت من خلاله بُطلان المبرهنة الخامسة. إذْ يمكن أن يمُرّ عبر النّقطة (M) الخارجة عن المستقيم (D) ما لا نهاية له من المستقيمات (d1,d2,d3…) مثلما هو مُوضّحٌ في الرّسم التّالي:
أمّا منوال جورج ريمان (Georg Riemann) الكُرويّ أو المُحدّب فلا يكفي أنّه ينقُضُ إمكانيّة رسم مستقيم على فضاء مُحدّب أو كُروي، فإنّه يُثبتُ استحالة رسم أيّ مُتوازٍ للخطّ (D) ويمرّ عبر النّقطة الخارجة (M).
يبدو من الرّسم استحالة رسم متوازي للخطّ (D) بحُكم أنّ كلّ نقطة خارجة عن الخطّ الذي يمرّ عبر مركز الكرة سيكون أقلّ منه ارتفاعا.
إنّ هذا التّعدّد في متصوّر الفضاء من النّاحية الهندسيّة، سيكشف لكاسيرر، أنّ الفضاء مقولة علقيّة ووظيفيّة تكتسبُ نجاعتها وصدقيتها داخل النّسق المنطقيّ والرّمزيّ الذي يحتويها. أي أنّ كلّ فضاء سواءً كان أسطوريا أو جماليا ثقافيا أو علميًّا نظريًّا، له منطقه الخاصّ ومبرّراته الدّاخليّة.
[1] Platon. Œuvres complètes. Paris, Gallimard, 1977, T2, p.473-480.
[2] Isaac Newton. Principia mathematica. Paris, J. Gabay, 1990, p46.
[3] Ibid, p46.
[4] Ibid, p47.
[5] Isaac Newton. Optique, trad. P. Coste, Paris 1720, p56.
[6] André Robinet, Correspondance Leibniz-Clarke, Paris, PUF, 1957.
تمّت المراسلات تحت إشراف أميرة بلاد الغال "كارولين دانسباش" (Caroline d'Ansbach) في محاولة منها للجمع والتّوفيق بين لايبنتز ونيوتن. وقد رفض نيوتن في الأوّل ثمّ خيّر أن يتراسل مع لايبنيتز عن طريق سامويل كلارك (Samuel Clarke) قسّ القصر الملكيّ، وهو الناطق بلسان نيوتن. وقد توقّفت المناظرة عند المراسلة الخامسة من كلارك على إثر موت لايبنيتز سنة 1716.
[7] Ibid. 4 ème Lettre, remarque 27. p93.
[8] Ibid, p52.
[9] Emmanuel Kant. Critique de la raison pure. Paris, Librairie philosophique de Ladrange, 1845, P103.
[10] يُعتبر الدّوس على ظلّ الشّخص في كثير من التّقاليد إلى اليوم إلحاقا للأذى.
[11] تتأكّد هذه الفكرة في علم نفس النموّ عند بياجيه، من خلال ظاهرة مركزيّة الذّات أو الأنويّة. فالطّفل الشّبيه بالإنسان البدائي في أطواره الأولى يتأمّل العالم انطلاقا من رؤيته الخاصّة معتقدا أنّ كلّ ما يُحيط به هو في خدمته وهو في نفس الوقت امتداد لجسده وذاته ورغباته.
[12] أرسنت كاسيرر. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانيّة أو مقالٌ في الإنسان. ترجمة إحسان عبّاس، بيروت، دار الأندلس،1961، ص99.
[13] نتحرّز بكلّ لطف على ترجمة إحسان عباس (Présentation) بـ "الحَمل" و(Représentation) بـ "النّقل"، وهي ترجمة بعيدة كلّ البُعد عن المعنى المقصود في النصّ الأنقليزي.
[14] Euclide. Les Eléments. Traduction par F. Peyrard, Paris, 1804.
في عبارة للفيلسوف الدنماركي الشاب سورين كيركجورد الاب الروحي للفلسفة الوجودية التي ألصقت به وهو لم يدع "ي" الانتساب لها ولا حتى بالتوصيف العابر قوله ( اننا لا نوجد لنتفلسف بل نتفلسف لنوجد. ولا تساوي الفلسفة شيئا إن لم تكن تعبيرا ووسيلة حياة في وقت معا) 1
الغريب ان الفلسفة الوجودية التي انبثقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية واحتضرت سريريا في نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين. انما تمركزت ادبياتها في مراحل تطورها اللاحق حول مفاهيم مطلقة مثل القلق والتأزم والانقذاف البشري غير الطوعي بالحياة، ولا معنى الحياة، وزيف الوجود، والوجود بلا موجود لا معنى له، والانسان نزوة طارئة في عالم لا معقول، والاخرون هم الجحيم، والانسان مسؤولية حرة يعيش حريته لاجل غيره الخ.
نفاجأ ان تكون نشأة الوجودية كما جاءت بعبارة كيركجورد انها تستمد تفكيرها من واقع الحياة والانسان في التزام متفرد غير معهود بتاريخ الفلسفة ومباحثها. فكر فلسفي وجودي اقرب الى التطبيق العملاني البراجماتي وليس تجريدا منطقيا لغويا سرديا بعيدا عن التجنيس الادبي واقعا انفراديا من التعبير السردي لا علاقة له لا بالانسان ولا بحياته وسط عالم يمور ويعج بمختلف الموجودات الطبيعية والظواهر والاحداث اليومية. بمختصر العبارة الوجودية فلسفة ليست تطبيقية سيسيولوجيا ولا تلتزم حياة الانسان ومصيره.
وجودية كيركجورد الفكرية البدئية وليست البدائية هي السعي نحو تحقيق الذات ليس كما فعل ديكارت تحقيق الذات انطولوجيا بوسيلة تفكير الذات المجرد عن موضوع تفكيره. واذا اراد كيركجورد تحقيق الذات من منطلق انها هي الفلسفة مؤكدا ان الذات والفلسفة لا قيمة لهما من غير ارتباطهما بمجرى الحياة الطبيعية للانسان.
كما واعتبر كيركجورد الذات لا تجد حقيقتها الا في حالة الاندماج الاحتوائي الكلي مع الفلسفة كوسيلة تعبير عن الحياة. ومن الغرابة ايضا نجد جورج مور بعد حوالي قرن من الزمان على انبثاق الفلسفة الوجودية واحتضارها السريري ومغادرتها المشهد الفلسفي نادى بهذا المطلب التوصيفي الوظائفي للفلسفة ان تكون للعامة بلغتها التواصلية المجتمعية وكان جورج مور حينها عضو حلقة اكسفورد في الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية بزعامة بيرتراند راسل التي انشق عنها جورج مور حين وجد اخفاق كل من نورث وايتهيد عالم اللغات وعضو الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية مع بيرتراند راسل محاولتهما تفسير اللغة في ربطها مع المنطق والرياضيات كعلم وفشلا بعد جهدهما الطويل المشترك ونتج عن محاولتهما الفاشلة تلك تاليف كتابهما (مباديء الرياضيات العامة 1906 ).
استرعاني التوقف عند مقولات فلسفية وجدتها خاطئة بتقديري جرت على لسان احد فلاسفة القرون الوسطى الاوربية وغيرهم سأتناولها بالتعليق النقدي التالي تباعا.
- "الوعي هو نوع من التحرر من الواقع".
الوعي ليس نتاج الواقع في تفسيره المجرد المباشر وبخلافه هذا يعني لا يمكننا تمييز احساسات الحواس التي هي نتاج الواقع وبين الوعي الذي هو فهم وتوصيف مقولات العقل عن موضوعات الواقع في التعبير عن كينونتها وعيا لغويا خارجيا..
فالوعي تجريد لا يدخل في تموضع معرفي مع مدركات العقل لموضوعاته. كما والوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع المدركات العقلية بصيغة ديالكتيك التضاد. الوعي لا يسبق الموجود ولا يحاول المداخلة معه خارج سلسلة المنظومة العقلية الادراكية التي تبدأ بالحواس في تسليم شبكة الاعصاب الاحساسات الانطباعية الواردة اليها من مدركاتها الحسية عن الواقع. الوعي فهم عقلي ثانوي على اسبقية الوجود وليس هناك علاقة جدلية غير منظورة مدركة بينهما اي بين الواقع والوعي.
الوعي لا يماثل الانطباعات الحسية الصادرة عن الواقع الخارجي التي تتحسسها الحواس وتتولى نقلها لشبكة اعصاب الذهن. الوعي ليس نتاج الواقع ولا حبيسه كي يتحرر منه. الواقع هو مركزية مصدر الادراكات العقلية بينما الوعي هو الفهم المعرفي الوارد من الدماغ في تعريفه لموضوعات ادراكاته في العالم الخارجي.
الوعي هو تجريد اجرائي لفهم ومعالجة المدركات بخلعه توصيفات العقل الفاهمة لها. الوعي مهمته إدراك موضوعات تفكير العقل هو واسطة نقل الوعي القصدي العقلي من مرحلة عملية إدراك الاشياء الى معرفة العقل لها معرفة قصدية. العقل لا يدرك الاشياء لمجرد تاكيد وجودها ولا لمجرد تأكيد ذاته الموجودية بدلالة موضوعاته المدركة المغايرة له بالمجانسة هي الصفات والجوهر..
العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وان الخصائص العقلية تابعة للخصائص الفيزيائية... ويكيبيديا الموسوعة.
بالحقيقة هذه العبارة المبتورة تعتبر العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وإن الخصائص العقلية التفكيرية تابعة لخصائصه الوظيفية الفيزيائية (للعقل) كعضو في تكوين أعضاء الجسم الذي يحتويه.، هذه العبارة تختصر مجلدا من المناقشات الفلسفية المتناحرة والمتناطحة مع بعضها بلا جدوى.
إذ دأبت مباحث الفلسفة منذ افلاطون وارسطو وديكارت اعتبار علاقة العقل بالجسم أنه جوهر غير فيزيائي منفصل عن الجسم ماهيته التفكير. لكن ما يجب الوقوف عنده بالعبارة أعلاه أن الخصائص العقلية التجريدية للعقل جوهر ماهيته التفكير هي علاقة جدلية مع الخصائص الفيزيائية للعقل على اعتباره عضو بايولوجي في جسم الانسان له وظائف فيزيائية خارج وداخل الجسم أخرى تتجاوز العقل جوهر ماهيته تفكير تجريدي منفصل عن الجسم.
حسب النزعة المثنوية أو الثنائية (علاقة العقل بالجسم) ترى العقل جوهرا مستقلا عن الجسم. في حين خالفهم الرأي بعضهم من أصحاب خصائص العقل البيولوجية الوظائفية الذين يرون العقل جوهرا غير منفصل عن الجسم. هم أصحاب النزعة الواحدية أن العقل والجسم ليسا كيانين وجوديين منفصلين إنما هما جوهر واحد في الإفصاح عن مدركات العالم الخارجي والعالم الداخلي للانسان. وتبّنى اسبينوزا هذا الرأي.
طرح افلاطون في وقت مبكر تعريفه العقل من وجهة نظر فلسفية تعتبر ابنة عصرها قبل تقدّم مباحث العلم في دراسة وظائف الأعضاء وفلسفة العقل المعاصرة. قوله العقل لا يمكن شرحه بمصطلحات الجسم الفيزيائية، أي بمعنى أراد افلاطون حصر العقل ضمن مباحث الفلسفة كتجريد منطقي لغوي بعيدا عن علم وظائف الاعضاء بيولوجيا التي تركن فلسفة العقل التجريدية جانبا.
بتعبير ربما يكون أكثر وضوحا أن العقل في الوقت الذي هو جوهر ماهيته ملكة التفكير، فهو بنفس الوقت عضو بايولوجي من أعضاء الجسم يقوم بفاعليات ما لا حصر له تدخل ضمن خاصّية العقل الإدراكية ومسؤوليته المباشرة عن كل شيء يصدر عن الانسان من سلوك ومعرفة بالحياة والوجود خارج وداخل الجسم. بالحقيقة هذا الانقسام بين بنية العقل التجريدية الفكرية الفوقية بتعبير ماركسي، مع البنية الوظائفية البايولوجية التحتانية للعقل كعضو تحتويه الجمجمة في غير حصر جوهر العقل أنه تجريد تفكيري لغوي ، يجعل من رأي أصحاب مذهب الواحدية في علاقة ارتباط العقل بالجسم من جهة وعلاقة انقسام العقل على نفسه أنه ليس خاصّية لغوية إدراكية تجريدية من جهة ثانية صحيحا ، وأن العقل تكوين بايولوجي له وظائف علائقية بالجسم بما لا يمكن حصره وهو يتجاوز تعريف العقل أنه خاصّية تفكيرية تجريدية غير مادية.
مقدمة
"إن كلام الفيلسوف الذي لا يشفي أي معاناة للإنسان باطل." أبيقور
إن الفلسفة، كما تُمارس اليوم، مجردة ونظرية ومنفصلة عن الحياة، وهي مجرد موضوع أكاديمي واحد من بين موضوعات أخرى. وفي العالم اليوناني الروماني، كانت الفلسفة مختلفة تمامًا، كما يزعم الفيلسوف الفرنسي بيير هادوت. كانت الفلسفة أسلوب حياة. ولم تكن مجرد موضوع للدراسة، بل كانت تُعتبر فنًا للعيش، وممارسة تهدف إلى تخفيف المعاناة وتشكيل الذات وإعادة تشكيلها وفقًا لمثال الحكمة؛ "هذا هو درس الفلسفة القديمة: دعوة لكل إنسان لتحويل نفسه. الفلسفة هي تحول، وتحويل لطريقة وجود المرء وعيشه، وسعي إلى الحكمة." إن ممارسة ما يسميه هادوت "التمارين الروحية" هي التي تؤدي إلى تحول الذات وتجعل الفلسفة أسلوب حياة. فهل فعل التفلسف هو مجرد تأمل ميتافيزيقي أم رعاية بالذات؟ وهل هو جهد نظري أم مسلكية تطبيقية؟
المدارس القديمة
بالنسبة لليونانيين والرومان، كان ممارسة الفلسفة تعني اختيار مدرسة وتبني أسلوب حياتهم. وكان ذلك يشمل ما يمكن أن نطلق عليه اليوم التحول الديني. "المدرسة الفلسفية ... تطلب من الفرد تغييرًا كاملاً في نمط حياته، وتحويل كيانه بالكامل، والرغبة في أن يكون ويعيش بطريقة خاصة". لقد كان لكل مدرسة مجموعة خاصة بها من التمارين الروحية التي تتوافق مع المثل العليا للحكمة الخاصة بها. كانت التمارين التي مارسها الطلاب هي تلك التي لا نزال نربطها بالدراسة الأكاديمية أي القراءة والكتابة والبحث والحوار. لكنهم استخدموا أيضًا تمارين نحددها بالمنظمات الدينية أو الروحية، على سبيل المثال تمارين ضبط النفس، والعلاجات لتهدئة المشاعر، وفحص الذات، والتأمل، وحفظ مبادئ المدرسة. كما يجب أن نلاحظ أن صورة هادو للفلسفة القديمة هي وصف أكثر دقة للفلسفة كما مارسها سقراط والمدارس الهلنستية للرواقية والأبيقورية وليس مدارس أفلاطون وأرسطو.
تاريخ التمارين الروحية
في عام 529 م، أغلق الإمبراطور المسيحي جستنيان الأكاديمية الأثينية، وهي مدرسة أفلاطونية جديدة، وأنهى تعليم الفلسفة الكلاسيكية في الغرب. والآن أصبحت المسيحية وحدها تعتبر أسلوب حياة، وانخفضت الفلسفة إلى كونها خادمة لعلم اللاهوت، وتوفر اللغة والمفاهيم الفلسفية للدفاع عن عقائد الكنيسة. أصبحت التمارين الروحية للفلسفة جزءًا من الروحانية المسيحية. يزعم هادو أن تمارين القديس إغناطيوس لويولا وتوماس كامبيس ليست سوى تبني مسيحي لهذه الممارسات القديمة. وبدلاً من الحكمة، أصبح تقليد المسيح هو المثل الأعلى الذي شكل الممارسة الروحية. "بكلمات بولس "سأهلك حكمة الحكماء... اليونانيون يطلبون الحكمة، أما نحن فنكرز بالمسيح المصلوب...". بالنسبة لهادوت، فإن فقر الفلسفة الحديثة هو نتيجة التخلي عن التمارين الروحية. ومع تراجع المسيحية وصعود العلمانية، كان هناك ظهور جديد للفلسفة التي يُفهَم أنها أسلوب حياة. ويمكن رؤية هذا في أعمال فلاسفة مثل مونتاني، وكيركيجارد، ونيتشه، وهيدجر وفوكو ودولوز وريكور وهادوت.