عرض الفيلسوف الفرنسي رونالد بارت Roland Barthesفي ورقته المكرسة عن البلاغة القديمة، لملاحظة كان على صواب فيها، أنه: »ينبغي قراءة البلاغة ضمن اللعبة البنيوية لملحقاتها من (علم قواعد اللغة Grammaire ، المنطق، الشعرية Poétique، الفلسفة) « (1). ومن جهتي، أود أن أضيف، انه من اجل تحديد موقع البلاغة وتعريفها بشكل أفضل، ينبغي توضيح علاقاتها مع الديالكتيك على حد سواء.
ميّز الفيلسوف اليوناني ارسطو Aristote، في مؤلفه الارغانون Organon والمتضمن على ستة أعمال منطقية ، بين صنفين من الاستنباط raisonnement : تحليلي analytique؛ وآخر ديالكتيكي dialectique . ومن خلال الدراسة التي اضطلع بها حولهما في كل من الكتاب الثالث التحليلات الأولى "Premiers Analytiques" والكتاب الرابع التحليلات الثانية "Seconds Analytiques"، جرى اعتبار أرسطو مؤسسا للمنطق الشكلاني فحسب. دون ان يضع علماء المنطق الحديثين بعين الاعتبار، الأهمية المتضمنة عليها دراسته عن القضايا الديالكتيكية في كل من: كتابه الخامس الطوبيقا " Topiques "، وكتاب البلاغة "Rhétorique " وكتابه السادس في دحض السفسطائية" Réfutations sophistiques"، والتي جعلت منه مؤسسا لنظرية الحجاج أيضا.
تناول أرسطو في كتب التحليلات " Analytiques" الأولى والثانية، اشكال الاستدلال inférence السارية المفعول، وخاصة القياس المنطقي syllogisme، والتي تسمح في حال طرح فرضيات معينة، ان نصل بالضرورة إلى نتيجة محددة: فأذا كان كل A هو B، واذا كان كل B هو C، نستنتج بالضرورة ان كل A هو C. هذا النوع من الاستدلال يكون ساري الصلاحية بصرف النظر عن صواب أو خطأ مقدمات الاقيسة المنطقية، وذلك لان صواب نتيجته متضمنا في صحة المقدمات بالضرورة. من هنا، اتصف الاستدلال، وعلى حد سواء: بأنه شكلاني بحت، لأنه صلاحيته سارية مهما كان محتوى العبارات A, B, C ( شريطة مراعاة ان يمثل كل حرف نفس القيمة valeur في كل مرة يستعمل فيها)؛ وبأنه يؤسس لعلاقة بين كل من: حقيقة vérité مقدمات الاقيسة المنطقية وحقيقة véritéالنتيجة. فلما كانت الحقيقة خاصية من خواص القضايا المنطقية، ومستقلة عن الآراء الشخصية، أصبح الاستنباط برهانيا démonstratife وغير شخصياimpersonnel . وهذا يقع على العكس تماما مع الاستنباط الديالكتيكي، الذي تتأسس مقدماته المنطقية على آراء متفق عليها بصورة عامة(2)، كما قال أرسطو،وحددها بكونها تلك الآراء المتفق عليها من قبل الجميع، أو من غالبية الناس أو حتى من قبل الفلاسفة، بمعنى آخر، من قبل الأكثرية، أو من قبل الشخصيات البارزة و الأكثر شهرة بينهم(3).
في بعض الحالات، يكون ما هو مقبول بوجه عام، محتمل التصديق vraisemblable، لكن هذا لا يعني الخلط بين هذا الأخير وبين الاحتمالية الرياضية probabilité calculable: بل على العكس من ذلك، فمعنى الكلمة اليونانية«εύλογος » التي نترجمها بـ » المقبول به بشكل عام « أو» القابل للتصديق «، فيه من الملمح الكيفي qualitatif، الذي يجعل من ذلك المعنى قريبا أكثر من مصطلح ما هو صائب raisonnable » «منه إلى مصطلح ما هو محتمل probable » «. وهنا، تجدر الإشارة، إلى انه في الوقت الذي نجد فيه أن الاحتمالية probabilité لا تختص إلا بالوقائع faits أو بالأحداث événements الماضية أو المستقبلية، نلحظ أنه من الممكن أن يجري تناول الموضوعات المتداولة في النقاشات اليومية استنادا لمسميات في غير اوانها intemporelles، مثل: » هل العالم متناه أم لا ؟« ، »هل النظام الديمقراطي يمثل أفضل شكل للحكومة أم لا ؟«.
سنرى في الحال ان الاستنباط الديالكتيكي ينطلق مما هو مقبول، ليكون منفتحا على فرضيات أخرى التي تكون أو يمكن لها ان تكون محل خلاف : لذا فهو استنباط يقترح علينا حجاج إقناعي persuader أو حجاج برهاني convaincre. فهو لا يتكون من قضايا استدلالية صائبة وإلزامية، وانما يسعى لعرض حجج arguments بليغة وإثباتية بعض الشيء، والتي لا يمكن لها أن تكون ابدا محض شكلانية. فالحجاج الاقناعي يسعى للوصول الى اقناع المخاطَب(4) : فعلى خلاف الاستنباط التحليلي، نجد ان الاستنباط الديالكتيكي لا يمكن ان يكون غير شخصيا، لأن فاعليته تقوم على أساس تأثيره على الذهن الانساني. نتيجة لذلك، ينبغي التمييز بوضوح بين كل من: الاستنباط التحليلي والاستنباط الديالكتيكي، فالاول يتمحور حول الحقيقة vérité والآخر على الرأي opinion. كل حقل منهما يقتضي نوعا مختلفا من الخطاب discours، لهذا، يصبح من المثير للسخرية الاكتفاء بحجج استنباطية من جانب عالم الرياضيات، والمطالبة بحجج علمية من متكلم ما(5).
غير ان في هذه المسألة تحديدا، يتضح مدى جِدة عالم المنطق والفيلسوف الفرنسي Pierre de la Ramée والخطأ الذي ارتكبه أيضا، والذي كان لابد وان تكون عواقبه وخيمة على حقل البلاغة. فاستنادا على trivium، اي فنون الخطاب، artes disserendi، عرّف Ramée علم قواعد اللغة بأنها فن التحدث بطريقة حسنة، اي التكلم بشكل صائب، اما الديالكتيك فهو فن الاستدلال بطريقة جيدة، في حين ان البلاغة هي فن القول الحسن، والاستعمال البليغ والمزَّوق للغة(6).
وبالنظر إلى اعتبار الديالكتيك » هو الفن العام الذي يهدف إلى ابتكار كل الأشياء والحكم juger عليها في آن واحد «(7)، زعم Ramée انه » ليس هناك الا منهج واحد هو منهج كل من الفيلسوف اليوناني افلاطون Platon وارسطو...، ومن الممكن العثور على ذلك المنهج عند فيرجيل Virgile وشيشرون Cicéron، وكذلك عند هوميروس Homère وديموسثينيس Démosthène، انه منهج يسود على كل من علوم الرياضيات، والفلسفة، وعلى أحكام وسلوك البشر. «(8).
وبزهو كبير نبذ Ramée التمييز الارسطي بين كل من: الاحكام التحليلية والديالكتيكية، مبررا سبب ذلك: » بأن الأشياء المدركة ذهنيا اما ان تكون الواحدة منها ضرورية وعلمية، والاخرى عرضية وقابلة لتبادل الرأي حولها، فأذا كان من الشائع ان نتمكن من رؤية جميع الالوان بواسطة حاسة البصر، سواء كانت الوانا ثابتة ام متغيرة، فلابد من ان يكون الحال كذلك أيضا مع فن الإدراك، سواء كان ديالكتيكيا أو منطقيا، فهو وحده وبذاته يعتبر المذهب الأساسي في رؤية جميع الأشياء... «(9).
كان لسعة الأهمية المعطاة للديالكتيك المتضمن في آن واحد على دراسة الاستنتاجات الصائبة وفن العثور على الحجج والحكم عليها، الاثر البالغ في استبعاد عنصريين أساسيين في بلاغة أرسطو وهما: الابتكار invention والقدرة على التأسيس disposition، للإبقاء على فن فصاحة اللسان élocution فحسب، الذي يهتم بدراسة أشكال اللغة المنمَّقة. وبعد هذا الاختزال المبرهن عليه فلسفيا من قبل Ramée، قام صديقه Omer Talon والذي كان متأثرا بنفس تلك النزعة، بنشر أول عمل متكامل ومخصص لدراسة الأشكال/الصور figures في البلاغة، وذلك عام 1572 في مدينة كولونيا Cologne. عرّف Talon الشكل figure بأنه: » تعبير expression يجعل مظهر الخطاب مختلف عن ما هو معتاد في طرق الحديث السديد والبسيط «(10). هكذا جرى الحفاظ على البلاغة الكلاسيكية، بلاغة الأشكال، والتي قادت تدريجيا إلى ضمور ومن ثم إلى موت البلاغة.
فمن المعروف على نطاق عام أن المنطق الحديث - بالشكل الذي تطور فيه منذ منتصف القرن التاسع عشر تحت تأثير الفيلسوف الألماني كانت Kant وعلماء المنطق الرياضي - لم يتم مماثلته مع الديالكتيك، وإنما مع المنطق الشكلاني la logique formelle، أي مع الاستنباط التحليلي الارسطي، وأُهمل تماما الاستنباط الديالكتيكي، بأعتباره شكلا غريبا عن المنطق. وهذا ما جعل من المنطق الحديث، كما يبدو لي، انه ارتكب خطأ مماثلا لذلك الذي وقع فيه Ramée. فأذا كان لا يمكن إنكار ما يمثله المنطق الشكلاني من كونه علما مستقلا وقادرا على إجراء العمليات الحسابية كما هو الحال عليه في العلوم الرياضية، فأنه ليس في الإمكان أيضا إنكار أننا نقوم بعملية التفكير، حتى وإن لم يكن هناك أي عملية حسابية، خلال محاورة خاصة أو في نقاش عام، حيث تعرض الحجج المتوافقة أو التي تقع بالضد من الفرضية المطروحة، وحيث يجري نقد أو دحض نقد ما. في جميع هذه الحالات، نحن لا نبرهن مثلما هو الحال عليه في علم الرياضيات، وإنما نحن نحاجج. لهذا، كان من الطبيعي، أن كنا نرى في علم المنطق ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الاستدلال في مختلف اشكاله، ان تصاحب نظرية البرهان démonstration التي تطورت بواسطة المنطق الشكلاني ، نظرية الحجاج l’argumentation التي تدرس الاستنباط الديالكتيكي الارسطي. وهذا الاستنباط يقوم على حجج تسعى نحو قبول أو رفض فرضية مطروحة للنقاش : فدراسة تلك الحجج وشروط عرضها سيكون هو موضوع دراسة البلاغة الجديدة la nouvelle rhétorique هذا الحقل الذي باتساع نطاقه، تتجدد بلاغة أرسطو في آن واحد.
في الواقع، نجد ان أرسطو مثلما جعل ثمة تعارض بين البلاغة والديالكتيك، وذلك خلال دراسته لها في كتابه Topiques، رأى في البلاغة صنوا مناقضا (αντιστροφος) للديالكتيك(11) : الذي يُعنى بالحجج المتداولة في جدل أو في نقاش مع مخاطَب واحد، في حين ان البلاغة تهتم بتقنيات المتكلم الذي يتوجه بخطابه نحو حشد مجتمِع في ميدان عام يفتقر إلى المعرفة المتخصصة وغير قادر على متابعة أي خطاب منطقي استنباطي مهما كانت درجة إعداد ذلك الخطاب(12).
لكن البلاغة الجديدة وعلى خلاف البلاغة الكلاسيكية، هي حقل يُعنى بالخطاب الموجه نحو الجمهور في مختلف اشكاله، سواء كان حشدا مجتمِعا في مكان عام أو في لقاء لمختصين، سواء كان خطابا موجها نحو فرد واحد أو نحو البشرية جمعاء؛ انه حقل يدرس حتى الحجج التي نوجهها لذواتنا نفسها خلال حوار خاص. وبالنظر إلى ان موضوعه هو دراسة الخطاب غير البرهاني، وتحليل الاستنباطات التي لا تقتصر على الاستناجات الصائبة بصورة شكلانية، وعلى حسابات رياضية أكثر أو اقل ميكانيكية، فأن نظرية الحجاج هي البلاغة الجديدة ( أو الديالكتيك الجديد ) التي تشمل كل حقل من الخطاب الذي يسعى إلى الاقناع أو الاثبات، مهما كان نوع الجمهور الموجه اليه الخطاب، ومهما كان محتوى موضوع ذلك الخطاب. وفي الإمكان أيضا ان نضيف، ان كان يبدو ذلك نافعا، ان ترافق الدراسة العامة للحجاج، علوم مناهج méthodologies مخصصة لكل نموذج مختلف من الجمهور المخاطَب ونوع الحقل العلمي. هكذا، يمكننا استحداث منطق تشريعي juridique (13) أو منطق فلسفي، والتي من شأنها أن تكون تطبيقات مميزة للبلاغة الجديدة في حقول القانون والفلسفة.
فعندما اجعل من المنطق الفلسفي تابعا للبلاغة الجديدة، يعني انني اتخذ موقفا إزاء الجدال القديم القائم على التعارض بين الفلسفة والبلاغة، والذي بدأ مع الشاعر اليوناني العظيم بارمنيدس Parménide. فهذا الفيلسوف اضافة إلى افلاطون والفيلسوف الفرنسي ديكارت Descartes والفيلسوف كانت والذين يمثلون تاريخ التقليد الكبير للميتافيزيقا الغربية، كانوا في مجملهم يعارضون دوما بين كل من: البحث عن الحقيقة vérité – الهدف الذي تسعى اليه الفلسفة – ؛ وبين التقنيات الخطابية لعلماء البلاغة وللسفسطائيين الذين يكتفون بقبول الآراء المختلفة والمضَللة على حد سواء. لهذا، فضّل بارمنيدس طريق الحقيقة على طريق المظهر apparence، اما افلاطون فأقام تعارضا بين المعرفة والاراء العامة، وفيما اسس ديكارت العلم على براهين غير قابلة للدحض، معتبرا كل ما هو احتمالي خاطئ إلى حد ما بالضرورة، اقترح علينا الفيلسوف كانت في النهاية، طرد الآراء من الفلسفة، بتأسيسه لميتافيزيقا تشكل في جوهرها ابستمولوجيا épistémologie تشتمل على جميع المعارف التي » لكونها تمتلك اسسا قبلية a priori، ينبغي ان ينظر اليها مسبقا على انها ضرورية بشكل مطلق «.
ولغرض ضمان ان الفرضيات التي نادى بها الفلاسفة لا تحمل على مغالطات ولا على اراء غير مؤكدة وانما على حقائق غير قابلة للجدال، كان ينبغي عليهم ان يستندوا على قاعدة متينة وراسخة غير قابلة للدحض، وعلى حدس جلي، يضمن لهم حقيقة ما هو مدرك على انه واضح في ذاته évidence. الوضوح في ذاته ليس حالة ذاتية subjectif يمكن ان تتغير بين لحظة واخرى ومن فرد إلى اخر : انما يكمن دور مبدأ الوضوح في اقامة جسر بين ما هو مدرك واضح في ذاته بواسطة الموضوع العارف وبين حقيقة القضية الواضحة في ذاتها، والتي يجب ان تفرض بنفس الطريقة على كل كائن عقلاني(14).
اما الحجاج فهو غير قادر على توفير مبدأ الوضوح في ذاته، بل وليس هناك من طريقة للمحاججة ضد ما هو واضح في ذاته. فمن يطرح قضية بديهية يكون متأكدا تماما من انها ستُفرض على جميع المتلقين بنفس درجة وضوحها البديهي؛ فالحجاج اذن لا يمكن له التدخل الا في حال لو تم دحض مبدأ الوضوح في ذاته. وفعلا، هذا ما لاحظه أرسطو، عندما اقرّ انه من الضروري اللجوء إلى "الاستنباط الديالكتيكي" عندما تكون المبادئ الأولى – المفروضة عادة لما تحمله من وضوح في ذاته – لعلم ما محل نزاع(15). وينطبق الشيء نفسه عندما نتناقش حول تعريف ما يكون محل جدال.
فحتى لو كان من المعتاد ادراك المفاهيم البسيطة والمبادىء الأولى لعلم نظري بواسطة الحدس، فأن أرسطو اقرّ بضرورة الاستعانة بالحجاج في الحقول العملية les disciplines pratiques كعلم الاخلاق l’éthique وعلم السياسة، حيث تكون الخيارات والمجادلات فيها حتمية، سواء كان في حوار خاص أو في نقاش عام. لهذا السبب، عندما جاء أرسطو في مؤلفه الاورغانون Organon، المتضمن على كتبه التحليلات Analytiqyes والتي انشغلت بالاستنباط الشكلاني، نجده في الوقت نفسه انهمك في كتابه Topiques على دراسة "الاستنباط الديالكتيكي" ليفسح المجال امام اختبار افضل الاراء القابلة للتداول العقلاني raisonnable (εϖλογοζ).
كل من يعتقد انه يستطيع الوصول إلى الحقيقة بمعزل عن الحجاج، لا يحمل الا الازدراء للبلاغة التي ترتكز على الاراء opinions : وفي احسن الاحوال، قد تستعمل البلاغة لغرض الترويج لحقائق معينة، ومنح الضمانات للمتكلم بواسطة الحدس ومبدأ الوضوح في ذاته، لكن لا يمكنها ان تعمل على تثبيت تلك الحقائق ابدا. فأذا كنا لا نعترف بأمكانية تأسيس فرضيات فلسفية على حدوس بديهية، ينبغي اذن اللجوء إلى تقنيات حجاجية من اجل تأسيس فرضيات قابلة للتداول. هكذا، تصبح البلاغة الجديدة اذن اداة ضرورية للخطاب الفلسفي(16).
ومن اقرّ، كالفيلسوف الفرنسي بول ريكور P. Ricoeur، بمكانة الحقائق الميتافورية des verités métaphoriques في الفلسفة، تلك الحقائق التي لا يمكن ان تسود بمبدأ الوضوح القسري contraignante، لأنها حقائق تقترح اعادة تشكيل الواقع، فأنه عادة لا يمكن ان ينكر أهمية التقنيات البلاغية في جعل ميتافور ما يتغلب على آخر غيره(17) : فلا يستطيع إهمالها إلا لو اعترف بوجود حدس يفرض رؤية واحدية للواقع ويستبعد الرؤى الاخرى(18).
ان انحسار دور حقل البلاغة منذ نهاية القرن السادس عشر، يعود إلى صعود الفكر البرجوازي، الذي سعى إلى تعميم دور مبدأ الوضوح في ذاته، سواء كان يشير إلى الوضوح الشخصي للنزعة البروتستانتية protestantisme، أو إلى الوضوح العقلاني للنزعة الديكارتية cartésianisme أو إلى الوضوح الحسي للنزعة التجريبية l’emprisime(19).
مما سبق ذكره، ادى كل من: ازدراء البلاغة ونسيان نظرية الحجاج إلى نفي العقل العملي، وجرى اختزال مشاكل الفعل الانساني تارة ضمن دائرة مشاكل المعرفة أو الحقيقة أو الاحتمالية، وتارة أخرى بأعتبارها غير مستندة على ماهو عقلاني.
لكن كل من يعتقد بوجود خيارات معقولة يسبقها جدل ونقاش فيها حلولا مختلفة تواجه بعضها البعض، ويرغب بالوصول إلى وعي منفتح على مناهج ذهنية متداولة لا يمكن له ان يتجاوز نظرية الحجاج كما يطرحها حقل البلاغة الجديدة. وهذا الحقل لا تتوقف حدوده عند الجانب العملي، وانما تتسع لتصل إلى عمق المشاكل النظرية وفق رؤية الفرد الذي يدرك الدور الذي يلعبه اختيار التعريفات définitions والنماذج modèles والمقارنات analogies في نظرياتنا، وبصورة عامة، في الوظيفة التي يؤديها استحداث لغة مناسبة تتكيف مع حقول دراساتنا المختلفة. بهذا المعنى يمكننا ان نعيد اللحمة بين كل من وظيفة الحجاج والعقل العملي، تلك الوظيفة التي ستكون جوهرية في كل الحقول حيث نلاحظ كيف يتبلور العقل العملي، حتى عندما يتعلق الأمر بحل مشاكل نظرية. سأحاول فيما بعد توضيح هذه النقطة لتجنب أي سوء فهم يخص اثر الحجاج وفق رؤيتي الخاصة له.
الهوامش :
(*) هذا عنوان الفصل الأول (Logique, Dialectique, Philosophie et Rhétorique) من كتاب "مؤسس البلاغة الجديدة" الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان Chaïm Perelman (1912- 1984)، وهو:
L’EMPIRE RHÉTORIQUE, RHÉTORIQUE ET ARGUMENTATION, Librairie Philosophique J. Vrin, France, 1977,1997, pp. 15-22.
(**)باحثة من العراق- متخصصة في الدراسات الفلسفية.
(***)باحث من العراق- مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها
(1) R. BARTHES, L’ancienne rhéthorique, dans Communications, 16, Paris,1970, p. 194
(2) ARISTOTE, Topiques 100 a 30-31
(3) Ibid., 100 b 22-24
(4) ARISTOTE, Rhétorique, 1356 B 28
(5) ARISTOTE, Éthique à Nicomaque, L. I. 1094 b, 25-28
(6) Cf. Pierre de la Ramée,Dialectiaue (1555),éd. Critique de M. Dassonville,Genève, Droze,1964,p.61
(7) Ibid., p. 50 (p. II de la préface)
(8) Ibid., p. 25, citation de la Préface de Scholae in liberales artes.
(9) Ibid., p. 62 (Dialectique, L. I. pp. 3-4)
(10) Cf. à ce propos Ch. PERELMAN et L. OLBRECHTS-TYTECA, La nouvelle rhétorique, Traité de l’argumentation, P.U.F., Paris, 1958, 3e éd. Édition de L’Université de Bruxelles, 1976, p. 227
(11) ARISTOTE, Rhétorique, 1354 a 1
(12)Ibid., 1357 a 1-3
(13)
Cf. Ch. PERELMAN, Logique Juridique, Paris, Dalloz, 1976
(14)Cf. « Évidence et preuve » dans Ch. PERELMAN, Justice et Raison, Presses Universitaires de Bruxelles, 1972, pp. 140-154 et « De l’évidence en méthaphysique », dans Ch. PERELMAN, Le Champ de L’argu,entation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, pp. 235-248
(15) ARISTOTE, Topiques, 101 a et b
(16) Cf. Ch. PERELMAN, Philosophie, Rhétorique, Lieux Communs, Bulletin de L’Académie Royale de Belgique. Classe des Lettres et des Sciences morales et politiques, 1972, pp. 144-156
(17)Cf. Ch. PERELMAN, Analogie et Méthaphore en science, poésie et philosophie, dans Le Champ de L’argumentation, pp. 271-286
(18) Cf. P. RICOER, La Métaphore vive, pp. 310-321.
(19)Cf. Ch. PERELMAN et L. OLBRECHTS-TYTECA, Logique et Rhétorique, dans Rhétorique et Philosophie, Presses Universitaires de France, 1952, p. 30. V. aussi R. BARTHES, L’ancienne rhétorique, dans Communications, 16, 1970, p. 192
(20) Cf. à ce propos R. BLANCHÉ, Le raisonnement, Paris, P.U.F., 1973, pp. 230-231, ainsi que M. VILLEY, Nouvelle rhétorique et droit naturel, Logique et Analyse, n. 73, 1976, pp. 4-10