من الواضح أن من أهم منجزات الصحوة البورجوازية "تصنيف العلوم وتبويبها",واستقلال بعضها عن البعض الاخر,وظهور علوم جديدة لها مباحثها ومناهجها.
وعلى ذلك فليس من المستغرب أن يشهد حقل المعرفة التاريخية الظاهرة نفسها,فيظهر التاريخ كعلم مستقل بذاته عن المعارف الأخرى,ويفيد منها في الوقت عينه,ويصبح "مصطلح التاريخ"_ الذي ظهر إبان بواكير بورجوازية ما قبل الاسلام- شائعا في عصر الصحوة البورجوازية بعد غيبة طويلة إبان العصور السابقة.وتلك ملاحظة بالغة الخطورة على ارتباط العلم بالبورجوازية ,ومن ثم صدق مقولة سوسيولوجية الفكر.
ونتلمس كذلك تأثيرات الصحوة في تقدير علم التاريخ- الذي كان ينظر الى مباحثه وموضوعاته قبل الصحوة نظرة استخفاف – وتبجيل المؤرخين باعتبار "بضاعتهم" "من العوامل المؤثرة في تيارات الحياة...وتؤدي دورا تربويا وسياسيا فعالا".ومعلوم أن ارتباط العلم بالحياة وتكريسه لخدمة أغراض عملية,سمة بارزة من سمات الفكر الليبر الى البورجوازي.وهذا ينفي الرأي القائل بأن "حاجة العرب الى العلم إنبثقت من الدين".
وتقود حقيقة سوسيولوجية نشأة علم التاريخ الإسلامي الى مناقشة آراء الدارسين بصدد تلك النشأة.وتكاد هذه الآراء جميعا تضرب في اتجاه واحد وهو النشأة العربية المحضة,وإن أشارت بعضها الى وجود تأثيرات أجنبية طفيفة.
يقول العلامة أحمد أمين "إن تأريخ حوادث الإسلام في عصوره الأولى كان إسلاميا بحتا ونتيجة تطور طبيعي من الداخل..فلم تحدث تأثيرات من اليونان أو الفرس في حياة المؤرخين الأوائل ".وفي المعنى نفسه ذكر مرجوليوث "لم تكن نشأة التاريخ الإسلامي استمرارا للتواريخ القديمة,وإنما هو نمو طبيعي جاء به الى الوجود حاجات المجتمع,وتتجلى به خصائص خاصة به".ورغم تأكيده على "حاجات المجتمع"كواقع لنشأة العلم,تجاهل تلك الحقيقة حين أبرز "المغزى الأخلاقي كهدف للمعرفة بالتاريخ آنذاك".
كما وقف لاكوست على حقيقة النشأة السوسيولوجية حين رأى أن "الفكر التاريخي جاء تطورا كميا نتيجة تحول كيفي ".
أما روزنتال فقد تخبطت آراؤه في هذا الصدد,فتارة يؤكد النشأة الاجتماعية الخالصة,وأخرى يبرز دورالتأثيرات الأجنبية وخاصة في الجوانب التقنية.يقول "لم يكن هناك تأثيرات فارسية أو إغريقية فيما ابتكره المسلمون من المنهج الحولي".لكنه أثبت في موضع آخر "تأثيرات الحوليات البيزنطية وخاصة ما نسب الى المؤرخ البيزنطي أيونيس ملالاس الذي ربما عرفه العرب من طريق السريان الذين اتبعوا الأسلوب الحولي نفسه,وبالذات عند يعقوب الرهاوي".
وأضاف "وبالإجمال فإن قليلا من الاعتراض يمكن توجيهه الى الافتراض بأن التاريخ الحولي الإسلامي كان مدينا في بداية أيامه الى النماذج الإغريقية والسريانية,لم يكن هناك كتاب معين ألهم المؤلفين المسلمين,ولكن فكرة الترتيب على السنين جاءت الى العلماء المسلمين الأول عن طريق الاتصال بالنصارى".
وواضح من نصوصه تذبذب موقفه,وافتقاره الى قرائن وبراهين تدعم مذهبه.والصواب ما ذهب اليه مرجوليوث من أن "النظام الحولي اختراع عربي قح له أصوله الثابتة في الجاهلية",كما أن "القاعدة التقنية في توثيق الأخبار المعروفة بالإسناد تقليد أخذه المؤرخون عن المحدثين".يدعم ذلك قول لاكوست أنه "لا في اليونان ولا في بيزنطة ولا في أوربا عامة في العصور الوسطى,لم يكن للتاريخ مكانة في النشاط الثقافي كتلك التي كانت عند العرب",وما وقف عليه ابن خلدون من أن الذميين الذين أسلموا "كانوا يومئذ بادية لا يعرفون إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب".
ونحن نرى أن الخوض في تلك المسألة غير ذات موضوع.طالما أن أهل الذمة سواء من أسلم منهم أوظل على عقائده السابقة كانوا مواطنين ورعايا في "دار الإسلام",لهم فعالياتهم الاقتصادية وحتى السياسية في كثير من الأحيان.لقد كانوا خيوطا في نسيج الواقع الاجتماعي,أثروا فيه وتأثروا به.وإذ لم يثبت الدارسون لهم دورا في نشأة علم التاريخ الإسلامي,فقد أسهموا في ميادين الفكر الأخرى إسهامات لها ثقلها,بحيث حظيت فعالياتهم في هذا الصدد باهتمام المؤرخين المسلمين.وعلى ذلك يمكن القول بوجود تأثير ضمني لتلك الطوائف على موضوع التاريخ,نفسه لأن حياتهموفعاليتهم أصبحت جزءاً من الواقع المعيش وهو مبحث التاريخ وموضوعه.
وثمة مسألة أخرى جديرة باليحث تتعلق بموضوعية المؤرخين الرواد.وإذ يعتبر التصدي لها أمرا سابقا لأوانه قبل تناول أعمالهم,نكتفي بعرض بعض جوانبها التي تلقي أضواء على سوسيولوجية نشأة علم التاريخ.
اختلف الدارسون – كالعادة – في تقدير موضوعية المؤرخين الرواد فيما صنفوا من تواريخ,فالبعض نعى عليهم الافتقار إليها لأسباب سياسية أو إديولوجية,وحتى الذين فطنوا لتأثيرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تزييف التاريخ خانهم التوفيق.بينما أكد البعض التزام المؤرخين الرواد بقدر كبير من الحياد والموضوعية والأمانة العلمية.في حين تذبذب اتجاه ثالث بين الاتجاهين السابقين.
ويمثل الاتجاه الأول روزنتال وإيف لا كوست,حيث كرس روزنتال في كتابه "علم التاريخ عند المسلمين"دراسة مستفيضة عن "المؤرخين الرسميين"أو مؤرخي البلاط ذهب فيها الى إن معظم مؤرخي الإسلام ارتبطوا بالسلطات الحاكمة,نظرا لاشتغالهم بالإدارة والقضاء,أو عملهم كمؤرخي بلاط يدبجون سيراً للخلفاء أو الأمراء,وتواريخ لأسرهم الحاكمة.وحتى المؤرخون "الهواة"- كما اطلق عليهم – كانوا يمالئون السلطة حتى يكتب لمؤلفاتهم الرواج,فعول الكثيرون منهم على تقدير مؤلفاتهم للحكام ابتغاء حظوة في المال أو الجاه,وكل ذلك فت في موضوعية أعمالهم.
وفي المعنى نفسه ذكر لاكوست أن نشأة التاريخ الإسلامي "كانت رسمية بتكليف من أولي الأمر ما شكل عوائق نحو التزام الموضوعية",كما أشار الى أن اتسام النشأة بطابع "القدسية" "حرم الفكر التاريخي من المنهج النقدي".
هذا عن المعوقات السياسية والإديولوجية.أما المعوقات السوسيولوجية فقد نبه إليها طيب تيزيني حين ذهب الى تأثير الوضع الطبقي في انحياز المؤرخين الى انتماءاتهم ,ضاربا المثل بالبلاذري وكتابه "أنساب الأشراف".زاعما أنه تعصب فيه للأرستقراطية,والطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"الذي يعد في نظره "تاريخا للأديان".لذلك أضاف الى العامل الديني تأثير الوضع الاقتصادي في تفسير "لاموضوعية" المؤرخين الباكرين.
والاتجاه الثاني القائل بموضوعية نشأة علم التاريخ الإسلامي نتلمسه في آراء مرجوليوث وعلى أدهم,فقد ذهب الأول الى "أن غالبية مؤرخي الإسلام لم يكونوا "رسميين",ففي القليل النادر ما كتب هؤلاء مصنفاتهم بأمر من السلطة – على الأقل في مرحلة النشأة – حيث لم تظهر وظيفة "مؤرخي البلاط" إلا في عصور تالية,ومن ثم "فإن المؤرخين الأوائل التزموا الدقة في تنقية الروايات ونقدها,والموضوعية فيما دونوه,لأن معظمهم كانوا في حالة رغدة من العيش كالطبري مثلا,وبعضهم خدم في الدواوين الى جانب أعمالهم الخاصة".واستشهد بموضوعية الطبري في عدم انحيازه لبني العباس رغم أنه كتب تاريخه إبان خلافتهم.
وفي الاتجاه نفسه مضي على أدهم فذهب الى أن المؤرخين الأوائل,"لم يعيشوا في كنف الأمراء,ولم يكتبوا التاريخ إرضاء للخلفاء والأمراء,وإنما كتبوه بدافع من ميل الى البحث والاستقصاء".
أما الاتجاه الثالث "التوفيقي"فنستدل عليه فيما ذهب إليه أحمد أمين من أن نشأة علم التاريخ ارتبطت بحكم بني العباس "الذين استخدموا التاريخ كوسيلة من وسائل الدعوة العباسية,فكان الخلفاء يشترون ذمم بعض المؤرخين بحيث حاولوا إظهار العصر العباسي بلون زاهر فاخر والعصر الأموي بلون قاتم مظلم".ويسوق أمثلة في هذا الصدد للتدليل على مذاهبه.
لكنه يعود في موضع آخر فيشيد بروح التسامح العلمي التي كما أتاحت لبعض الشعراء هجو بعض الخلفاء,سمحت لمؤرخي المعارضة بالحرية في التعبير عن وجهات نظرهم. كما أشاد بالنقلة المنهجية التي تمت على يد الرواد من المؤرخين,من حيث استقاء الأخبار من مظانها,ومقارنتها ونقدها,وتوثيقها بالإسناد,وتنظيمها وسلسلتها على شكل حولي مبتكر.
ونكتفي في هذا المجال بنقد الاتجاهات السابقة – في عجالة – تاركين الأدلة والقرائن تكشف عن نفسها من خلال دراسة أعمال هؤلاء المؤرخين.فروزنتال عمم أحكامه حين تصور معظم المؤرخين "رسميين",والثابت أن تلك الظاهرة لم تولد في عصر الصحوة,ولا تنطبق على الرواد المؤسسين لعلم التاريخ.وحتى أولئك الذين خدموا في الدواوين إبان الصحوة,فإن انحيازهم لفكر حكومتها "المتبرجزة" لا يعد انحيازا عن الحقيقة,بل انحياز لها,ولم نسمع عن مؤرخ "هاو"- على حد قوله – نال حظوة من السلطة في مقابل تقديم أعماله باسمها.
وينسحب النقد نفسه على رأي لا كوست في هذا الصدد.أما قالته في "النشأة القدسية"لعلم التاريخ فتصبح غير ذات بال,إذا علمنا أن هذه النشاة كانت تعني انفصال المعارف التاريخية عن العلوم التي اعتبرت علوما دينية كالفقه والحديث ,بل أن هذه العلوم كرست في عصر الصحوة لخدمة أغراض دنيوية,ومعلوم أن الفكر البورجوازي – بوجه عام – فكر مادي عقلاني حياتي بالدرجة الأولى.
أما انزلاق تيزيني في أحكامه على البلاذري في "أنساب الأشراف"والطبري في "تاريخ الرسل والملوك",فعذره أنه ليس مؤرخا,بل تنم ملاحظته في اعتبار الكتاب الأول تأريخا لنبلاء العرب والثاني تأريخا للأديان, عن انخداعه بعنواني الكتابين,وعدم اطلاعه عليهما ألبتة.ولو تمهل وقرأ مجرد صفحات قليلة منها قبل المجازفة بإطلاق حكمه,لأدرك أن البلاذري حمل في "أنساب الأشراف" حملة عنيفة على الأشراف,وأن تاريخ الطبري يعد أول إنجاز إسلامي لتاريخ عالمي دنيوي بشهادة كل الدارسين.وننوه – في استحياء – بأن للكتاب عنواناً آخر هو السائد والمتعارف عليه,ألا وهو "تاريخ الأمم والملوك",ومضمونه مصداق عنوانه.
ولا تعليق لنا على التجاه الثاني الذي يشيد بموضوعية المؤرخين الرواد,فذلك ما نعتقد في صوابه.أما الاتجاه الثالث التوفيقي الذي تبناه أحمد أمين فنحن نوافقه في شطره الثاني الذي أبرز فيه سلامة المنهج وتطور الرؤية,وما أفرزته الصحوة من روح التسامح للأتجاهات كافة كي تعبر عن تياراتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
أما مقولته في توظيف بني العباس التاريخ لخدمة دعوتهم لتشويه أسلافهم الأمويين والغض عن نقائص الأسرة العباسية,فالمعول عليه في هذا الصدد طبيعة النظام السابق الذي استهدفه النقد,وكذا مآثر النظام الجديد الذي قرظه المؤرخون.ولاحاجة بنا لاجترار ما سبق تفصيله عن مفاسد النظام الأموي الذي سادته"الإقطاعية".كذلك لا يمكن إنكار ما أنجزه النظام الجديد من نقله تاريخية.
والمؤرخ في عصر الصحوة البورجوازية – وفي كل عصور الاستنادة – عليه أن يتخذ موقفا "تقويميا" للماضي وكذا الحاضر المعيش,وإلا تخلى عن مهمته الحقيقية.
ويصبح التاريخ في الحالة تلك"مجرد قصص وأخبار,ونهاية معرفته,الأحاديث والأسمار".وهو ما ساد دائما في عصور "الجهالة" الإقطاعية.
ومؤرخو الصحوة البورجوازية عبروا عن الفكر التاريخي كما يجب أن يكون,فكان لهم رؤاهم ومواقفهم,ومع ذلك لم ينزلقوا الى مزالق "اللاموضوعية" في الغالب الأعم.
وحسبما ذكر أحمد أمين نفسه أتاحت "ليبرالية" الصحوة لمؤرخي المعارضة انتقاد بني العباس فيما يستحق الانتقاد,ولم يتقاعسوا عن ذكر بعض مآثر الأمويين.
ومع ذلك لا يمكن إنكار وجود بعض مزالق وهنات شابت بعض أعمال بعض المؤرخين عفواً أو قصداً,وهو أمر مألوف في كل العصور لمن عرك ميدان التاريخ.ومهمة المؤرخ الكشف عن مواطن الزيف,ولن يعدم من الوسائل ما يعين على ذلك,خاصة إذا تعددت الاتجاهات وتباينت الرؤى واختلطت الروايات.ويصبح هذا التعدد والتباين والخلط إثراء لعمل المؤرخ,إذ بقدر ما تراكمت التناقضات بقدر ما أصبح الوصول الى الحقيقة في المتناول,لأن الحقيقة لا تموت رغم محاولات طمسها.
والمنهج القوي أداة المؤرخ النابه في الكشف عن الزيف وإجلاء الحقيقة والعصمة من الزلل,لأنه الوسيلة الناجعة والمعينة "على نقل الحقيقة في ذاتها الى تصور ذهني منطقي في النهاية".
والمنهج إنجاز للعقل البشري في رحلته الطويلة من أجل تيسير إدراك المعرفة,ومن ثم يصبح نتاجا لتفاعل العقل مع التجربة.لذلك لا قيمة ألبتة لمعرفة لم "تعقلن",كما يحلق العقل في فراغ الوهم بدون مادة معرفية يعمل عمله فيها.وهنا تصدق مقولة ابن خلدون في مشروعية تدخل عقل المؤرخ في موضوع عمله,حيث رأى "أن البصيرة تنقد الصحيح إذا تعقل,والعلم يجلوها كصفحات القلوب ويصقل,والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييف ما ينقل".وكذا تبجيل سبنيوز للعقل في حقل التاريخ حيث قال:"إن العقل لديه قدرة الكشف عن الزيف على الأقل اذا استعصمت عليه الحقيقة".
نخلص من هذه الوقفة بأن نشأة علم التاريخ كانت نشأة صحيحة,لأن العلم ولد في عصر سيادة البورجوازية بفكرها الليبرالي,وجاءت كتطور طبيعي مواكب لنقلة سوسيولوجية وثقافية,كانت تتويجا لجهود سابقة اضطلع بها الرواة والإخباريون في العصور السابقة.ويعزى الفضل في استقلال العلم وصياغة مناهجه الى جيل من المؤرخين الرواد كالطبري والبلاذري وابن قتيبة واليعقوبي وغيرهم في الشرق,وابن عبد الحكم في مصر,وابن الصغير في المغرب,وعبد الملك بن حبيب وابن القوطية في الأندلس.
ولا غرو فقد أشاد ابن خلدون بهم في معرض تعريضه بالمؤرخين اللاحقين,فاعتبر السابقين "فحول المؤرخين"واللاحقين "عالة عليهم".
ولنحاول إبراز التأثيرات السوسيولوجية في أعمال هؤلاء المؤرخين ودورها في توجيه رؤاهم التاريخية.
وأول ما يلاحظ في هذا الصدد أن نشأة علم التاريخ وظهور المؤرخين لم تكن ظاهرة شرقية قحة,بمعنى أن الغرب الإسلامي أسهم بمؤرخيه الرواد في الحركة التاريخية.صحيح أن مؤرخي الغرب آنذاك لم يصلوا الى مكانة زملائهم المشارقة لكن مجرد ظهورهم في تلك الحقبة وتأثرهم بأعمال مؤرخي الشرق,دليل ناصع على سيولة الثقافة الإسلامية بفضل المد البورجوازي الذي غمر العالم الإسلامي شرقا وغربا.
ويلاحظ أيضا أن السواد الأعظم من المؤرخين الرواد كانوا إفرازاً للمد البورجوازي اجتماعيا وإديولوجيا,ولا غرور فقد انتموا الى الموالي الذين سادوا الحياة الإسلامية إبان الصحوة.كما اعتنقوا إديولوجيات ليبرالية ,حيث كان أغلبهم من الشيعة المعتدلة والمعتزلة – ومعلوم أن التشيع والاعتزال امتزجا في عصر الصحوة الى حد كبير – والقليل النادر انتمى الى اليسار المتطرف "الخوارج",أو اليمين المحافظ "السنة".وإن دل ذلك على شيء فعلى سيادة الفكر الليبرالي كرد فعل لسيادة البورجوازية .و هذا يفسر تحامل مؤرخي السنة على مؤرخي الليبرالية في الوقت نفسه الذي أفادوا فيه من إنجازهم.وتفسير تلك الحقيقة مسايرة الاتجاهات المتطرفة للنمط الاقتصادي – الاجتماعي والفكري السائد,وتطوير معتقداتها بما يتسق وروح العصر,وتلك قاعدة تشهد على سوسيولوجية الفكر.
إذ سنلاحظ قاسما مشتركا واضحا في مناهج المؤرخين بعامة من حيث موسوعية الثقافة,نتيجة الأسفار والرحلات في طلب العلم,وتوسيع النظرة للتاريخ لتحتوي التاريخ العالمي,فضلاً عن شيوع روح النقد في تمحيص الروايات,والموضوعية – في الغالب الأعم – في الأحكام,وتقدم "تكنيك "العرض التاريخي من حيث الترتيب الحولي,والاهتمام بلب الموضوع أكثر من التعويل على الإسناد,الى غير ذلك مما سنتناوله بالتحليل ثم التركيب والتنظير.
ومن المحقق أن استقصاء الأصول الا جتماعية والاتجاهات الإيديولوجية لهؤلاء المؤرخين,قمين بترسيخ تلك الحقائق,فالسواد الأعظم – كما قلنا – كانوا ينتمون الى البورجوازية بفكرها الليبرالي.وعلى سبيل المثال كان الطبري (ت 310ه) موسراً يتعيش من ضيعة في طبرستان,الأمر الذي أتاح له أن يتفرع للفكر بعامة والتاريخ بخاصة,كما عرف بميوله الشيعية المعتدلة,حيث أنكر تطرف الخوارج والرافضة.ولايعني ذلك أنه عبر عن وجهة نظر السلطة كما ذهب روزنتال,فتاريخه خير شاهد على نزاهته العلمية كما سنوضح بعد قليل.وأبو حنيفة الدينوري( ت 282 ه) كان تاجراً معتزلي المذهب شيعي الهوى,وسينعكس ذلك على ثقافة الموسوعية الواسعة التي ارتبطت بالاعتزال.
وأحمد بن طاهر طيفور (ت 270 ه) كان مؤدب كتاب معتزلي المذهب,ولا غرو فقد حظي برضى الخليفة المأمون .وتنم وظيفته عن تكريس التاريخ في خدمة أغراض عملية وهو مظهر من مظاهر العلم البورجوازي.
والبلاذي (ت 248 ه) كان مؤدباً شأنه شأن ابن طيفور.وإذا ما علمنا أن الخليفة المعتز عينه مربيا لابنه عبد الله,وأن الخليفة كان مغضوبا عليه من الأستقراطية العسكرية التركية,أدركنا شيئا عن ميوله المذهبية الاعتزالية التي أخفاها في عصر انتكاس الاعتزال تقية , لأن مذهب أهل السنة قد أعيد إحياؤه منذ خلافة المتوكل.
أما ابن قتيبة (ت 270 ه ) فقد اشتغل بالقضاء,وعرف بتشيعه.كذلك كان اليعقوبي كاتبا معتزليا.
تلكم هي جمهرة المؤرخين الرواد الأعلام الذين أفرزتهم الصحوة البورجوازية في الشرق بأصولهم الطبقية وانتماءاتهم الإديولوجية.وسيكون لذلك تأثيره على فكرهم التاريخي,حيث صنفوا تواريخ عالمية تجاري التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أنجزته البورجوازية.
ومن مظاهر تأثيرات الصحوة كذلك,مااشتهر به هؤلاء المؤرخون الرواد من "الرحلة في طلب العلم ".ومعلوم أن النشاط التجاري المتنامي عقد أواصر الاتصال بين كافة بقاع العالم الإسلامي براً وبحراً,كما كانت قوافل الحجيج تجتاز المسالك والممالك وتلتقي جميعا في الديار المقدسة.وفي الحالتين معا أتيح لأهل العلم سهولة الحركة والاتصال واللقياوونجم عن ذلك تبادل المعارف والأفكار الى جانب تبادل السلع وأداء الشعائر.وشجعت سهولة الأتصال على قيام أهل العلم " برحلات علمية " محضة بهدف التعلم أو التعليم.
ولاشك أن المؤرخين بزوا غيرهم في هذا الصدد,لما تميله طبيعة عملهم من ضرورة الرحلة لجمع المعلومات.فالطبري مثلا " رحل الى العراق والشام ومصر", والبلاذي كان له رحلة وراء المعرفة " فزار البلاد التي كتب عن فتوحها ",واليعقوبي كان مؤرخا وجغرافيا ورحالة جاب البلدان وألف عنها.
ولاشك أن الرحلة في طلب العلم أثرت معارف هؤلاء المؤرخين, فألموا بثقافة عصرهم الدينية والدنيوية.إشتغل الطبري الى جانب التاريخ بالفقه والحديث والتفسير,وأبو حنيفة الدينوري "جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب وله حظ وافر في علم النجوم وأسرار الفلك"- على حد وصف أبي حيان التوحيدي – بالإضافة الى معرفة بعلوم النبات والرياضيات,فضلا عن التفسير واللغة والأدب .والبلاذري اشتهر بثقافة موسوعية شأنه شأن أعلام المعتزلة.وابن قتيبة أنموذج فذ في ثقافته الواسعة,يشهد على ذلك كتابه "المعارف",فضلا عن إحاطة دقيقة بالسياسية وخباياها,كما ينطق بذلك كتابه الإمامة والسياسة".واليعقوبي برع في الفلك وكرسه لخدمة التاريخ,وكتابه "البلدان" دليل على معارفه الواسعة في مجال الجغرافيا الطبوغرافية والبشرية.
وبديهي ان تنعكس هذه الثقافة الموسوعية على جهودهم في حقل التاريخ موضوعا ومنهجا وفكرا,فقد موضوع العلم ووسعت مباحثه ليغطي تاريخ العالم.كتب الطبري تاريخا للبشرية منذ الخليقة حتى عام 298 ه, وتاريخ الدينوري " الأخبار الطوال" تاريخ عالمي حتى خلافة المعتصم,وابن طيفور عرض لتاريخ الخلافة العباسية حتى عصر المأمون بالإضافة الى تقديم تراجم للشعراء ومختارات من دواوينهم,ومصنفه عن "تاريخ بغداد" بالرغم كونه تاريخا محليا,إلا أنه يمتاز عن التواريخ المماثلة- كتاريخ الموصل للأزدي- بتعدد موضوعاته ومباحثه,وخاصة في الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية.
وقد نالت هذه المباحث حيزا هائلا فيما صنفه البلازدي من مؤلفات,فكتابه "أنساب الأشراف" أعظم من أن يكون مؤلفا في الطبقات,وتبرز قيمته الحقيقية في تقديم معلومات اقتصادية على درجة من الأهمية أفاد هو منها في تكوين رؤيته التاريخية,يتجلى ذلك في حملته العنيفة على الأرستقراطيتين القديمة والمستحدثة في عصره,والكتاب يؤكد خبرته الفذة في أمور الاقتصاد,ولا غرو فقد تتلمذ على أبي عبيد بن سلام مؤلف كتاب "الأموال".وفي "فتوح البلدان"برهن البلاذري على تفرد في ميادين النظم والأوضاع الاجتماعية والشؤون الإدارية بزفيها معاصريه.
وابن قتيبة أرخ للتطور السياسي في العالم الإسلامي,كاشفا النقاب عن استتار الساسة بالدين,مبرزا دور الأهواء والأطماع والمصالح فيما شجر من صراعات سياسية.وفي كتابه "المعارف" توسيع لدائرة التاريخ لتشمل فضلا عن السير والأنساب والمغازي والفرق,مظاهر العمران البشري ,وخاصة في جانبه الثقافي.
وتاريخ اليعقوبي يدخل في إطار "التواريخ العالمية"ولكن بصورة موجزة,حيث حفل بعرض المعالم الأساسية,وضرب صفحا عن التفصيلات.و كتابه "البلدان" نوع من الأدب الجغرافي التاريخي المتطور,أبرز فيه تأثير الجغرافيا في التاريخ.ولا مبالغة إذا اعتبرناه أول مؤلف إسلامي في مجال "الجيوبولتيكا".وفي الكتابين معا ينم عن احتفاله بالتاريخ الثقافي.
وفيما يتعلق بالمنهج,نلاحظ اهتمام بعض المؤرخين الرواد بالإسناد كما فعل الطبري,أو إغفاله كما هو شأن اليعقوبي.وفي الحالتين معا يظهر التدقيق في تحري الأخبار,فالطبري ذكر الروايات المتاحة كافة وأسندها الى رواتها.واليعقوبي اهتم بجمع الوثائق وذكرها في مواضعها.فضلا عن حرصه على مساءلة شهود العيان,يقول في هذا الصدد"....وقد اتصلت أسفاري ودام تغربي , فكنت متى لقيت رجلا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره وبلده وساكنيه ودياناتهم ومقالاتهم....ثم أثبت كل مايخبرني به من أثق بصدقه,وأستظهر بمسألة قوم بعد قوم حتى سألت خلقا كثيرا من الناس".والبلاذري أعمل النقد في الروايات حتى أثر عنه مذهب الشك الى حد الوسوسة,وتلك خلة حميدة لمن يشتغل بالتاريخ.أما ابن قتيبة فعزف تماما عن الإسناد,واهتم بتسلسل القصة التاريخية في المحل الأول.
وبخصوص نمط الكتابة,فقد ساد الأخذ بالنظام الحولي وخاصة في المصنفات الكبرى,كما هو حال الطبري.بينما فرضت طبيعة الموضوعات تقنية تناولها,بحيث عول البلاذري مثلا على تعقيب الحدث وتتبعه عبر السنين,فطفر بفنية الكتابة طفرة كبرى من حيث معالجة الأحداث كوحدة لاتتجزأ.
وفي الحالين معا استخدم المنطق في الرصد التاريخي,إذ راعى المؤرخون تسلسل الرواية وتنسيقها,في لغة سلسة ومباشرة لا تحفل بالتنميق والبديع بقدر اداء المعاني في وضوح ومع ذلك انطوت لغة هؤلاء المؤرخين – وخاصة ابن قتيبة – على بيان راق وأسلوب أدبي فني رفيع.
أما عن التفسير والتأويل,فقد أنكر بعض الدارسين على المؤرخين الرواد حقيقة إمكانية وجود رؤى تاريخية لديهم,إستنادا الى قول أحدهم- وهو اليعقوبي- "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أخطرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه,والآثار التي أنا مسندها الى رواياتها,دون ماأدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل".
وبديهي أن هذا النص لا ينطق دليلا على افتقار اليعقوبي – وزمرته – الى الرؤية الخاصة للتاريخ,فمن النص ذاته يفهم تعويله على التفسير والاستنباط والتأويل.ومن الخطأ أن نتصور وجود رؤى شاملة لدى هؤلاء المؤرخين الباكرين,إذ أن مهمتهم الأولى كانت تدوين الأحداث وتسجيل الوقائع وليس "فلسفة التاريخ".فلم يقدر لمثل تلك الفلسفات أن تظهر في التاريخ العالمي برمته قبل ابن خلدون,بل إن ابن خلدون نفسه لم يلتزم تماما بماأنجزه في مقدمته من فلسفة حين أرخ كتابه "العبر".
ومع ذلك فدراسة أعمال المؤرخين الرواد تكشف عن وجود رؤى وتصورات وآراء وقواعد عامة استنبطوها من خلال معاركة الاشتغال بالتاريخ,بحيث يمكن القول بأن كل مؤرخ كان لديه مفهوم عن "فكرة التاريخ"انعكس تأثيره على ما كتب وصنف من أعمال.وأن حصاد هذه المفاهيم جميعا يشكل رؤية عامة للتاريخ تساير طبيعة النهضة الثقافية التي أفرزتها الصحوة البورجوازية.
فالبلاذري مثلا أبرز تأثيرالعوامل الاقتصادية والاجتماعية في التطور التاريخي,دون أن يعي وقوفه على قاعدة نظرية علمية صحيحة.والمهم أن تلك القاعدة عملت عملها في توجيه اهتمامه نحو الموضوعات الاقتصادية والإدارية والأوضاع الطبقية.
ونعلم أيضاً أن مؤرخا كاليعقوبي ربط بين حركة الأفلاك وبين الوقائع والأحداث,كما ركز على التاريخ الثقافي أكثر من الاهتمام بالسير والأخبار.وابن قتيبة نسج وقائع التاريخ الإسلامي من خلال تصور صراع سياسي حول موضوع الإمامة.والدينوري أبرز – دون وعي فيما نعتقد – إنعكاس الواقع على الأدب حين دبج تاريخه بنماذج شعرية متسقة مع طبيعة ما يروي من أحداث.وكل أولئك استخدموا العقل وأفادوا من المنطق وكافة علوم العصر في كتاباتهم.
(أكثر من ذلك,تتضح في هذه الكتابات المواقف الشخصية لأصحابها سواء من الأوضاع السائدة التي عاصروها,أو في تقييم أحداث الماضي ووقائعه.كل ذلك وغيره قمين بأن نحكم – في اطمئنان – بأن مؤرخي الصحوة البورجوازية طوروا الفكر التأريخي,وأحدثوا نقله في موضوعاته ومناهجه ورؤاه,تلك الرؤى التي تتسم بالعقلانية "والدنيوية" والشمول,وهي سمات مميزة للفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.)
ولعل في قول اليعقوبي "فمهما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين ممن يستنكره قارئه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة,ولامعنى في الحقيقة ,فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قلنا" مايؤكد وجود عوائق كانت تحول بين اليعقوبي – وأصحابه – دون الإفصاح عن كل ما أحاطوا به من فهم ونظر في فكرتهم عن التاريخ.ولا غرو فقد رجم الحنابلة دار الطبري بالحجارة,وسفه أهل الأثر أعمال ابن قتيبة..وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ما سبق أن رددناه من أن المد البورجوازي لم يصل الى نهاية مطافه لينجز ثورة شاملة,فقد ظلت بقايا الإقطاعية بفكرها النصي الغيبي تمارس فعالية – ولو ثانوية – على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية.
بل لم يسلم حتى مؤرخو الليبرالية من آفات هذا الوضع,بحيث انطوت أعمالهم على قدر غير ضئيل من الغيبة والأسطورية.ومع ذلك فحسبهم ما أنجزوا من أعمال ظلت مصادر لمن جاء بعدهم من المؤرخين.
بقي أن نعرض لمكانة الفكر التاريخي عند مؤرخي الخوارج والسنة,بحيث يعتبر ما قدموه في هذا الصدد من إسهامات شيئا هامشيا,نظرا لهامشية دور القوى الاجتماعية التي انتموا اليها على الصعيدين السياسي والاقتصادي,وبالتالي على المستوى الثقافي,مما يؤكد سوسيولوجية الفكر.
ومعلوم أن الخوارج – رغم اعتدال أفكارهم تحت تأثير الصحوة البورجوازية,وإقامتهم دولاً مستقلة في الغرب الإسلامي ذات طابع بورجوازي متطور- ظلوا محافظين على تقاليدهم المذهبية التي انعكست على فكرهم التاريخي.
حقيقة أن عوامل سياسية حالت دون وصول مؤلفات الخوارج الأول في حقل التاريخ,بحيث يصعب الحكم عليها.ولكن النصوص المتواترة في كتب اللاحقين تلقي بعض الضوء في تفسير افتقار المؤرخين الرواد على تناول تاريخهم وحسب.فتشير رسالة للبرادي الى مصنفات هؤلاء المؤرخين في الشرق والغرب,ويعدد ابن النديم أسماء هؤلاء المؤرخين كاليمان بن الرباب ويحيي بن كامل والصيرفي وعبد الله بن زيد وإبراهيم بن إسحق والهيثم وغيرهم من المشارقة,ويصف مصنفاتهم بأنها "مستورة".كذلك نعلم من سير الشماخي أن مؤرخا إباضيا شهيرا,يدعى ابن سلام صنف كتابا في السير اعتمد عليه اللاحقون.ويخبرنا مؤرخ خارجي متأخر أن ديوان الإباضية بجبل نفوسة كان يحوي أكداسا هائلة من الكتب بعضها يتعلق بتاريخ المذهب وأعلامه,كما كانت المكتبة المعصومة بتاهرت تحوي بدورها مصنفات في السير والتاريخ.
وبالرجوع الى نصوص هؤلاء الرواد في كتب المتأخرين,لاحظنا أن موضوع التاريخ اقتصر – كما قلنا – على سير شيوخ المذهب وأعلامه,فضلا عن نشاط الخوارج السياسي في الشرق والغرب.تفسير ذلك أن الخوارج كانوا يكفرون من ليس على مذاهبهم,ولم يعترفوا بالحكومات الإسلامية برمتها,لذلك تغاضوا عن كتابة تواريخ عامة أو عالمية.
والملاحظة الثانية,أن هذه المدونات الأولى كانت متخلفة في مناهجها وجه عام,فهي تفيض بالخوارق والأساطير,وتفيض في ذكر المناقب والكرامات.وتلك نتيجة طبيعية لجماعات عاشت مضطهدة منذ ظهور المذهب من قبل الحكومات الإسلامية كافة,فالأفكار تتحجر حين تتقوقع ,وتتطرف حين تضطهد,وتحلق في الغيب حين تعجز عن حل مشكلات الواقع.
ونلاحظ أن هؤلاء المؤرخين اشتخدموا الإسناد,لكنه اقتصر على الروايات المنسوبة الى شيوخ المذهب وأعلامه.ولم يجر ترتيب الحوادث وفقا للنظام الحولي,بقدر تنسيقها على أساس معالم مرتبطة بأحداث عامة في تاريخ المذهب.
ومع ذلك ظهر تأثير الصحوة البورجوازية واضحا في بعض الأعمال التي أنجزها مؤرخون عاشوا في كنف الدول الخارجية المستقلة في الغرب,حيث نلاحظ – اعتمادا على بعض الإشارات – اهتمامهم بمعلومات ذات طابع اقتصادي أوردوها مختلطة بفقه مذهبهم كمسائل الحلال والحرام والوصية والرهن والربا والزكاة والعشور...الخ.
ومن الصعوبة بمكان الحديث عن رؤى ونظرات تاريخية لدى هؤلاء المؤرخين في غياب أعمالهم التي أحرقت إبان الغزو الشيعي لدول الخوارج في المغرب.
وإذا جاز لنا أن نجازف في هذا الصدد,نعتقد أن نظرتهم للتاريخ كانت ضيقة ومنحازة,ضيقة لأن مفهوم التاريخ وموضوعه اقتصر على تاريخ المذهب,ومنحازة لتعصبها الشديد للخوارج وتحاملها المقيت على غير الخوارج.وهو امر طبيعي أفرزته الظروف السوسيو-سياسية التي ألمت بجماعات مضطهدة,وحين قدر لها الاستقرار عاشت في أقاليم صحراوية معزولة ومحاطة بأعداء سياسيين ومذهبيين.
هكذا تأثر الفكر التاريخي الخارجي بمعطيات الواقع الاجتماعي ومنهجه ورؤاه.
وتتجلى المقولة ذاتها في أعمال المؤرخين السنة.والجدير بالذكر أن معظمهم عاش في المغرب الإسلامي حيث ساد مذهب مالك.وبرغم تحول المذهب المالكي عن نصيته,ومجاوراته روح العصر الذي سادته البورجوازية بفكرها الليبرالي,فإن معظم المؤرخين ظلوا متشبثين برؤى ومناهج أهل الأثر نتيجة أوضاعهم الطبقية والإديولوجية.فلم يكتبوا تواريخ عالمية- إلا ما اقتبسوه عن المشارقة نتيج الاتصال- وانصب اهتمامهم على "التواريخ المحلية" كرد فعل طبيعي لنزعة التجزئة الممثلة في قيام الدولة المستقلة في الغرب.كما اهتموا بالإسناد على حساب تكامل "القصة التاريخية".ومن العسير الحديث عن رؤى تاريخية لهؤلاء النفر من المؤرخين باستثناء قلة اشتغلت بالتجارة أو الوراقة وقدر لها الرحلة والاتصال "بأسواق" ومناهل العلم في الشرق.
وسنحاول دراسة أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية كمدخل لدراسة أعمالهم بما انطوت عليه من مناهج ونظرات تاريخية.
ففي مصر,عرف ابن عبد الحكم(ت 257 ه ) كمؤرخ فتوح,وهو من أسرة إقطاعية احتكرت زعامة المالكية.وفي إفريقية اشتهر أبو العرب تميم(ت 233 ه ) المالكي كمؤرخ طبقات,وهو سليل الأسرة الأغلبية الأستقراطية,فكان على حد قوله "يتشح بزي أبناء السلاطين".أما محمد بن يوسف الوراق (ت 292 ه ) فكان – كما يتضح من اسمه وراقا مشتغلا بالعلم,كتب رسائل ومصنفات محلية عن تواريخ بعض المدن المغربية.وفي تاهرت – بالمغرب الأوسط – عاش ابن الصغير المالكي( ت أواخر القرن الثالث الهجري),وكان تاجرا يملك دكانا في "الرهادنة",قضى حياته في كنف الدولة الرستمية وأرخ لها.
وفي الأندلس لمعت أسماء عبد الملك بن حبيب (ت 238 ه) وهو تاجر مالكي المذهب كتب في تاريخ الأندلس وصنف تواريخ عامة على غرار المشارقة,ومحمد بن موسى الرازي (ت 273 ه ) الذي كان تاجرا مشرقيا أقام في الأندلس وكتب عن فتوحها,وابن القوطية (ت 267 ه) ذو الأصل القوطي والذي كان من موالي بني أمية بالأندلس,ألف كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس".
فإلى أي حد أثرت أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية في فكرهم التاريخي؟
ليس جزافا أن يهتم ابن عبد الحكم بفتوح مصر والمغرب والأندلس,ولا يحفل بأخبار الفتوحات في الشرق.وإن ذل ذلك على شيء فعلى حماسه لمذهب مالك والبيئة التي انتشر فيها,ولا غزو فقد استمد رواياته من شيوخ المالكية المغاربة الذين كانوا يفدون الى مصر,ولذلك قدر له التزود بمعلومات انفرد بها وخاصة ما تعلق بالأحداث التي عاصرها,فقد أخذها عن شهود عيان.ولكونه من أهل الأثر,عول على الإسناد حيث شغل حيزا هائلا من مؤلفه الذي تتجلى فيه الدقة والتحري,رغم نزعات التعصب المذهبي التي تظهر بصماتها في التحامل على المذاهب الأخرى.
أما أبو العرب تميم فقد كرس مصنفه عن "طبقات علماء إفريقية"لعرض سير أعلام المالكية وذكر مناقبهم.ولم يحظ أعلام المذاهب الأخرى بحيز في طبقاته إلا عرضا,وبقصد الذم والقدح.ولا غزو فقد اشترك في ثورات المالكية على الفاطميين الذين كانوا "كفرة"في نظره,ناهيك بموقفه من الخوارج.وتتلون كتاباته بلون شعوبي,فهو يتعصب للعرب ضد الفرس,ويتغنى بمآثر قبيلة تميم,فكتب عن أنسابها ومناقبها بروح "أستقراطية",ناهيك بإسرافه في ذم " المشرقيين" ومبالغاته في ذكر مناقب أعلام المالكية وفضائلهم.
على العكس من ذلك كانت كتابات محمد بن يوسف الوراق عن تواريخ تيهرت وسجلماسة ونكور وغيرها من المدن المغربية,والتي نجد نصوصا منها عند ابن عذاري والبكري.فلكونه وراقا,قدر له أن يقف على معارف متنوعة ازدادت ثراء بفضل رحلته في طلب العلم شرقا وغربا,حتى توفي بقرطبة .وقد وصفه ابن حيان – أعظم مؤرخي الغرب الإسلامي قبل ابن خلدون – بأنه "الحافظ لأخبار المغرب".كما أثنى عليه الباحثون المحدثون تقديرا لنزاهته ود قته وموضوعيته.وإذا كان لذلك من تفسير فمرده الى انتمائه للبورجوازية.
ونفس الشيء يقال عن ابن الصغير المالكي الذي امتهن التجارة,واشتغل بالعلم,فأحاط بآراء المذاهب الأخرى وعقائدها,وجادل شيوخهم في تسامح ورحابة أفق.كتب عن "سيرة الأئمة الرستميين"تاريخا اتسم بالموضوعية رغم أنهم خوارج,ولم يتقاعس عن الإشادة بسير الراشدين منهم.ونحن نرجح تصنيفه مؤلفات تاريخية أخرى لم تصل إلينا,فأسلوبه ومنهجه ينمان عن طول باع في حقل التاريخ.وفي ذلك دليل آخر على تأثير الانتماء الطبقي على الفكر التاريخي.
وتنسحب الحقيقة نفسها على مدرسة التاريخ في الأندلس,فقد خفف تنامي المد البورجوازي من غلواء "النصية",واتسع منظور المؤرخين ذوى الانتماءات البورجوازية ليقوموا بمحاولات في كتابة تواريخ عالمية,مفيدين في ذلك من رحلاتهم التجارية والعلمية الى الشرق.بينما لونت النزعة الإقليمية منظور مؤرخي الإقطاعية, فاقتصروا على التأليف في تاريخ الأندلس بروح شوفينية متعصبة,وبرؤى محلية ضيقة.
نتلمس ذلك في أعمال عبد الملك بن حبيب التاجر الرحالة المؤرخ الذي زار مصر والحجاز وبلاد المغرب,وصنف تاريخيا يمكن – تجاوزا – إعتباره أقرب ما يكون الى تاريخ عالمي,وصفه أحمد أمين بأنه شبيه بتاريخ الطبري حوى معلومات زاخرة " عن ابتداء خلق الدنيا,وذكر ما خلق الله فيها من ابتداء خلق السماوات وخلق البحار والجبال والجنة والنار,وخلق آدم وحواء وما كان من شأنهما مع إبليس, وعده الأنبياء نبياً الى محمد ص ...وعده الكتب المنزلة,وعده الخلفاء الى حين افتتاح الأندلس,وما وجد فيها من الذهب والفضة والجوهر والأمتعة,وما أخرج منها,وعدة ملوكها ودولها...وذكر شيء من الحدثان وما يعمم منها في بعض البلدان,وكم عمر الدنيا وما مضى منها وما بقي الى أن تقوم الساعة".ثم تناول "فتح الأندلس ومن دخلها من التابعين ومن حكمها من الملوك".وفي آخر الكتاب فصول في الفقه والأخلاق والآداب,وأخرى عن قضاة الأندلس.
وبرغم الطابع الأسطوري الذي غلف الكثير من المعلومات,ورغم الخلط بين موضوعات لا تربطها صلة,فالقيمة الحقيقية للكتاب تكمن في كونه المحاولة الأولى لكتابة "تاريخ عالمي" في الغرب الإسلامي,عكست تأثير الأوضاع السوسيو- سياسية على اتساع المنظور التاريخي لمؤلفه.
أما محمد بن موسي الرازي فكان تاجرا " يشتغل في الحلي والعقاقير وأشياء أخرى"ألف كتاب "الرايات"- وهو كتاب مفقود لم نقف إلا على شذرات منه في ثنايا من نقلوا عنه – عن فتح الأندلس وإسهام القبائل العربية في الفتح تحت رايات تلتف حولها.
والكتاب – كما يتضح من عنوانه – ينم عن نظرة ضيقة ومفهوم قاصر عن التاريخ.ورب سائل يسأل,كيف ذاك وهو تاجر جاب العالم الإسلامي من مشرقه الى مغربه"؟.الحقيقة أن الرازي لا ينتمي الى الطبقة البورجوازية,فاشتغاله بالتجارة كان ستارا لإخفاء حقيقة مهنته,وهي التجسس "فكان وسيطا سياسيا وثيق الصلة بالملوك" كما كشفت نصوص جديدة للمؤرخ ابن حيان .وكان تجسسه "لحساب أكثر من جهة",للعباسيين والأغالبة وبني مدرار وأمويي الأندلس,ومن ثم فهو أرستقراطي الطبقة,خرب الذمة,"مؤرخ بلاط" شأنه شأن ابنه أحمد وحفيده عيسى من بعده.وقد ذكر عيسى أن أباه "غلب عليه حب الخبر والتنقير عنه,ولو يكن من شأن أهل الأندلس,فالتقطه عمن لحق به من مشيختهم ورواتهم,ووضع قواعد التاريخ بالأندلس مبتدئا,فأزلفة بالسلطان,وأعلت به منزلة ولده من بعده,وأكسبوا أهل الأندلس علما لم يكونوا يحسنونه".
وهذا النص عينه يمكن وضع ابن القوطية الذي أرخ لافتتاح الأندلس,فبرغم تفرده بمعلومات حول الفتح والأحداث التي أعقبته في الأندلس وبعض أخبار المغرب,إلا أن الكثير منها تلون بالتعصب القومي نظرا لأصله القوطي باعتباره مالكي المذهب.وقد لا حظنا ذلك في المعلومات التي أوردها عن ثورات الخوارج,حيث حمل عليهم حملة شعواء.
وفضلا عن ذلك أفرزت البيئة الأندلسية نوعا من الأدب التاريخي الملحمي عرف باسم "الأرجوزة الشعرية",كتلك المنسوبة الى تمام بن علقمة(ت 194 ه)واخرى نظمها يحيى الغزال (ت 250 ه).وتنطوي الأرجوزتان على معلومات تاريخية لا يعتد بها.فأرجوزة علقمة تعرض عرضا سريعا مخلا لتاريخ الأندلس منذ الفتح حتى أيام عبد الرحمن الأوسط,وأرجوزة الغزال تتناول أسباب الفتح ووقائعه,وعدد الأمراء وأسماءهم...الخ.
ومعلوم أن تمام ويحيى كانا من رجال البلاط,دبجا قصيدتيهما للتغنى بمآثر بني أمية والتسبيح بحمدهم.وعلى غرارهما نهج ابن عبد ربه- فيما بعد- حيث مدح الناصر في أرجوزة طويلة.والملاحم الثلاث تعبر عن روح الإقليمية,وهي نزعة شابت أعمال المؤرخين الأندلسين ذوي الانتماءات الأرستقراطية كما سبق أن أوضحنا.وكان شيوع تلك النزعة من المآخذ التي أخذت على منظري الإقطاع في الغرب الإسلامي بوجه عام.
وأخيرا – ننوه بأن تخلف الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي عن نظيره في الشرق لا يرجع لأسباب إقليمية أو إثنولوجية أو مذهبية,كما ذهب البعض,بقدر ما يرجع الى تأخر فتح الأقاليم الغربية,وبالتالي تخلفها النسبي في مسيرة حركة التاريخ الإسلامي العام ومع ذلك أسهمت بدور يذكر في نشأة الفكر التاريخي الإسلامي,ويعزى هذا الدور الى سيولة الفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.
وبعد –ألا يحق لنا الحكم بأن نشأة علم التاريخ الإسلامي مدينة للتطور الاقتصادي – الاجتماعي الذي أفرز الصحوة البورجوازية,وأن الفكر الإسلامي بعامة ابن شرعي لواقعه الاجتماعي؟
المصدر : سوسيولوجيا الفكر الاسلامي ( طور التكوين ).
وواضح من نصوصه تذبذب موقفه,وافتقاره الى قرائن وبراهين تدعم مذهبه.والصواب ما ذهب اليه مرجوليوث من أن "النظام الحولي اختراع عربي قح له أصوله الثابتة في الجاهلية",كما أن "القاعدة التقنية في توثيق الأخبار المعروفة بالإسناد تقليد أخذه المؤرخون عن المحدثين".يدعم ذلك قول لاكوست أنه "لا في اليونان ولا في بيزنطة ولا في أوربا عامة في العصور الوسطى,لم يكن للتاريخ مكانة في النشاط الثقافي كتلك التي كانت عند العرب",وما وقف عليه ابن خلدون من أن الذميين الذين أسلموا "كانوا يومئذ بادية لا يعرفون إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب".
ونحن نرى أن الخوض في تلك المسألة غير ذات موضوع.طالما أن أهل الذمة سواء من أسلم منهم أوظل على عقائده السابقة كانوا مواطنين ورعايا في "دار الإسلام",لهم فعالياتهم الاقتصادية وحتى السياسية في كثير من الأحيان.لقد كانوا خيوطا في نسيج الواقع الاجتماعي,أثروا فيه وتأثروا به.وإذ لم يثبت الدارسون لهم دورا في نشأة علم التاريخ الإسلامي,فقد أسهموا في ميادين الفكر الأخرى إسهامات لها ثقلها,بحيث حظيت فعالياتهم في هذا الصدد باهتمام المؤرخين المسلمين.وعلى ذلك يمكن القول بوجود تأثير ضمني لتلك الطوائف على موضوع التاريخ,نفسه لأن حياتهموفعاليتهم أصبحت جزءاً من الواقع المعيش وهو مبحث التاريخ وموضوعه.
وثمة مسألة أخرى جديرة باليحث تتعلق بموضوعية المؤرخين الرواد.وإذ يعتبر التصدي لها أمرا سابقا لأوانه قبل تناول أعمالهم,نكتفي بعرض بعض جوانبها التي تلقي أضواء على سوسيولوجية نشأة علم التاريخ.
اختلف الدارسون – كالعادة – في تقدير موضوعية المؤرخين الرواد فيما صنفوا من تواريخ,فالبعض نعى عليهم الافتقار إليها لأسباب سياسية أو إديولوجية,وحتى الذين فطنوا لتأثيرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تزييف التاريخ خانهم التوفيق.بينما أكد البعض التزام المؤرخين الرواد بقدر كبير من الحياد والموضوعية والأمانة العلمية.في حين تذبذب اتجاه ثالث بين الاتجاهين السابقين.
ويمثل الاتجاه الأول روزنتال وإيف لا كوست,حيث كرس روزنتال في كتابه "علم التاريخ عند المسلمين"دراسة مستفيضة عن "المؤرخين الرسميين"أو مؤرخي البلاط ذهب فيها الى إن معظم مؤرخي الإسلام ارتبطوا بالسلطات الحاكمة,نظرا لاشتغالهم بالإدارة والقضاء,أو عملهم كمؤرخي بلاط يدبجون سيراً للخلفاء أو الأمراء,وتواريخ لأسرهم الحاكمة.وحتى المؤرخون "الهواة"- كما اطلق عليهم – كانوا يمالئون السلطة حتى يكتب لمؤلفاتهم الرواج,فعول الكثيرون منهم على تقدير مؤلفاتهم للحكام ابتغاء حظوة في المال أو الجاه,وكل ذلك فت في موضوعية أعمالهم.
وفي المعنى نفسه ذكر لاكوست أن نشأة التاريخ الإسلامي "كانت رسمية بتكليف من أولي الأمر ما شكل عوائق نحو التزام الموضوعية",كما أشار الى أن اتسام النشأة بطابع "القدسية" "حرم الفكر التاريخي من المنهج النقدي".
هذا عن المعوقات السياسية والإديولوجية.أما المعوقات السوسيولوجية فقد نبه إليها طيب تيزيني حين ذهب الى تأثير الوضع الطبقي في انحياز المؤرخين الى انتماءاتهم ,ضاربا المثل بالبلاذري وكتابه "أنساب الأشراف".زاعما أنه تعصب فيه للأرستقراطية,والطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"الذي يعد في نظره "تاريخا للأديان".لذلك أضاف الى العامل الديني تأثير الوضع الاقتصادي في تفسير "لاموضوعية" المؤرخين الباكرين.
والاتجاه الثاني القائل بموضوعية نشأة علم التاريخ الإسلامي نتلمسه في آراء مرجوليوث وعلى أدهم,فقد ذهب الأول الى "أن غالبية مؤرخي الإسلام لم يكونوا "رسميين",ففي القليل النادر ما كتب هؤلاء مصنفاتهم بأمر من السلطة – على الأقل في مرحلة النشأة – حيث لم تظهر وظيفة "مؤرخي البلاط" إلا في عصور تالية,ومن ثم "فإن المؤرخين الأوائل التزموا الدقة في تنقية الروايات ونقدها,والموضوعية فيما دونوه,لأن معظمهم كانوا في حالة رغدة من العيش كالطبري مثلا,وبعضهم خدم في الدواوين الى جانب أعمالهم الخاصة".واستشهد بموضوعية الطبري في عدم انحيازه لبني العباس رغم أنه كتب تاريخه إبان خلافتهم.
وفي الاتجاه نفسه مضي على أدهم فذهب الى أن المؤرخين الأوائل,"لم يعيشوا في كنف الأمراء,ولم يكتبوا التاريخ إرضاء للخلفاء والأمراء,وإنما كتبوه بدافع من ميل الى البحث والاستقصاء".
أما الاتجاه الثالث "التوفيقي"فنستدل عليه فيما ذهب إليه أحمد أمين من أن نشأة علم التاريخ ارتبطت بحكم بني العباس "الذين استخدموا التاريخ كوسيلة من وسائل الدعوة العباسية,فكان الخلفاء يشترون ذمم بعض المؤرخين بحيث حاولوا إظهار العصر العباسي بلون زاهر فاخر والعصر الأموي بلون قاتم مظلم".ويسوق أمثلة في هذا الصدد للتدليل على مذاهبه.
لكنه يعود في موضع آخر فيشيد بروح التسامح العلمي التي كما أتاحت لبعض الشعراء هجو بعض الخلفاء,سمحت لمؤرخي المعارضة بالحرية في التعبير عن وجهات نظرهم. كما أشاد بالنقلة المنهجية التي تمت على يد الرواد من المؤرخين,من حيث استقاء الأخبار من مظانها,ومقارنتها ونقدها,وتوثيقها بالإسناد,وتنظيمها وسلسلتها على شكل حولي مبتكر.
ونكتفي في هذا المجال بنقد الاتجاهات السابقة – في عجالة – تاركين الأدلة والقرائن تكشف عن نفسها من خلال دراسة أعمال هؤلاء المؤرخين.فروزنتال عمم أحكامه حين تصور معظم المؤرخين "رسميين",والثابت أن تلك الظاهرة لم تولد في عصر الصحوة,ولا تنطبق على الرواد المؤسسين لعلم التاريخ.وحتى أولئك الذين خدموا في الدواوين إبان الصحوة,فإن انحيازهم لفكر حكومتها "المتبرجزة" لا يعد انحيازا عن الحقيقة,بل انحياز لها,ولم نسمع عن مؤرخ "هاو"- على حد قوله – نال حظوة من السلطة في مقابل تقديم أعماله باسمها.
وينسحب النقد نفسه على رأي لا كوست في هذا الصدد.أما قالته في "النشأة القدسية"لعلم التاريخ فتصبح غير ذات بال,إذا علمنا أن هذه النشاة كانت تعني انفصال المعارف التاريخية عن العلوم التي اعتبرت علوما دينية كالفقه والحديث ,بل أن هذه العلوم كرست في عصر الصحوة لخدمة أغراض دنيوية,ومعلوم أن الفكر البورجوازي – بوجه عام – فكر مادي عقلاني حياتي بالدرجة الأولى.
أما انزلاق تيزيني في أحكامه على البلاذري في "أنساب الأشراف"والطبري في "تاريخ الرسل والملوك",فعذره أنه ليس مؤرخا,بل تنم ملاحظته في اعتبار الكتاب الأول تأريخا لنبلاء العرب والثاني تأريخا للأديان, عن انخداعه بعنواني الكتابين,وعدم اطلاعه عليهما ألبتة.ولو تمهل وقرأ مجرد صفحات قليلة منها قبل المجازفة بإطلاق حكمه,لأدرك أن البلاذري حمل في "أنساب الأشراف" حملة عنيفة على الأشراف,وأن تاريخ الطبري يعد أول إنجاز إسلامي لتاريخ عالمي دنيوي بشهادة كل الدارسين.وننوه – في استحياء – بأن للكتاب عنواناً آخر هو السائد والمتعارف عليه,ألا وهو "تاريخ الأمم والملوك",ومضمونه مصداق عنوانه.
ولا تعليق لنا على التجاه الثاني الذي يشيد بموضوعية المؤرخين الرواد,فذلك ما نعتقد في صوابه.أما الاتجاه الثالث التوفيقي الذي تبناه أحمد أمين فنحن نوافقه في شطره الثاني الذي أبرز فيه سلامة المنهج وتطور الرؤية,وما أفرزته الصحوة من روح التسامح للأتجاهات كافة كي تعبر عن تياراتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
أما مقولته في توظيف بني العباس التاريخ لخدمة دعوتهم لتشويه أسلافهم الأمويين والغض عن نقائص الأسرة العباسية,فالمعول عليه في هذا الصدد طبيعة النظام السابق الذي استهدفه النقد,وكذا مآثر النظام الجديد الذي قرظه المؤرخون.ولاحاجة بنا لاجترار ما سبق تفصيله عن مفاسد النظام الأموي الذي سادته"الإقطاعية".كذلك لا يمكن إنكار ما أنجزه النظام الجديد من نقله تاريخية.
والمؤرخ في عصر الصحوة البورجوازية – وفي كل عصور الاستنادة – عليه أن يتخذ موقفا "تقويميا" للماضي وكذا الحاضر المعيش,وإلا تخلى عن مهمته الحقيقية.
ويصبح التاريخ في الحالة تلك"مجرد قصص وأخبار,ونهاية معرفته,الأحاديث والأسمار".وهو ما ساد دائما في عصور "الجهالة" الإقطاعية.
ومؤرخو الصحوة البورجوازية عبروا عن الفكر التاريخي كما يجب أن يكون,فكان لهم رؤاهم ومواقفهم,ومع ذلك لم ينزلقوا الى مزالق "اللاموضوعية" في الغالب الأعم.
وحسبما ذكر أحمد أمين نفسه أتاحت "ليبرالية" الصحوة لمؤرخي المعارضة انتقاد بني العباس فيما يستحق الانتقاد,ولم يتقاعسوا عن ذكر بعض مآثر الأمويين.
ومع ذلك لا يمكن إنكار وجود بعض مزالق وهنات شابت بعض أعمال بعض المؤرخين عفواً أو قصداً,وهو أمر مألوف في كل العصور لمن عرك ميدان التاريخ.ومهمة المؤرخ الكشف عن مواطن الزيف,ولن يعدم من الوسائل ما يعين على ذلك,خاصة إذا تعددت الاتجاهات وتباينت الرؤى واختلطت الروايات.ويصبح هذا التعدد والتباين والخلط إثراء لعمل المؤرخ,إذ بقدر ما تراكمت التناقضات بقدر ما أصبح الوصول الى الحقيقة في المتناول,لأن الحقيقة لا تموت رغم محاولات طمسها.
والمنهج القوي أداة المؤرخ النابه في الكشف عن الزيف وإجلاء الحقيقة والعصمة من الزلل,لأنه الوسيلة الناجعة والمعينة "على نقل الحقيقة في ذاتها الى تصور ذهني منطقي في النهاية".
والمنهج إنجاز للعقل البشري في رحلته الطويلة من أجل تيسير إدراك المعرفة,ومن ثم يصبح نتاجا لتفاعل العقل مع التجربة.لذلك لا قيمة ألبتة لمعرفة لم "تعقلن",كما يحلق العقل في فراغ الوهم بدون مادة معرفية يعمل عمله فيها.وهنا تصدق مقولة ابن خلدون في مشروعية تدخل عقل المؤرخ في موضوع عمله,حيث رأى "أن البصيرة تنقد الصحيح إذا تعقل,والعلم يجلوها كصفحات القلوب ويصقل,والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييف ما ينقل".وكذا تبجيل سبنيوز للعقل في حقل التاريخ حيث قال:"إن العقل لديه قدرة الكشف عن الزيف على الأقل اذا استعصمت عليه الحقيقة".
نخلص من هذه الوقفة بأن نشأة علم التاريخ كانت نشأة صحيحة,لأن العلم ولد في عصر سيادة البورجوازية بفكرها الليبرالي,وجاءت كتطور طبيعي مواكب لنقلة سوسيولوجية وثقافية,كانت تتويجا لجهود سابقة اضطلع بها الرواة والإخباريون في العصور السابقة.ويعزى الفضل في استقلال العلم وصياغة مناهجه الى جيل من المؤرخين الرواد كالطبري والبلاذري وابن قتيبة واليعقوبي وغيرهم في الشرق,وابن عبد الحكم في مصر,وابن الصغير في المغرب,وعبد الملك بن حبيب وابن القوطية في الأندلس.
ولا غرو فقد أشاد ابن خلدون بهم في معرض تعريضه بالمؤرخين اللاحقين,فاعتبر السابقين "فحول المؤرخين"واللاحقين "عالة عليهم".
ولنحاول إبراز التأثيرات السوسيولوجية في أعمال هؤلاء المؤرخين ودورها في توجيه رؤاهم التاريخية.
وأول ما يلاحظ في هذا الصدد أن نشأة علم التاريخ وظهور المؤرخين لم تكن ظاهرة شرقية قحة,بمعنى أن الغرب الإسلامي أسهم بمؤرخيه الرواد في الحركة التاريخية.صحيح أن مؤرخي الغرب آنذاك لم يصلوا الى مكانة زملائهم المشارقة لكن مجرد ظهورهم في تلك الحقبة وتأثرهم بأعمال مؤرخي الشرق,دليل ناصع على سيولة الثقافة الإسلامية بفضل المد البورجوازي الذي غمر العالم الإسلامي شرقا وغربا.
ويلاحظ أيضا أن السواد الأعظم من المؤرخين الرواد كانوا إفرازاً للمد البورجوازي اجتماعيا وإديولوجيا,ولا غرور فقد انتموا الى الموالي الذين سادوا الحياة الإسلامية إبان الصحوة.كما اعتنقوا إديولوجيات ليبرالية ,حيث كان أغلبهم من الشيعة المعتدلة والمعتزلة – ومعلوم أن التشيع والاعتزال امتزجا في عصر الصحوة الى حد كبير – والقليل النادر انتمى الى اليسار المتطرف "الخوارج",أو اليمين المحافظ "السنة".وإن دل ذلك على شيء فعلى سيادة الفكر الليبرالي كرد فعل لسيادة البورجوازية .و هذا يفسر تحامل مؤرخي السنة على مؤرخي الليبرالية في الوقت نفسه الذي أفادوا فيه من إنجازهم.وتفسير تلك الحقيقة مسايرة الاتجاهات المتطرفة للنمط الاقتصادي – الاجتماعي والفكري السائد,وتطوير معتقداتها بما يتسق وروح العصر,وتلك قاعدة تشهد على سوسيولوجية الفكر.
إذ سنلاحظ قاسما مشتركا واضحا في مناهج المؤرخين بعامة من حيث موسوعية الثقافة,نتيجة الأسفار والرحلات في طلب العلم,وتوسيع النظرة للتاريخ لتحتوي التاريخ العالمي,فضلاً عن شيوع روح النقد في تمحيص الروايات,والموضوعية – في الغالب الأعم – في الأحكام,وتقدم "تكنيك "العرض التاريخي من حيث الترتيب الحولي,والاهتمام بلب الموضوع أكثر من التعويل على الإسناد,الى غير ذلك مما سنتناوله بالتحليل ثم التركيب والتنظير.
ومن المحقق أن استقصاء الأصول الا جتماعية والاتجاهات الإيديولوجية لهؤلاء المؤرخين,قمين بترسيخ تلك الحقائق,فالسواد الأعظم – كما قلنا – كانوا ينتمون الى البورجوازية بفكرها الليبرالي.وعلى سبيل المثال كان الطبري (ت 310ه) موسراً يتعيش من ضيعة في طبرستان,الأمر الذي أتاح له أن يتفرع للفكر بعامة والتاريخ بخاصة,كما عرف بميوله الشيعية المعتدلة,حيث أنكر تطرف الخوارج والرافضة.ولايعني ذلك أنه عبر عن وجهة نظر السلطة كما ذهب روزنتال,فتاريخه خير شاهد على نزاهته العلمية كما سنوضح بعد قليل.وأبو حنيفة الدينوري( ت 282 ه) كان تاجراً معتزلي المذهب شيعي الهوى,وسينعكس ذلك على ثقافة الموسوعية الواسعة التي ارتبطت بالاعتزال.
وأحمد بن طاهر طيفور (ت 270 ه) كان مؤدب كتاب معتزلي المذهب,ولا غرو فقد حظي برضى الخليفة المأمون .وتنم وظيفته عن تكريس التاريخ في خدمة أغراض عملية وهو مظهر من مظاهر العلم البورجوازي.
والبلاذي (ت 248 ه) كان مؤدباً شأنه شأن ابن طيفور.وإذا ما علمنا أن الخليفة المعتز عينه مربيا لابنه عبد الله,وأن الخليفة كان مغضوبا عليه من الأستقراطية العسكرية التركية,أدركنا شيئا عن ميوله المذهبية الاعتزالية التي أخفاها في عصر انتكاس الاعتزال تقية , لأن مذهب أهل السنة قد أعيد إحياؤه منذ خلافة المتوكل.
أما ابن قتيبة (ت 270 ه ) فقد اشتغل بالقضاء,وعرف بتشيعه.كذلك كان اليعقوبي كاتبا معتزليا.
تلكم هي جمهرة المؤرخين الرواد الأعلام الذين أفرزتهم الصحوة البورجوازية في الشرق بأصولهم الطبقية وانتماءاتهم الإديولوجية.وسيكون لذلك تأثيره على فكرهم التاريخي,حيث صنفوا تواريخ عالمية تجاري التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أنجزته البورجوازية.
ومن مظاهر تأثيرات الصحوة كذلك,مااشتهر به هؤلاء المؤرخون الرواد من "الرحلة في طلب العلم ".ومعلوم أن النشاط التجاري المتنامي عقد أواصر الاتصال بين كافة بقاع العالم الإسلامي براً وبحراً,كما كانت قوافل الحجيج تجتاز المسالك والممالك وتلتقي جميعا في الديار المقدسة.وفي الحالتين معا أتيح لأهل العلم سهولة الحركة والاتصال واللقياوونجم عن ذلك تبادل المعارف والأفكار الى جانب تبادل السلع وأداء الشعائر.وشجعت سهولة الأتصال على قيام أهل العلم " برحلات علمية " محضة بهدف التعلم أو التعليم.
ولاشك أن المؤرخين بزوا غيرهم في هذا الصدد,لما تميله طبيعة عملهم من ضرورة الرحلة لجمع المعلومات.فالطبري مثلا " رحل الى العراق والشام ومصر", والبلاذي كان له رحلة وراء المعرفة " فزار البلاد التي كتب عن فتوحها ",واليعقوبي كان مؤرخا وجغرافيا ورحالة جاب البلدان وألف عنها.
ولاشك أن الرحلة في طلب العلم أثرت معارف هؤلاء المؤرخين, فألموا بثقافة عصرهم الدينية والدنيوية.إشتغل الطبري الى جانب التاريخ بالفقه والحديث والتفسير,وأبو حنيفة الدينوري "جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب وله حظ وافر في علم النجوم وأسرار الفلك"- على حد وصف أبي حيان التوحيدي – بالإضافة الى معرفة بعلوم النبات والرياضيات,فضلا عن التفسير واللغة والأدب .والبلاذري اشتهر بثقافة موسوعية شأنه شأن أعلام المعتزلة.وابن قتيبة أنموذج فذ في ثقافته الواسعة,يشهد على ذلك كتابه "المعارف",فضلا عن إحاطة دقيقة بالسياسية وخباياها,كما ينطق بذلك كتابه الإمامة والسياسة".واليعقوبي برع في الفلك وكرسه لخدمة التاريخ,وكتابه "البلدان" دليل على معارفه الواسعة في مجال الجغرافيا الطبوغرافية والبشرية.
وبديهي ان تنعكس هذه الثقافة الموسوعية على جهودهم في حقل التاريخ موضوعا ومنهجا وفكرا,فقد موضوع العلم ووسعت مباحثه ليغطي تاريخ العالم.كتب الطبري تاريخا للبشرية منذ الخليقة حتى عام 298 ه, وتاريخ الدينوري " الأخبار الطوال" تاريخ عالمي حتى خلافة المعتصم,وابن طيفور عرض لتاريخ الخلافة العباسية حتى عصر المأمون بالإضافة الى تقديم تراجم للشعراء ومختارات من دواوينهم,ومصنفه عن "تاريخ بغداد" بالرغم كونه تاريخا محليا,إلا أنه يمتاز عن التواريخ المماثلة- كتاريخ الموصل للأزدي- بتعدد موضوعاته ومباحثه,وخاصة في الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية.
وقد نالت هذه المباحث حيزا هائلا فيما صنفه البلازدي من مؤلفات,فكتابه "أنساب الأشراف" أعظم من أن يكون مؤلفا في الطبقات,وتبرز قيمته الحقيقية في تقديم معلومات اقتصادية على درجة من الأهمية أفاد هو منها في تكوين رؤيته التاريخية,يتجلى ذلك في حملته العنيفة على الأرستقراطيتين القديمة والمستحدثة في عصره,والكتاب يؤكد خبرته الفذة في أمور الاقتصاد,ولا غرو فقد تتلمذ على أبي عبيد بن سلام مؤلف كتاب "الأموال".وفي "فتوح البلدان"برهن البلاذري على تفرد في ميادين النظم والأوضاع الاجتماعية والشؤون الإدارية بزفيها معاصريه.
وابن قتيبة أرخ للتطور السياسي في العالم الإسلامي,كاشفا النقاب عن استتار الساسة بالدين,مبرزا دور الأهواء والأطماع والمصالح فيما شجر من صراعات سياسية.وفي كتابه "المعارف" توسيع لدائرة التاريخ لتشمل فضلا عن السير والأنساب والمغازي والفرق,مظاهر العمران البشري ,وخاصة في جانبه الثقافي.
وتاريخ اليعقوبي يدخل في إطار "التواريخ العالمية"ولكن بصورة موجزة,حيث حفل بعرض المعالم الأساسية,وضرب صفحا عن التفصيلات.و كتابه "البلدان" نوع من الأدب الجغرافي التاريخي المتطور,أبرز فيه تأثير الجغرافيا في التاريخ.ولا مبالغة إذا اعتبرناه أول مؤلف إسلامي في مجال "الجيوبولتيكا".وفي الكتابين معا ينم عن احتفاله بالتاريخ الثقافي.
وفيما يتعلق بالمنهج,نلاحظ اهتمام بعض المؤرخين الرواد بالإسناد كما فعل الطبري,أو إغفاله كما هو شأن اليعقوبي.وفي الحالتين معا يظهر التدقيق في تحري الأخبار,فالطبري ذكر الروايات المتاحة كافة وأسندها الى رواتها.واليعقوبي اهتم بجمع الوثائق وذكرها في مواضعها.فضلا عن حرصه على مساءلة شهود العيان,يقول في هذا الصدد"....وقد اتصلت أسفاري ودام تغربي , فكنت متى لقيت رجلا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره وبلده وساكنيه ودياناتهم ومقالاتهم....ثم أثبت كل مايخبرني به من أثق بصدقه,وأستظهر بمسألة قوم بعد قوم حتى سألت خلقا كثيرا من الناس".والبلاذري أعمل النقد في الروايات حتى أثر عنه مذهب الشك الى حد الوسوسة,وتلك خلة حميدة لمن يشتغل بالتاريخ.أما ابن قتيبة فعزف تماما عن الإسناد,واهتم بتسلسل القصة التاريخية في المحل الأول.
وبخصوص نمط الكتابة,فقد ساد الأخذ بالنظام الحولي وخاصة في المصنفات الكبرى,كما هو حال الطبري.بينما فرضت طبيعة الموضوعات تقنية تناولها,بحيث عول البلاذري مثلا على تعقيب الحدث وتتبعه عبر السنين,فطفر بفنية الكتابة طفرة كبرى من حيث معالجة الأحداث كوحدة لاتتجزأ.
وفي الحالين معا استخدم المنطق في الرصد التاريخي,إذ راعى المؤرخون تسلسل الرواية وتنسيقها,في لغة سلسة ومباشرة لا تحفل بالتنميق والبديع بقدر اداء المعاني في وضوح ومع ذلك انطوت لغة هؤلاء المؤرخين – وخاصة ابن قتيبة – على بيان راق وأسلوب أدبي فني رفيع.
أما عن التفسير والتأويل,فقد أنكر بعض الدارسين على المؤرخين الرواد حقيقة إمكانية وجود رؤى تاريخية لديهم,إستنادا الى قول أحدهم- وهو اليعقوبي- "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أخطرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه,والآثار التي أنا مسندها الى رواياتها,دون ماأدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل".
وبديهي أن هذا النص لا ينطق دليلا على افتقار اليعقوبي – وزمرته – الى الرؤية الخاصة للتاريخ,فمن النص ذاته يفهم تعويله على التفسير والاستنباط والتأويل.ومن الخطأ أن نتصور وجود رؤى شاملة لدى هؤلاء المؤرخين الباكرين,إذ أن مهمتهم الأولى كانت تدوين الأحداث وتسجيل الوقائع وليس "فلسفة التاريخ".فلم يقدر لمثل تلك الفلسفات أن تظهر في التاريخ العالمي برمته قبل ابن خلدون,بل إن ابن خلدون نفسه لم يلتزم تماما بماأنجزه في مقدمته من فلسفة حين أرخ كتابه "العبر".
ومع ذلك فدراسة أعمال المؤرخين الرواد تكشف عن وجود رؤى وتصورات وآراء وقواعد عامة استنبطوها من خلال معاركة الاشتغال بالتاريخ,بحيث يمكن القول بأن كل مؤرخ كان لديه مفهوم عن "فكرة التاريخ"انعكس تأثيره على ما كتب وصنف من أعمال.وأن حصاد هذه المفاهيم جميعا يشكل رؤية عامة للتاريخ تساير طبيعة النهضة الثقافية التي أفرزتها الصحوة البورجوازية.
فالبلاذري مثلا أبرز تأثيرالعوامل الاقتصادية والاجتماعية في التطور التاريخي,دون أن يعي وقوفه على قاعدة نظرية علمية صحيحة.والمهم أن تلك القاعدة عملت عملها في توجيه اهتمامه نحو الموضوعات الاقتصادية والإدارية والأوضاع الطبقية.
ونعلم أيضاً أن مؤرخا كاليعقوبي ربط بين حركة الأفلاك وبين الوقائع والأحداث,كما ركز على التاريخ الثقافي أكثر من الاهتمام بالسير والأخبار.وابن قتيبة نسج وقائع التاريخ الإسلامي من خلال تصور صراع سياسي حول موضوع الإمامة.والدينوري أبرز – دون وعي فيما نعتقد – إنعكاس الواقع على الأدب حين دبج تاريخه بنماذج شعرية متسقة مع طبيعة ما يروي من أحداث.وكل أولئك استخدموا العقل وأفادوا من المنطق وكافة علوم العصر في كتاباتهم.
(أكثر من ذلك,تتضح في هذه الكتابات المواقف الشخصية لأصحابها سواء من الأوضاع السائدة التي عاصروها,أو في تقييم أحداث الماضي ووقائعه.كل ذلك وغيره قمين بأن نحكم – في اطمئنان – بأن مؤرخي الصحوة البورجوازية طوروا الفكر التأريخي,وأحدثوا نقله في موضوعاته ومناهجه ورؤاه,تلك الرؤى التي تتسم بالعقلانية "والدنيوية" والشمول,وهي سمات مميزة للفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.)
ولعل في قول اليعقوبي "فمهما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين ممن يستنكره قارئه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة,ولامعنى في الحقيقة ,فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قلنا" مايؤكد وجود عوائق كانت تحول بين اليعقوبي – وأصحابه – دون الإفصاح عن كل ما أحاطوا به من فهم ونظر في فكرتهم عن التاريخ.ولا غرو فقد رجم الحنابلة دار الطبري بالحجارة,وسفه أهل الأثر أعمال ابن قتيبة..وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ما سبق أن رددناه من أن المد البورجوازي لم يصل الى نهاية مطافه لينجز ثورة شاملة,فقد ظلت بقايا الإقطاعية بفكرها النصي الغيبي تمارس فعالية – ولو ثانوية – على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية.
بل لم يسلم حتى مؤرخو الليبرالية من آفات هذا الوضع,بحيث انطوت أعمالهم على قدر غير ضئيل من الغيبة والأسطورية.ومع ذلك فحسبهم ما أنجزوا من أعمال ظلت مصادر لمن جاء بعدهم من المؤرخين.
بقي أن نعرض لمكانة الفكر التاريخي عند مؤرخي الخوارج والسنة,بحيث يعتبر ما قدموه في هذا الصدد من إسهامات شيئا هامشيا,نظرا لهامشية دور القوى الاجتماعية التي انتموا اليها على الصعيدين السياسي والاقتصادي,وبالتالي على المستوى الثقافي,مما يؤكد سوسيولوجية الفكر.
ومعلوم أن الخوارج – رغم اعتدال أفكارهم تحت تأثير الصحوة البورجوازية,وإقامتهم دولاً مستقلة في الغرب الإسلامي ذات طابع بورجوازي متطور- ظلوا محافظين على تقاليدهم المذهبية التي انعكست على فكرهم التاريخي.
حقيقة أن عوامل سياسية حالت دون وصول مؤلفات الخوارج الأول في حقل التاريخ,بحيث يصعب الحكم عليها.ولكن النصوص المتواترة في كتب اللاحقين تلقي بعض الضوء في تفسير افتقار المؤرخين الرواد على تناول تاريخهم وحسب.فتشير رسالة للبرادي الى مصنفات هؤلاء المؤرخين في الشرق والغرب,ويعدد ابن النديم أسماء هؤلاء المؤرخين كاليمان بن الرباب ويحيي بن كامل والصيرفي وعبد الله بن زيد وإبراهيم بن إسحق والهيثم وغيرهم من المشارقة,ويصف مصنفاتهم بأنها "مستورة".كذلك نعلم من سير الشماخي أن مؤرخا إباضيا شهيرا,يدعى ابن سلام صنف كتابا في السير اعتمد عليه اللاحقون.ويخبرنا مؤرخ خارجي متأخر أن ديوان الإباضية بجبل نفوسة كان يحوي أكداسا هائلة من الكتب بعضها يتعلق بتاريخ المذهب وأعلامه,كما كانت المكتبة المعصومة بتاهرت تحوي بدورها مصنفات في السير والتاريخ.
وبالرجوع الى نصوص هؤلاء الرواد في كتب المتأخرين,لاحظنا أن موضوع التاريخ اقتصر – كما قلنا – على سير شيوخ المذهب وأعلامه,فضلا عن نشاط الخوارج السياسي في الشرق والغرب.تفسير ذلك أن الخوارج كانوا يكفرون من ليس على مذاهبهم,ولم يعترفوا بالحكومات الإسلامية برمتها,لذلك تغاضوا عن كتابة تواريخ عامة أو عالمية.
والملاحظة الثانية,أن هذه المدونات الأولى كانت متخلفة في مناهجها وجه عام,فهي تفيض بالخوارق والأساطير,وتفيض في ذكر المناقب والكرامات.وتلك نتيجة طبيعية لجماعات عاشت مضطهدة منذ ظهور المذهب من قبل الحكومات الإسلامية كافة,فالأفكار تتحجر حين تتقوقع ,وتتطرف حين تضطهد,وتحلق في الغيب حين تعجز عن حل مشكلات الواقع.
ونلاحظ أن هؤلاء المؤرخين اشتخدموا الإسناد,لكنه اقتصر على الروايات المنسوبة الى شيوخ المذهب وأعلامه.ولم يجر ترتيب الحوادث وفقا للنظام الحولي,بقدر تنسيقها على أساس معالم مرتبطة بأحداث عامة في تاريخ المذهب.
ومع ذلك ظهر تأثير الصحوة البورجوازية واضحا في بعض الأعمال التي أنجزها مؤرخون عاشوا في كنف الدول الخارجية المستقلة في الغرب,حيث نلاحظ – اعتمادا على بعض الإشارات – اهتمامهم بمعلومات ذات طابع اقتصادي أوردوها مختلطة بفقه مذهبهم كمسائل الحلال والحرام والوصية والرهن والربا والزكاة والعشور...الخ.
ومن الصعوبة بمكان الحديث عن رؤى ونظرات تاريخية لدى هؤلاء المؤرخين في غياب أعمالهم التي أحرقت إبان الغزو الشيعي لدول الخوارج في المغرب.
وإذا جاز لنا أن نجازف في هذا الصدد,نعتقد أن نظرتهم للتاريخ كانت ضيقة ومنحازة,ضيقة لأن مفهوم التاريخ وموضوعه اقتصر على تاريخ المذهب,ومنحازة لتعصبها الشديد للخوارج وتحاملها المقيت على غير الخوارج.وهو امر طبيعي أفرزته الظروف السوسيو-سياسية التي ألمت بجماعات مضطهدة,وحين قدر لها الاستقرار عاشت في أقاليم صحراوية معزولة ومحاطة بأعداء سياسيين ومذهبيين.
هكذا تأثر الفكر التاريخي الخارجي بمعطيات الواقع الاجتماعي ومنهجه ورؤاه.
وتتجلى المقولة ذاتها في أعمال المؤرخين السنة.والجدير بالذكر أن معظمهم عاش في المغرب الإسلامي حيث ساد مذهب مالك.وبرغم تحول المذهب المالكي عن نصيته,ومجاوراته روح العصر الذي سادته البورجوازية بفكرها الليبرالي,فإن معظم المؤرخين ظلوا متشبثين برؤى ومناهج أهل الأثر نتيجة أوضاعهم الطبقية والإديولوجية.فلم يكتبوا تواريخ عالمية- إلا ما اقتبسوه عن المشارقة نتيج الاتصال- وانصب اهتمامهم على "التواريخ المحلية" كرد فعل طبيعي لنزعة التجزئة الممثلة في قيام الدولة المستقلة في الغرب.كما اهتموا بالإسناد على حساب تكامل "القصة التاريخية".ومن العسير الحديث عن رؤى تاريخية لهؤلاء النفر من المؤرخين باستثناء قلة اشتغلت بالتجارة أو الوراقة وقدر لها الرحلة والاتصال "بأسواق" ومناهل العلم في الشرق.
وسنحاول دراسة أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية كمدخل لدراسة أعمالهم بما انطوت عليه من مناهج ونظرات تاريخية.
ففي مصر,عرف ابن عبد الحكم(ت 257 ه ) كمؤرخ فتوح,وهو من أسرة إقطاعية احتكرت زعامة المالكية.وفي إفريقية اشتهر أبو العرب تميم(ت 233 ه ) المالكي كمؤرخ طبقات,وهو سليل الأسرة الأغلبية الأستقراطية,فكان على حد قوله "يتشح بزي أبناء السلاطين".أما محمد بن يوسف الوراق (ت 292 ه ) فكان – كما يتضح من اسمه وراقا مشتغلا بالعلم,كتب رسائل ومصنفات محلية عن تواريخ بعض المدن المغربية.وفي تاهرت – بالمغرب الأوسط – عاش ابن الصغير المالكي( ت أواخر القرن الثالث الهجري),وكان تاجرا يملك دكانا في "الرهادنة",قضى حياته في كنف الدولة الرستمية وأرخ لها.
وفي الأندلس لمعت أسماء عبد الملك بن حبيب (ت 238 ه) وهو تاجر مالكي المذهب كتب في تاريخ الأندلس وصنف تواريخ عامة على غرار المشارقة,ومحمد بن موسى الرازي (ت 273 ه ) الذي كان تاجرا مشرقيا أقام في الأندلس وكتب عن فتوحها,وابن القوطية (ت 267 ه) ذو الأصل القوطي والذي كان من موالي بني أمية بالأندلس,ألف كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس".
فإلى أي حد أثرت أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية في فكرهم التاريخي؟
ليس جزافا أن يهتم ابن عبد الحكم بفتوح مصر والمغرب والأندلس,ولا يحفل بأخبار الفتوحات في الشرق.وإن ذل ذلك على شيء فعلى حماسه لمذهب مالك والبيئة التي انتشر فيها,ولا غزو فقد استمد رواياته من شيوخ المالكية المغاربة الذين كانوا يفدون الى مصر,ولذلك قدر له التزود بمعلومات انفرد بها وخاصة ما تعلق بالأحداث التي عاصرها,فقد أخذها عن شهود عيان.ولكونه من أهل الأثر,عول على الإسناد حيث شغل حيزا هائلا من مؤلفه الذي تتجلى فيه الدقة والتحري,رغم نزعات التعصب المذهبي التي تظهر بصماتها في التحامل على المذاهب الأخرى.
أما أبو العرب تميم فقد كرس مصنفه عن "طبقات علماء إفريقية"لعرض سير أعلام المالكية وذكر مناقبهم.ولم يحظ أعلام المذاهب الأخرى بحيز في طبقاته إلا عرضا,وبقصد الذم والقدح.ولا غزو فقد اشترك في ثورات المالكية على الفاطميين الذين كانوا "كفرة"في نظره,ناهيك بموقفه من الخوارج.وتتلون كتاباته بلون شعوبي,فهو يتعصب للعرب ضد الفرس,ويتغنى بمآثر قبيلة تميم,فكتب عن أنسابها ومناقبها بروح "أستقراطية",ناهيك بإسرافه في ذم " المشرقيين" ومبالغاته في ذكر مناقب أعلام المالكية وفضائلهم.
على العكس من ذلك كانت كتابات محمد بن يوسف الوراق عن تواريخ تيهرت وسجلماسة ونكور وغيرها من المدن المغربية,والتي نجد نصوصا منها عند ابن عذاري والبكري.فلكونه وراقا,قدر له أن يقف على معارف متنوعة ازدادت ثراء بفضل رحلته في طلب العلم شرقا وغربا,حتى توفي بقرطبة .وقد وصفه ابن حيان – أعظم مؤرخي الغرب الإسلامي قبل ابن خلدون – بأنه "الحافظ لأخبار المغرب".كما أثنى عليه الباحثون المحدثون تقديرا لنزاهته ود قته وموضوعيته.وإذا كان لذلك من تفسير فمرده الى انتمائه للبورجوازية.
ونفس الشيء يقال عن ابن الصغير المالكي الذي امتهن التجارة,واشتغل بالعلم,فأحاط بآراء المذاهب الأخرى وعقائدها,وجادل شيوخهم في تسامح ورحابة أفق.كتب عن "سيرة الأئمة الرستميين"تاريخا اتسم بالموضوعية رغم أنهم خوارج,ولم يتقاعس عن الإشادة بسير الراشدين منهم.ونحن نرجح تصنيفه مؤلفات تاريخية أخرى لم تصل إلينا,فأسلوبه ومنهجه ينمان عن طول باع في حقل التاريخ.وفي ذلك دليل آخر على تأثير الانتماء الطبقي على الفكر التاريخي.
وتنسحب الحقيقة نفسها على مدرسة التاريخ في الأندلس,فقد خفف تنامي المد البورجوازي من غلواء "النصية",واتسع منظور المؤرخين ذوى الانتماءات البورجوازية ليقوموا بمحاولات في كتابة تواريخ عالمية,مفيدين في ذلك من رحلاتهم التجارية والعلمية الى الشرق.بينما لونت النزعة الإقليمية منظور مؤرخي الإقطاعية, فاقتصروا على التأليف في تاريخ الأندلس بروح شوفينية متعصبة,وبرؤى محلية ضيقة.
نتلمس ذلك في أعمال عبد الملك بن حبيب التاجر الرحالة المؤرخ الذي زار مصر والحجاز وبلاد المغرب,وصنف تاريخيا يمكن – تجاوزا – إعتباره أقرب ما يكون الى تاريخ عالمي,وصفه أحمد أمين بأنه شبيه بتاريخ الطبري حوى معلومات زاخرة " عن ابتداء خلق الدنيا,وذكر ما خلق الله فيها من ابتداء خلق السماوات وخلق البحار والجبال والجنة والنار,وخلق آدم وحواء وما كان من شأنهما مع إبليس, وعده الأنبياء نبياً الى محمد ص ...وعده الكتب المنزلة,وعده الخلفاء الى حين افتتاح الأندلس,وما وجد فيها من الذهب والفضة والجوهر والأمتعة,وما أخرج منها,وعدة ملوكها ودولها...وذكر شيء من الحدثان وما يعمم منها في بعض البلدان,وكم عمر الدنيا وما مضى منها وما بقي الى أن تقوم الساعة".ثم تناول "فتح الأندلس ومن دخلها من التابعين ومن حكمها من الملوك".وفي آخر الكتاب فصول في الفقه والأخلاق والآداب,وأخرى عن قضاة الأندلس.
وبرغم الطابع الأسطوري الذي غلف الكثير من المعلومات,ورغم الخلط بين موضوعات لا تربطها صلة,فالقيمة الحقيقية للكتاب تكمن في كونه المحاولة الأولى لكتابة "تاريخ عالمي" في الغرب الإسلامي,عكست تأثير الأوضاع السوسيو- سياسية على اتساع المنظور التاريخي لمؤلفه.
أما محمد بن موسي الرازي فكان تاجرا " يشتغل في الحلي والعقاقير وأشياء أخرى"ألف كتاب "الرايات"- وهو كتاب مفقود لم نقف إلا على شذرات منه في ثنايا من نقلوا عنه – عن فتح الأندلس وإسهام القبائل العربية في الفتح تحت رايات تلتف حولها.
والكتاب – كما يتضح من عنوانه – ينم عن نظرة ضيقة ومفهوم قاصر عن التاريخ.ورب سائل يسأل,كيف ذاك وهو تاجر جاب العالم الإسلامي من مشرقه الى مغربه"؟.الحقيقة أن الرازي لا ينتمي الى الطبقة البورجوازية,فاشتغاله بالتجارة كان ستارا لإخفاء حقيقة مهنته,وهي التجسس "فكان وسيطا سياسيا وثيق الصلة بالملوك" كما كشفت نصوص جديدة للمؤرخ ابن حيان .وكان تجسسه "لحساب أكثر من جهة",للعباسيين والأغالبة وبني مدرار وأمويي الأندلس,ومن ثم فهو أرستقراطي الطبقة,خرب الذمة,"مؤرخ بلاط" شأنه شأن ابنه أحمد وحفيده عيسى من بعده.وقد ذكر عيسى أن أباه "غلب عليه حب الخبر والتنقير عنه,ولو يكن من شأن أهل الأندلس,فالتقطه عمن لحق به من مشيختهم ورواتهم,ووضع قواعد التاريخ بالأندلس مبتدئا,فأزلفة بالسلطان,وأعلت به منزلة ولده من بعده,وأكسبوا أهل الأندلس علما لم يكونوا يحسنونه".
وهذا النص عينه يمكن وضع ابن القوطية الذي أرخ لافتتاح الأندلس,فبرغم تفرده بمعلومات حول الفتح والأحداث التي أعقبته في الأندلس وبعض أخبار المغرب,إلا أن الكثير منها تلون بالتعصب القومي نظرا لأصله القوطي باعتباره مالكي المذهب.وقد لا حظنا ذلك في المعلومات التي أوردها عن ثورات الخوارج,حيث حمل عليهم حملة شعواء.
وفضلا عن ذلك أفرزت البيئة الأندلسية نوعا من الأدب التاريخي الملحمي عرف باسم "الأرجوزة الشعرية",كتلك المنسوبة الى تمام بن علقمة(ت 194 ه)واخرى نظمها يحيى الغزال (ت 250 ه).وتنطوي الأرجوزتان على معلومات تاريخية لا يعتد بها.فأرجوزة علقمة تعرض عرضا سريعا مخلا لتاريخ الأندلس منذ الفتح حتى أيام عبد الرحمن الأوسط,وأرجوزة الغزال تتناول أسباب الفتح ووقائعه,وعدد الأمراء وأسماءهم...الخ.
ومعلوم أن تمام ويحيى كانا من رجال البلاط,دبجا قصيدتيهما للتغنى بمآثر بني أمية والتسبيح بحمدهم.وعلى غرارهما نهج ابن عبد ربه- فيما بعد- حيث مدح الناصر في أرجوزة طويلة.والملاحم الثلاث تعبر عن روح الإقليمية,وهي نزعة شابت أعمال المؤرخين الأندلسين ذوي الانتماءات الأرستقراطية كما سبق أن أوضحنا.وكان شيوع تلك النزعة من المآخذ التي أخذت على منظري الإقطاع في الغرب الإسلامي بوجه عام.
وأخيرا – ننوه بأن تخلف الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي عن نظيره في الشرق لا يرجع لأسباب إقليمية أو إثنولوجية أو مذهبية,كما ذهب البعض,بقدر ما يرجع الى تأخر فتح الأقاليم الغربية,وبالتالي تخلفها النسبي في مسيرة حركة التاريخ الإسلامي العام ومع ذلك أسهمت بدور يذكر في نشأة الفكر التاريخي الإسلامي,ويعزى هذا الدور الى سيولة الفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.
وبعد –ألا يحق لنا الحكم بأن نشأة علم التاريخ الإسلامي مدينة للتطور الاقتصادي – الاجتماعي الذي أفرز الصحوة البورجوازية,وأن الفكر الإسلامي بعامة ابن شرعي لواقعه الاجتماعي؟
المصدر : سوسيولوجيا الفكر الاسلامي ( طور التكوين ).