إن ديوان "تأتي بقبض الجمر" أفرغ علينا ثلاثاً وأربعين قصيدة أشبه بالطلقات، كل طلقة بوقع جمرة، تحترق فينا دون أن تشتعل، جوهر هذه الطلقات بسيط في نبعه ورؤياه، لكنه عميق أيما عمق في لفحه وحفره، يحفر فينا، وفي الزمن والتاريخ والوجود. ومضمون هذه الرؤيا أن الشاعر يناجي القصيدة في زمن عز فيه القصيدُ، وقامت الكلمة حائرة ومترددة ومسائلة للهوية. هكذا ينفتح الديوان على سياق إنساني أرحب يمتد ليلامس الوجود. فكيف عرَّت القصيدة مجاهل هذا الوجود؟
***
أولا: أزمة قصيدة أم أزمة وجود؟
يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة "أغنية النهار الآتي" وهي قصيدة فيها كثير من حس التواطؤ، يستدرج القارئ إلى دلالة مفارقة، على اعتبار أن استشراف النهار الآتي فيه تلميح إلى الليل القائم، كما أن الأغنية ليست دائما مُطربة ومُفرحة، إنما قد تكون مُشجنة ومحزنة، وتظهر هذه المفارقة في ثنايا القصيدة، فالليل داء ومنفى ولا يهجس عن فجر بومض، وهو أيضاً ظلام وخوف واغتراب وفجيعة، فيما النهار مبتغى ورغبة واختيار وشرارات، نقرأ في القصيدة:
الحاضِرُ لا يهجس عن فجر بومض،
والضياء ارتدَّ عن دربي، يا هذا حجابي عارضٌ
يسَّر لي غيثَ إله
لستُ بالطامع في استدرار ما تسدي يداه
أذهب الآن وحيداً خوف طيش السهم أن يهوي إلى
أعماق رُوعي في انثيال").(ص7)
التحليل السيميائي لقصيدة "الخمارة" للشاعر أحمد المجاطي (تتمة) ـ نعيمة البخاري
1 ـ التحويل الدلالي والاشتغال الصوتي الغريزي
قبل البدء كان لابد من الاطلاع على بعض من الخطوات التي استقيناها من التحليل الدلائلي عند جوليا كريستيفا، حيث يمكن أن نجد متعة الاطلاع على مجموعة من المناهج الفلسفية واللسانية والنفسية، تقودنا إلى مسارب النص حيث يلتقي النص والكاتب والمجتمع. وقد حاولنا العبور على مستوى تحليل صوتي دلائلي علنا نفيد ونستفيد من هذه اللغة الشعرية الغنية والمتوهجة عند الشاعر أحمد المجاطي، ومن ركوبنا سبل التحليل السيميائي في مجال التحليل الشعري.
يخضع الاشتغال الصوتي للغة، لتغييرات داخل النص، لا تكون منفصلة عن الآثار الدلالية الناتجة عنها. وهذا يعني أن ما هو دلالي يسير في خط موازي مع ما هو صوتي عند اشتغاله لإنتاج المعنى.
يختص هذا الجرس الإيقاعي، بتقطيعه للخطبة الجملية للنص الظاهر، بأنظمة الاشتغال الفونولوجي مثلما بالتركيب ـ الدلالي للغة في نفس الوقت. وتنظم الاختلافيات الدالة معنى تكميليا دائما لدلالة الملفوظات التقريرية، تبعا للسيرورات الأولية عند فرويد، ويصفها جاكبسون كمحور للانتقاء والتأليف، وهي ترتبط بكل اللغات. وتتمظهر في الاستبدال والاستعارة والمجاز، والتمثيل والمجاورة.
توظف السيرورات النفسانية في الحقل اللساني. وسيساهم هذا التوظيف داخل السيميائي، في إعطاء خصوصية للغة الشعرية، للوصول إلى توازن دائم بين الدلالة والمعنى واللامعنى، داخل النص. ولن نصل إلى ذلك، إلا بتغيير الفونيمات إلى اختلافيات دالةLes différentielles signifantes، التي تعمل على تغيير السنن الفونيمي، قبل اللاوعي إلى اندفاع للاوعي، وعلى هذا النحو يتركب جهاز سيميائي يتطلب نموذجا للكتبة أو للحرف.
آفاق لسانيات النص انطلاقا من مشروع ٳميل بنفنست ـ مراد ليمام
إذا كان التحليل التوزيعي لهاريس قد حظي بقصب السبق في تمطيط مجال البحث اللساني ليشمل ضمن موضوعاته الخطاب. فإن إميل بنفنست يقدم طرحا منهجيا ستستوحي من منجزه تصورات لاحقة سيكون لها بالغ الأثر في الدراسات الأدبية، التي تنهض على المرتكزات اللسانية.
ينطلق اللساني الفرنسي من منظور مغاير يصرح من خلاله بأن " الجملة فئة لوحدات تمييزية، تكون عناصر مفترضة لوحدات كبرى، كما هو الحال بالنسبة للفونيمات أو المورفيمات. فهي تختلف تماما عن باقي الكيانات اللسانية. وأساس الاختلاف هو أن الجملة تتضمن دلائل (جمع دليل)، لكنها ليست في حد ذاتها دليلا"1. من هنا، نستطيع أن نتصور أن الجملة تختلف اختلافا كليا عن باقي الوحدات اللسانية التي تخضع لعمليات الاستبدال أو التركيب : "فمع الجملة نترك مجال اللسان بوصفه نظاما للعلامات، وندخل في عالم آخر؛ هو اللسان بوصفه أداة للتواصل، حيث التعبير هو الخطاب"2. إن هذه الخصائص تجعلنا نكتشف عالمين مختلفين، بالرغم من معانقتهما لنفس الحقيقة. إذ يحيلان على لسانيتين مختلفتين بالرغم من أن سبلهما تتقاطع في كل لحظة. "فهناك من جهة اللسان، باعتباره مجموعة من العلامات المستخرجة بواسطة إجراءات صارمة، مدرجة من فئات، ومركبة إلى بنيات أو أنظمة. ومن جهة أخرى، هناك تجلي اللسان في عملية التواصل. فالجملة تنتمي إلى الخطاب. من هنا بالذات يمكن تعريفها: الجملة هي وحدة الخطاب"3. فمن خلال الخطاب المحين عن طريق الجمل يتكون ويتشكل اللسان، لذلك نجد بنفنست يرى الجملة أصغر وحدة في الخطاب.
قراءة في كتاب "ثورة اللغة الشعرية" لجوليا كريستيفا ـ نعيمة البخاري
يشكل كتاب "ثورة اللغة الشعرية" مصدرا هاما للوقوف على مسار الاتجاه السيميائي عند الناقدة أو ما اصطلحت على تسميته بالتحليل الدلاليLa symanalyse. .فبعد كتابها "نص الرواية”Le texte du Romanالذي يمثل أطروحتها للحصول على الدكتوراه سنة 1967 تحت إشراف لوسيان غولدمانLucien Goldman وبعد نشرها لمجموعة من المقالات التي جمعتها في كتابها "التحليل الدلالي" الذي يمكن اعتباره الثمرة الأولى لمشروعها السيميائي المتميز، تصدر هذا الكتاب سنة 1974 لتقدم موقفها النظري والتحليلي بشكل أكثر توسعا، من هذا المشروع الكبير.
يرسم كتاب "ثورة اللغة الشعرية" اتجاها متميزا في مسار النقد السيميائي باعتباره أصبح مع جوليا كريستيفا علما ونمطا فكريا يعيد تقويم ذاته وموضوعه وينتقد نماذجه باستمرار، وينفتح على مجالات أخرى من البحث . وهذا ما يجعل من التحليل الدلالي نموذجا من التفكير الذي بإمكانه أن يتلاءم مع نفسه ومع كل الاتجاهات الأخرى التي يستعين بها دون أن يسقطه ذلك في فخ التحول إلى مذهب. « إن الممارسة السيميائية تنقض تلك النظرية الغائية لعلم خاضع لمذهب فلسفي ، وبالتالي معد هو بالذات ليصير مذهبا بدون أن يسمى مذهبا. إن ميدان السيميائيات كميدان لإعداد النماذج والنظريات، هو محل اعتراض واعتراض ذاتي:"حلقة " لا تنغلق بدايتها تلتقي نهايتها، إنها تدفعها، تقلبها وتنفتح على خطاب آخر، يعني على موضوع آخر وعلى منهج آخر» ([1]).
لمن نكتب؟ ـ علي الحسن أوعبيشة
صحيحٌ أننا لا نكتب إلاّ إذا فكرنا في القارئ، غير أن هذا الآخير ليس شخصا أخر غيرنا، إننا نكتب لأنفسنا، نكتب لذاتنا الثانية، تلك الذات التي تمنحها الكتابة حياة مضاعفة. أكثر الكتابات صدقا، هي الكتابة الموجّهة للأنا، أو قل الكتابة/الاعتراف، وهذا النمط من البوح ليس رسالة أو خطابا. إنها لكنةُ صدى الذاكرة أو رنّةُ الذبذبات التي تصدرها فاعلية الزمن وهي تنهشُ المسافة الفاصلة بين ما يقوله المؤلف وما لا يمكن أن يقوله.
هنا يصير الكاتب هو القارئ الوحيد القادر على التقاط نصّه على ذبذبات الزمن المتشظي/ زمانيات الذات، وكل محاولة لإنتاج قارئ نموذجي ماهي إلا رغبة محجّبة في استنساخ آناه، والبحث عن إمكانية نشر غسيله المعتّق على خيوط المماثلة.
فما الذي يفصل الكاتب عن القارئ؟ أو بعبارة أوضح أين ينتهي الكاتب وأين يبدأ القارئ؟
- النصّ، هو عقدةُ تقاطعِ بين اثنين، بين من يكتب ومن يقرأ.
- النص، فضاءُ المــُباينة بامتياز وركحُ فنانٍ يلعبُ دورين.
- النص، حياةٌ مضاعفة ... لا توجد فيه (أي النص) حدود فاصلة بين الكاتب والقارئ، إنه اسم أخر لإمكانية حضور الإثنين في حيزٍ زمكاني واحد.
فيلم " أندرومان من دم و فحم " قراءة تحليلية لمفارقات المغرب العميق ـ عبد الجبار الغراز
قبل الشروع في تقديم هذه القراءة التحليلية لمفارقات المغرب العميق كما يتمثلها ، إبداعيا و فنيا ، فيلم " أندرومان من دم و فحم " لمخرجه عز العرب العلوي ، أود أن أشير أن هذا الشريط السينمائي الرائع يتناول قضايا الاقصاء و التهميش في أبعادهما الإنسانية و الروحية بطريقة تتحاشى الابتذال ، غايتها هو أن تسلك طريق التعبير الجمالي البسيط الذي ينفذ خطابه في القلوب دونما حاجة إلى تكلف في التعبير الدرامي ، مدفوعا برؤية المخرج الخاصة لظواهر و كوامن الأشياء .
وهذه الملاحظة الأولية تجعلنا نعتبر أن اختيار عز العرب العلوي " اندرومان من دم و فحم " كعنوان لفيلمه كان اختيارا صائبا ، لأن ذلك يعني ، في نظرنا ، إقامة علاقات تقابلية بين الطبيعة من جهة و الإنسان و ثقافته الموروثة من جهة أخرى . فينبغي التذكير أن " أندرومان " هو اسم يعني الشجرة باللغة الأمازيغية ، و في نفس الوقت هو اسم لفتاة أمازيغية شاء لها قدرها أن تلعب، منذ ولادتها ، دورا ذكوريا استجابة لأعراف و تقاليد بالية نجدها قد أقصت النساء في المجتمع الأمازيغي من الحق في أراضي الجموع .
. أما اختياره لمنطقة بولمان القابعة في أعالي قمم جبال الأطلس ، فإنه يعني ذلك اختيار فضاء يغري بجمالياته الطبيعية الخلابة ، و يكشف عن أسرار يحبل بها وسط اجتماعي و ثقافي معبر عن مغرب عميق .. مغرب المفارقات و العجائب ، حيث تطفو على مسرح الأحداث الوضعية المزرية للمرأة القروية ، و كأنه بذلك يضعنا ، كمتلقين ، في مفارقة جامعة بين الحس الجمالي و القساوة كما نسجتها منذ قرون أعراف و قواعد سلوكية بالية .
بلاغة الصمت في الكتابة الشعرية ـ أبو إسماعيل أعبو
سؤال الشعري توليف دلالي بين سؤالين مبدئيين، يشفان عن شفافية العلامة في تراصفها النصي، وكثافتها الإيحائية في تراحبها التأويلي، عن الكتابة ومسرب حركية صيرورتها الاختلافية، عن اللغة الشعرية وتنائيها عن ذاتها في استيعاء ترميزاتها.
فما هما هذان السؤالان؟
أولهما، سؤال "الكلام" الذي يقصر ذاته على ما تدل عليه الدلائل الألسنية بدوالها ومدلولاتها، التي ينتظم وفقها النسيج اللغوي الناظم للقصيدة الشعرية.
ثانيهما، سؤال "الصمت" الذي يرين بداءة على بياض الصفحة، قبل أن يقرن بجماع المكتوب وسواده خالقا فراغات دلاليا وتشكيلات فضائية.
إنه توليف بين سؤالين يكتمنان وعيين لاينفكان عن جدل خصيب:
- فهنا الوعي الشعري الذي هو وعي التجلي، والاقتران بما تسرد كتابة من عناصر التجربة الفنية.
- وهناك الوعي التأويلي الذي هو وعي الخفاء، والاقتران بهامش الكتابة الشعرية وأمدائها المتمادية.
فهذا وذاك يستوصلهما سؤال الشعري في تجليهما المصرح والمضمر استيصالا حواريا، يحدو بالكتابة إلى تجاوز مبدإ الهوية الثابتة، ومبدإ تطابقها مع ذاتها، بل يحدو بها إلى قول ما لم تقله في صيرورة اختلاف لا تؤول بتاتا إلى النفي، ما دام السؤال في استرسالها يستثير حركية سؤال آخر، فيما هو يستثير حركيته الذاتية، فيبدوان وكأن الواحد منهما يبجس الآخر ويفتحه على أمداء استعارية لم يقاربها من قبل.
الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة ـ محمد علي عزب
هذه الدراسة النقدية صدرت فى كتاب للكاتب بعنوان " الشاعر أمل دنقل أيقونة الرفض والمفارقة " ، والكتاب صادر عن دار العماد ومركز عماد علي قطرى للنشر والتوزيع القاهرة 2014م ..
(1) السيرة الذاتية للشاعر أمل دنقل:
ولد الشاعر المصري العربي الكبير محمد أمل دنقل فهيم محارب في 23يونيه سنة 1940م بقرية القلعة ـ مركز قفط ـ محافظة قنا، وقد حصل والده على شهادة العالمية من الأزهر الشريف في السنة التي وُلِد فيها أمل فسمّاه بهذا الاسم تيَمُّنَّا به، وكان الوالد هو الوحيد فى قرية القلعة الذى حصل على تلك الشهادة فى ذلك الوقت، وقد مات سنة 1950م وقد كان أمل أكبر الأبناء هو المسؤول عن الأسرة في ذلك السن، وبعد أن أنهى أمل دنقل دراسته الثانوية اضطر للعمل في شركة أتوبيس الصعيد بقنا وفى ذلك الوقت راسل بعض المجلات والصحف لنشر قصائده وبالفعل نشرت له مجلة صوت الشرق قصيدتى "راحلة" و "سأحمى انتصارات الشعب" فى شهرى يونية وستمبر سنة 1958م، وانتقل أمل دنقل للقاهرة مع عبد الرحمن الأبنودى ويحيّ الطاهر عبد الله وعبد الرحيم منصور سنة 1959م، ولكن أمل لم يحتمل قسوة الحياة فيها فعاد اٍلى قنا واستقر بها عام ونصف، ثم سافر أمل اٍلى القاهرة سنة 1962م مرة أخرى ومنها انتقل اٍلى الإسكندرية وبدأ دراسة الأدب العربي فى جامعة الإسكندرية لكنه لم يواصل وانتقل اٍلى السويس ليعمل فى مكتب مقاولات هناك، ثم ترك السويس وانتقل اٍلى القاهرة ليعيش بها وفى شهر ستمبر 1979م بعد تسعة أشهر من زواجه هاجم مرض السرطان جسد أمل دنقل للمرة الأولى وأجرى الدكتور اٍسماعيل السباعي عملية جراحية في مستشفى العجوزة لاٍستئصال الورم وأخبر أمل أنه اٍذا مرت خمس سنوات قبل أن يظهر الورم مرة أخرى فاٍن شفائه من المرض سيكون مضمونا، ولكن المرض لم ينتظر وظهر ورما آخر وكانت الجراحة الثانية فى مارس 1980م، وحاول أمل أن يتجاهل هذا المرض ويتناساه عن عمد حتى هاجمه السرطان بشراسة فى فبراير 1982م وكان لا بد من دخول أمل المعهد القومي للأورام وأقام أمل دنقل فى الغرفة "8" حتى وفاته فى 21 مايو سنة 1983م.