Anfasse2123توطئة : ما الكتابة الشعرية وكيف نكتب الشعر ؟؟
الكتابة الشعرية ،هي الفسحة التي ينزوي في ركنها الشاعر متسلحا بشطحات الخيال ،ورحابة التأمل ،وتنوع الثقافة ،بالإضافة إلى الموهبة ،ليتفحص عناصر الكون  عنصرا عنصرا بمزيج من الذاتي والغيري والعابر والظرفي والتاريخي والحلمي ، قاطعا كل مسافة بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي في توحد تام ،ليعبّر عما يتختر في قلبه من ألم وجراح ،خلفتها ضربات السهام المقبلة من المحيط ،وبالتالي إعادة ترتيب فوضى الأشياء المتنافرة في وضع لائق وجميل ،موغلا في مناطق المجهول بحثا عن النور ،عما يضيء السراديب المعتمة والأنفاق الغامقة ... الكتابة الشعرية إذا ،هي محاولة إدراك  الأسرار المبهمة للحياة والكون لفك أزرارها ... هي أولا وأخيرا محاولة الإجابة عن سؤال أو أسئلة عالقة ..
1ــ ماهو الشعر إذا؟؟
الشعر من أرسخ وأقدم أشكال التعبير الفنية التي عرفها الإنسان ،وهو جنس أدبي مشترك بين جميع الشعوب والأمم، يتميز بمخاطبة الجانب الوجداني والتخييلي والرمزي في الإنسان ،بالتعبير عن المواقف ،والصور والمشاعر ،تعجز اللغة العادية عن القيام به أو التعبير عنه ،الشعر يعكس معاناة الإنسان ،وقلقه إزاء الغموض والغرابة اللذين  يكتنفان مظاهر الحياة ،وأسرارها وآفاقها ،الشعر يجسد أسمى وأرقى القيم التي يكافح من أجلها الإنسان لتحقيقها ، كالحرية والحب والحق والخير والتسامح ،والاحتواء وقبول الاختلاف ،والرأي والرأي الآخر،كما يحقق متعة فنية  ولذة جمالية تسُر القلوب ، وتنعش الروح .

anfasse20115يُطل صاحب في "شرعية الاختلاف" أو "مفكك ابن خلدون" كما يشاع في دوائر النخبة، بتأليف غاية في التعقيد، مُنحل من كل التصنيفات الإبداعية، فلا هو بسيرة ذاتية، ولا هو برحلة، ولا هو بسرد درامي محض، يستقرأ من خلاله شظايا ذاكرة تاريخية سادرة نحو النسيان، وواقع أصلد يعتصر ألما على زمان هادر، عابرا بسرديته نحو فضاءات وأمكنة متغايرة، تنتحب فيها ذاكرة الماضي، ويتداخل فيها الميتولوجي بالتاريخي، الرمزي بالواقعي، المتخيل بالمعاش، في سرد إبداعي جميل، يمزج بين أسلوب الجملة المقتضبة، ويُكسر بنية السرد بين ضمير يتكلم وسارد مُفترض، بين سلاسة تُضمر عمقا مكنونا في خبايا لغة مُذوَّتة تنطق بلسان الجماعة، علَّها تجد تشفيعا لذاكرة الأحفاد بعد مذلة الأجداد.(ص 79).
   نافدة "مرايا الذاكرة" للمفكر المغربي علي أومليل، الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي، سنة 2016م، أشبه بمتحف في ذاكرة الجسد العربي والاسلامي، تستغور رحلة الإنسان في الزمان والمجال، تكتب عن الآل والمآل، عن أمة تملَّكت ناصية الزمان، وصارت في مداره ومركزه، قبل أن تطرد منه، وتعيش على هامشه، حينما دارت عليها دوائر التاريخ ( ص66)، وانكفأت محاصرة  في جغرافيا تصدها من الشمال والغرب، ومن الجنوب في الصحراء، قبل أن تحاصر شرقا من طرف غزاة عثمانيين( ص112 )، فهل هي لعنة الجغرافيا؟ التي جعلته كما يقول المثَل الأمازيغي "كقنفُذ انكفأ عليه غربال، يرى النور من الخارج يتسرب من ثقوب الغربال ولا يجد طريقا للخروج".

anfasse14114مدخل :
تتحدد العلاقة بين الكاتب والقارئ عادة وفق المسافة التي ينشؤها الكاتب مع الواقع ويقدم نصه من خلالها، عارضا مواقفه وأحكامه السياسية والاجتماعية والفكرية، ومختزلا المفاهيم والرؤى التي يقوم عليها الفعل القرائي الذي يتحمل الكاتب مسؤولية تبليغه للقناعات التي يرتكز عليها، وذلك بالتفسير والتحليل، وتحريك الوعي، وتسليط الضوء على القضايا المصيرية التي يلعب فيها عنصرا العرض والتخييل دور الوسيط المحفز لاستقبال العلامات المؤثرة في البنية الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات .
من هذا المنطلق تتأسس الكتابة الروائية عند الكاتبة الجزائرية (ليلى بيران) التي تميل إلى معايشة فنية للواقع الجزائري عبر مجموعة من الروايات تعرض فيها أحوال المجتمع الجزائري من نواحي عديدة ومختلفة.
قراءة في رواية (بصمات):
تتسلّم الكاتبة في رواية (بصمات) زمام الفعل السردي مستخدمة ضمير (الأنا)، ومعلنة حالة من الحضور الإنساني الذي يتفاعل مع الظاهرة الاجتماعية والثقافية الجزائرية من خلال تدفق حيّ لمجموعة من الصور الحياتية المكثفة الدلالة والرؤى، فتبدو مصرّة على مناجاة التاريخ البشري بأشكال تناصية شتى لا تقف عندها لمجرد العرض أو الإخبار، بقدر ما تجعل منها محمولات تراثية إنسانية لحاضر الفكر والثقافة والمجتمع الجزائري الجديد والتغيرات التي طرأت وتطرأ على واقعه المتنامي باستمرار. 

anfasse14113 احتفت التجربة الشعريّة التونسيّة بتوظيف الرمز لما فيه من امتلاء وخصوبة، إذ يفتح أمام الشّاعر والقارئ معا فيضا من الإيحاءات، التي لا تنتهي إذا أحسن الشاعر استعماله على حدّ قول يونغ " هو أحسن طريقة للتعبير عن شيء لا يوجد له معادل فكريّ آخر"[1]

        وقد أضفى الرمز على العمل الشعري ثراء في أبعاد الصورة الشعرية واتجاهاتها، ولعلّ اعتماد الشعراء على الرمز في صورهم وتعابيرهم هو إدراكهم بأنّ لغة الشعر يجب أن تبتعد عن الوضوح، فكان الرمز وحده القادر على إضفاء الإيحاء والعمق على القصيدة، التي تصبح عالما من الرموز مليئا بالأفكار والدلالات الجديدة، التي يكتسبها بالرمز والتي تكمن خلف حدود النصّ الشعري، إذ "حين لا ينقلنا بعيدا عن حدود القصيدة ونصّها المباشر، لا يمكن الإدّعاء بأنّه رمز، الرمز هو ما يتيح لنا أن نتأمّل شيئا آخر وراء النصّ، فالرمز قبل كلّ شيء معنى خفيّ وإيحاء"[2].

    إنّ الشعر التونسي في اتجاهه الجديد حاول أن يستخدم الرمز وسيلة، ليفجّر من ورائه أفكارا ومقاصد، أراد الشاعر إيصالها للقارئ العربي، والتعبير عن أفكاره بصفة غير مباشرة.
     مثلما أسلفنا الذكر من خلال التعرّض لبعض العوامل والتغيّرات، التي ساهمت في دخول الرمز والكتابة الرمزية إلى المنظومة الشعرية العربية والتونسيّة خاصّة، فقد كان لهذا الأسلوب في التعبير أثر كبير في نفوس الشعراء التونسيين، إذ لم تكن تخلو أيّ قصيدة حديثة من هذا النمط التعبيري، أو هذا الأسلوب الفنّي، الذي تعرّضنا له خاصّة في التجربة الشعرية الحديثة، التي أصبحت تأخذ من سمة الرمز أداة تعبيرية، لتسافر من المكان إلى اللاّمكان ، وتتخطّى المحدود إلى اللاّمحدود.

anfasse14111الصلاة أهم ركيزة من ركائز الإسلام، فـ"الصلاة عماد الدين". لا ينطبق هذا على قيس ابن الملوح، ليلى تشغله حتى بالصلاة، بل هي صلاة في الصلاة :

وَإِنّي إِذا صَلَّيتُ وَجَّهتُ نَحوَها بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها كَعودِ الشَجى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا...
أُصَلّي فَما أَدري إِذا ما ذَكَرتُها اِثنَتَينِ صَلَّيتُ الضُحى أَم ثَمانِيا.

بل يمكن أن نعتبر أن قيس قد أصدر فتوى تخص الحج، حين يقول :

إذا الحجاج لم يقفوا بليلى
فلست أرى لحجّهم تماما
تمام الحج أن تقف المطايا
على ليلى وتقريها السلام.

لا تمام للحج إلاّ برؤية وجه ليلى، باعتبارها شعيرة دونها يسقط الحج ! كل محاولات هدي قيس باءت بالفشل ! "فإن كنت مطبوباً فلا زلت هكذا وإن كنت مسحوراً فلا برأ السحر" !

Aanfasse03112   فاتحة الموضوع :
    شَهِدَتْ بلاد المغرب الإسلامي منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن الهجري حركة نقدية هائلة ومؤثرة ، حيث تنوعت قضايا النقد والبلاغة ، وشاعت وذاعت آراء حصيفة ، وانتشرت منهجيات وطرائق قِدَدًا .
   اِسْتَفَادَ علماء العربية في هذه الفترة من المصنفات الشهيرة كدلائل الإعجاز للجرجاني ، والصناعتين لأبي هلال العسكري ، والموازنة للآمدي ، والبيان والتبيين للجاحظ ...     
    تَكْتَنِزُ هذه المصادر والمصنفات العربية الخالدة مفاهيم ومصطلحات رصينة ، ومتونا ، ورؤى متميزة للعالم ووجهات نظر منهجية ، واستشرافات علمية عميقة الدلالات بالنسبة لموضوع السياق . يتردد هذا القصد بصور عميقة ومتماثلة عند ثلَّة من علماء العربية في المغرب الإسلامي أمثال أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني ( ولد عام  399ه ، وتوفي عام 463 ه ) من خلال مؤلفه ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) ، وحازم القرطاجني (  ولد عام 608 ه / 1211 م ) في عمله الموسوم ب( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ) ، وأبي حيان التوحيدي ( ولد عام  654ه / 1256 م ، توفي عام 745ه /  1344) في مصنَّفه المعروف ب ( الإمتاع والمؤانسة ) . وهذا الطرح نفسه نجده حديثا عند العالم اللساني الانجليزي فيرث John Firth ( 1890م  _ 1960 م ) ، فهل اطلع هذا الرجل على أعمال علماء العربية المذكورين ؟ ألا يمكن إدراج موضوع السياق في مجال (( اللسانيات الكونية ))  The universal linguisticsالتي يلتقي فيها كل سكان المعمورة ؟ هل يمكن القول أن منابع (( نظرية السياق )) الغربية تملك جذورا عميقة ترد موزعة بين طيات كثير من المصادر ، والمتون ، والنصوص ، و(( المدارس )) العربية النقدية والبلاغية القديمة رغم بروز بعض الاختلافات في وجهات النظر التي تحدد الموضوعات والمقاصد عند الطرفين ؟  كيف تطور موضوع السياق عند العرب والغرب ؟ ما وجوه الالتقاء والاختلاف بين هؤلاء الأعلام والكتب والتيارات اللسانية الغربية وعملية المثاقفة  intercultural وحوار الحضارات ؟ 

anfasse28112قد لا يعير المرء كبير اهتمام عالمَ الرموز الثقافية حين يكون داخل حاضنة الثقافة القومية. فالتفاعل بينه وبين ذلك العالم يأتي عفويا ومنسابا بشكل لا واع. ولكن كلّما افتقر المهاجر إلى ثقافة المأتى، ولا سيّما في الغرب، إلا وداهمه الذوبان وكان عرضة للاندثار المبكر، ولربما تشتدّ الوطأة مع نزول المهاجر بالغرب في سن يافعة حين لا يزال عوده طريا غضّاً ولم تكتمل مفردات قاموسه اللغوي ولم تختزن ذاكرته ما يكفي من الصور والذكريات. ما زلت أتساءل كيف استطاع ذلك الصبي الفلسطيني العابر في الرحيل من اللدّ إلى دمشق إلى روما أن ينجو من ذلك الاندثار المتربّص، ويغدو مرجعا وعلما في التواصل الثقافي العربي الإيطالي؟ أقصد بالقول الفلسطيني وسيم دهمش، فهو بحق ثالث ثلاثة، رفقة الراحليْن الأردني عيسى الناعوري والليبي خليفة محمد التلّيسي ممن أغوتهم لغة دانتي وسحرهم أدبها. شاءت الظروف أن تمتزج الثقافة العربية بالثقافة الإيطالية مع الثلاثي كما لم تمتزج مع من سبقهم ممن حطّ بهم الرحال في هذه البقاع. فهناك كلفٌ دفينٌ باللغتين والثقافتين يجمع الثلاثي، يبلغ أحيانا درجة العشق والتجلي.

anfasse28111إن تطوّر المنظومة الشّعرية العربيّة والفلسطينيّة خاصة نتيجة لتعقيد الموضوعات وانفتاح بوابة الشّعر على العديد من الواجهات خاصّة بعد اتّفاق أوسلو سنة 1993 فرض على القصيدة العربيّة والفلسطينيّة خاصّة أشكالا مختلفة  بداية بالقصيدة الشّاملة مع حسين البرغوثي تحديدا والقصيدة الومضة أو التوقيعيّة مع عزا لدين مناصرة مرورا بالقصيدة المدوّرة مع احمد حسين و محمود درويش و صولا إلى نمط جديد أصبح يعرف باسم القصيدة السّوناتا، و ربّما كان هذا التواتر و التّتابع و التنوّع في أشكال القصيدة العربيّة  كان تمهيدا لظهور هذا الضرب من فنون القول الشّعري و هو ما يتجلّى خاصّة مع محمود درويش في ديوانه "سرير الغريبة" .
            و تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النمط لم يكن وليد الشّعرية العربيّة بل هو شكل مستحدث ومستقى من المنظومة الشّعرية الغربيّة وبالتحديد ايطاليا مطلع القرن الثّالث عشر مع جياكو دي لينتو ودانيتي اللذين يعدان أول من ابتدعا هذا النّوع واهتمّا بتطويعه وكيفية تطويره، و سرعان ما تسلّل هذا اللّون الجديد إلى سائر أنحاء أوروبا ليحطّ الرّحال في فرنسا و خاصّة مع شارل بود لير الذي البس ديوانه" أزهار الشر" حلّة هذا الشكل الجديد ، فقد عمد الشّاعر في ديوانه المذكور تمرير هذا اللّون الفنّي للتعبير عن العديد من القضايا، ولم تنحصر جذور القصيدة السّوناتا داخل أسوار الشّعرية الغربيّة، إذ سرعان ما تفطّن درويش وهو احد أعلام الشعرية العربيّة إلى هذا الضّرب الإبداعي في الكتابة الشّعرية و أناط ديوانه" "سرير الغريبة" في بعض من قصائده بهذا الجانب الإيقاعي و البلاغي المخصوص الذي ضبط له العديد من القواعد والموازين التي ترسّخه و تشكّله وربّما كان في استلهام بودلير لهذا اللّون محاولة منه لخلق فضاء إبداعي تكون فيه الذّات الإنسانيّة في حلّ من كلّ أغلال الواقع  فكانت سوناتاته تناشد التحرّر أينما ولّت وجهها وكذا الشّأن عند درويش لكنّنا سنبحث في ثنايا هذا التحليل عن خاصيّة كل سوناتا وذلك قد لا يتمّ إلاّ بعقد دراسة مقارنيّه لكلا السوناتاتين الدرويشيّة والبود ليريّة و ذلك بهدف الوقوف عند خصائص كل سوناتا شكلا و مضمونا.