فاتحة الموضوع :
شَهِدَتْ بلاد المغرب الإسلامي منذ بداية القرن الرابع وحتى نهاية الثامن الهجري حركة نقدية هائلة ومؤثرة ، حيث تنوعت قضايا النقد والبلاغة ، وشاعت وذاعت آراء حصيفة ، وانتشرت منهجيات وطرائق قِدَدًا .
اِسْتَفَادَ علماء العربية في هذه الفترة من المصنفات الشهيرة كدلائل الإعجاز للجرجاني ، والصناعتين لأبي هلال العسكري ، والموازنة للآمدي ، والبيان والتبيين للجاحظ ...
تَكْتَنِزُ هذه المصادر والمصنفات العربية الخالدة مفاهيم ومصطلحات رصينة ، ومتونا ، ورؤى متميزة للعالم ووجهات نظر منهجية ، واستشرافات علمية عميقة الدلالات بالنسبة لموضوع السياق . يتردد هذا القصد بصور عميقة ومتماثلة عند ثلَّة من علماء العربية في المغرب الإسلامي أمثال أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني ( ولد عام 399ه ، وتوفي عام 463 ه ) من خلال مؤلفه ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) ، وحازم القرطاجني ( ولد عام 608 ه / 1211 م ) في عمله الموسوم ب( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ) ، وأبي حيان التوحيدي ( ولد عام 654ه / 1256 م ، توفي عام 745ه / 1344) في مصنَّفه المعروف ب ( الإمتاع والمؤانسة ) . وهذا الطرح نفسه نجده حديثا عند العالم اللساني الانجليزي فيرث John Firth ( 1890م _ 1960 م ) ، فهل اطلع هذا الرجل على أعمال علماء العربية المذكورين ؟ ألا يمكن إدراج موضوع السياق في مجال (( اللسانيات الكونية )) The universal linguisticsالتي يلتقي فيها كل سكان المعمورة ؟ هل يمكن القول أن منابع (( نظرية السياق )) الغربية تملك جذورا عميقة ترد موزعة بين طيات كثير من المصادر ، والمتون ، والنصوص ، و(( المدارس )) العربية النقدية والبلاغية القديمة رغم بروز بعض الاختلافات في وجهات النظر التي تحدد الموضوعات والمقاصد عند الطرفين ؟ كيف تطور موضوع السياق عند العرب والغرب ؟ ما وجوه الالتقاء والاختلاف بين هؤلاء الأعلام والكتب والتيارات اللسانية الغربية وعملية المثاقفة intercultural وحوار الحضارات ؟
موضوع السياق عند علماء العربية في المغرب الإسلامي
عَاشَ أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني بمدينة المسيلة الجزائرية في القرن الرابع والخامس الهجري ، وتعلم بها علوم العربية . انتقل إلى مدينة القيروان عام 406 هـ . كان أبوه مملوكا روميا لقبيلة الأزد ، اشتغل في منطقة المحمدية صائغا للذهب ثم علم ابنه هذه الصنعة ، لكنه كان يميل إلى الأدب والشعر فتفقَّه فيهما بصورة لافتة ، وهو ما أذاع صيته في القيروان ، حيث أصبح مرافقا لحاكمها الصنهاجي .
يُعَدُّ ابن رشيق القيرواني من أشهر الأدباء والنقاد و الشعراء خلال القرنين الرابع والخامس الهجري بالقيروان التي كانت في ذلك العهد حاضرة العلماء والأدباء . درس النحو ، والشعر ، واللغة ، والعروض ، والأدب ، والنقد ، والبلاغة على يد أعلام زمانه كأبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز ، وأبي محمد عبد العزيز بن أبي سهل الخشني الضرير ، وأبي إسحاق الحصري القيرواني.
وَلاَّهُ علي بن أبي الرجال شؤون الكتابة في الجيش ، لكنه غادر مدينة القيروان إلى مدينة المهدية بعد أن زحفت عليها بعض القبائل العربية القادمة من المشرق ، فعاش في كنف أميرها تميم بن المعز فترة من الزمن ، ثم رحل إلى جزيرة صقلية فأقام بمدينة مازرة حتى وفاته عام 463 ه.
أَلَّفَ كتاب ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) الذي يقع في جزئين ، ويضم مجموعة من آراء النقاد السابقين وقضايا أدبية جوهرية . خلَّف أيضا كتبا أخرى مشهورة مثل كتاب ( قُرَاضَة الذهب في نقد أشعار العرب ) ، وديوان شعر جمعه الدكتور عبد الرحمن ياغي . هناك بعض كتبه التي مازالت مفقودة مثل كتاب ( أنموذج الزمان في شعراء القيروان ) ، و( الشذوذ في اللغة ) ، و( ساجور الكلب ) و ( قطع الأنفاس ) ...
يَضُمُّ هذا الكتاب مئةً وسبعة أبواب ، منها 59 باباً في فصول الشعر وأبوابه ، و39 باباً في البلاغة وعلومها ( البلاغة ، الإيجاز ، البيان ، النظم ، المخترع ، البديع ، المجاز ، الاستعارة ، التشبيه ، التجنيس ، الترديد ، المطابقة ، التكرار ، الاتساع ، الاشتراك .... ) ، و9 أبوابٍ في فنون شتى . نجد أبوابا أخرى مهمة جدا موزعة بإحكام بين دفتي الكتاب مثل : باب السرقات الشعرية وأنواعها ( السلخ ، الاصطراف ، الانتحال ، الإغارة ، الغصب ، المرادفة ، الاهتدام ، الإلمام ، الاختلاس ، المواردة ) . تساعدنا أبواب أخرى من الكتاب على الإحاطة بالتراث الشعري والتَّناصِّ the intertextuality وأنواع السياق : الحديث عن منازل القمر ، الوقائع والأيام ، الأصول والنسب وغيرها .
يَهْدِفُ الكاتب من خلال هذا العمل المثير علميا إلى :
أ _ بناء نظرية شاملة للشعرية poetry مثلما نجد عند الغربيين المحدثين .
ب _ معالجة ماهية ووظيفة الإبداع والمبدع .
ج _ تحديد صناعة الشعر ، وبناء الصورة . وعملية الإيقاع الخارجي والداخلي ...
د _ رصد العلاقات السياقية والتفاعلية بين أنواع الخطابات ( شعر ، نثر ، سرديات متنوعة ...) .
ه _ ضبط موضوع السرقات والتناص وأنواع السياق .
و _ تحديد الوظيفة الجمالية للبلاغة العربية وعلاقتها بعملية الاتصال عند المتلقي .
عَاصَرَ حازم القرطاجني عدة تقلُّبات وتحالفات حصلت في بلاد الأندلس عام 609 ه / 1212م بين ملوك قسطلة وليون وأراغون ونافار والبرتغال ، وهو ما جعله يفضل الهجرة إلى شمال أفريقيا ، والتزود من علوم العربية الساطعة في تلك الربوع ...
يَنْقَسِمُ كتاب ( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ) إلى ثلاثة أقسام تهتم بصناعة الشعر وطرائقه :
_ القسم الأول : يعالج طريقة النظم والمعاني والمباني والأسلوب .
_ القسم الثاني : يبحث في حقائق المعاني وأحوالها ، وطرائق استحضارها وانتظامها في الذهن وأساليب عرضها وصور التعبير عنها ، وبيان ركائز الصناعتين الخطابية والبلاغية ، وما تحتاج إليه من أساليب وأذواق بيانية وبديعية .
تَتِمُّ في هذا القسم أيضا معالجة موضوع السياق the context بالطريقة عينها التي نجدها عند فيرث وأتباعه . يوظف حازم القرطاجني عناصر السياق من خلال عدة متون ونماذج تجسد بعض التفاعلات والانفعالات الشعرية ، كما يميز بدقة بين مدركات الذهن وتصوراته ومدركات الحسِّ ، وهو عمل علمي منهجي رصين نصادف مثيله عند الباحثين الانجليز المحدثين .
_ القسم الثالث : يشرح الكاتب فيه النظريات البلاغية وطرائق تطبيق قواعدها بالنسبة لصياغة الكلام وأفعاله التداولية speech acts التي تحقق المعاني المقصودة بناء على قصد المتكلم ، وفهم المخاطب ، والرسالة ، والأحوال المحيطة بالحدث الكلامي .
تزعَّمَ فيرث مدرسة لندن التي اهتمت بالمنهج السياقي العملي operational approach الذي يركز على الوظيفة الاجتماعية للوحدات اللغوية ، وهو ما يتردد بصورة جلية المعالم في بعض الليالي التي يضمها كتاب ( الامتاع والمؤنسة ) .
سَاهَمَ عدة باحثين مع فيرث في نشر هذا المنهج المتعلق بعلاقة المعنى بالسياق أمثال halliday ، و Mc intosh ، وSinclair ، و Mitchell . يرى فيرث أن المعنى لا يتجلى بوضوح إلا من خلال وضع الوحدات اللغوية ضمن سياقات معينة . فالوحدات الدلالية تتغير معانيها من خلال مواقعها ورُتَبِها بالنسبة لوحدات أخرى ، ولا يمكن وصفها إلاَّ من خلال ملاحظة عملية التجاور والرتبة والتوزيع بالنسبة لبعضها . إنها تترابط وتكون تابعة لبعضها من خلال أنواع السياقات والمواقف .
يَدْرُسُ حازم القرطاجني في القسم الثاني من كتابه الكلمات المؤثرة في صناعة الشعر العربي بناء على عملية نظم السياقات والمواقف التي تؤثر فيها ، حيث تتغير مبانيها ومعانيها حسب هذه السياقات والمواقف وتوزيعاتها اللغوية linguistic distribution .
يَقْتَرِحُ K.Ammer توزيعا متميزا للسياق يضم أربعة أقسام مهمة وردت عند حازم القرطاجني الذي يوظف مصطلحات مخالفة في الشكل ، لكنها تضارع عمل الباحث الإنجليزي في المضمون ، خاصة أثناء معالجته للقسم الثالث من ( منهاج البلغاء وسراج الأدباء ) . نجد في هذا المنحى :
1 _ السياق اللساني linguistic context .
2 _ السياق الثقافي cultural context .
4_ سياق الموقف situation context .
3 _ السياق العاطفي context emotional
تَتَعَدَّدُ في هذا الصدد النماذج والعينات المتعلقة بالسياق اللساني عند ابن رشيق القيرواني وحازم القرطاجني وأبي حيان التوحيدي من جهة ، وتبرز بنفس الخصائص الفكرية والمقامية عند فيرث ورفاقه من جهة أخرى . ترد بعض الكلمات العربية والانجليزية في سياقات متنوعة مثل ، حسن ٌ، طيب ، جيد ، (( زِينْ )) ، حيث يصف اللغويون العرب والانجليز من خلالها أشخاصا وأشياء ومقادير متنوعة . تعني هذه الكلمات بالنسبة للأشخاص الجانب الأخلاقي ، وقد تشير لطبيب أو أستاذ جامعي أو عامل بسيط متميز في الإنجاز والأداء ، وليس في الجانب الأخلاقي . أما بالنسبة للمقادير كالملح والزيت والدقيق وغيره ، فإنها تدل على الصفاء والنقاء والجودة .
نَجِدُ في بعض اللهجات العربية استعمالات سياقية متنوعة لكلمة ( دَمٌ : دمه فائر أو دمه يغلي ، دمه ثقيل / دمه خفيف ، يا دمك يا أخي ! برتقال بدمه ...).
تَتَنَوَّعُ أمثلة السياق اللساني عند الطرفين ، إذ نجد كلمات مثل :
_ يد الفأس : مقبضها .
_ يد الدهر : مد زمانه .
_ خلع يده : نزعها .
_ يد الريح : سلطانها .
_ عثمان طويل اليد : إذا كان سمحا .
_ سقط في يده : ندم .
_ يد الرجُلِ : جماعته وأنصاره .
_ إن بين يدي الساعة أهوالا : أي قدامها ...الخ .
يَشْتَمِلُ السياق الثقافي عند علماء العربية في المغرب الإسلامي وأعلام المدرسة الانجليزية على كلمات متعددة ترتبط استعمالاتها بالمحيط الاجتماعي والطبقات وأنواع من التراتُبِ stratification مثل : سيد ، شيخ ، وليٌّ ، وجيهٌ ، بارز / متميز ، عقيلتُه / زوجته ، نجلٌ ، صِنْوُهُ ، شقيقه ، جذْرٌ ( لها معنى يختلف بين الفلاح البسيط واللساني وعالم الرياضيات : جذر الشجرة ، جذر الكلمة ، جذر تربيعي ) ، عين ( عين دامعة ، عين بها ماء زُلاَلٌ ، نشر الحاكم عيونه في البلاد ، أعطاه أجرته عينا ) ، ضرب ( ضرب الله مثلا ، ضرب الزلزال القرية ، يضرب أخماسا في أسداس ، انطلق يضرب في البلاد ...) . إن استعمال أية كلمة من هذه الكلمات يشير عند الطرفين إلى دور الطبقة الاجتماعية المتميزة والتخصص المختلف في تحديد معانيها .
تَخْتَلِفُ طرائق صياغة المصطلحات وأشكالها بالنسبة للسياق العاطفي عند ابن رشيق وحازم القرطاجني وأبي حيان التوحيدي وفيرث وأتباعهم ، لكنها تحمل الدلالات والمقاصد ذاتها عندهم جميعا . فالكلمات العربية والانجليزية العاطفية تحدد قوة أو ضعف المشاعر والانفعالات ، إذ يتطلب الأمر تعزيزا أو مبالغة أو اعتدالا . نجد أن الكلمات التالية تتميز عن بعضها عند الطرفين من حيث القصد والدلالة النفسية : أحب ، أرغب ، أعشق ، أريد ، أكره ، أبغض ، أمقت ، أشجب ، أُدين ، أستنكر ...
يَسْتَشْهِدُ علماء العربية المذكورون وكذلك أعلام المدرسة الإنجليزية بمتون ونماذج لغوية ترتبط بالموقف الخارجي بناء على استعمالها ومقامها مثل الاستعمالين السياقيين المختلفين للفعل المضارع ( يَرْحَم ُ ) :
أ _ يَرْحَمُكَ اْللهُ : تدل على تشميت للشخص العاطس .
لا بدَّ من استهلال هذه الجملة بالفعل .
ب _ اْللهُ يَرْحَمُهُ : الترحم على شخص ميت .
ضرورة بداية هذه الجملة بالاسم .
يَخْتَلِفُ المعنى في هاتين الجملتين ، فالأولى تعني الرحمة في الدنيا ، والثانية تشير إلى الرحمة في الآخرة . يبرز لنا سياق الموقف هنا أن عملية التقديم والتأخير تؤثر في بناء المعنى ، كما أنه يرتبط في الأساس بالملامح الشخصية ، والأحداث المتصلة بالموضوع ، والحدث الكلامي .
وَاْلمُلاَحظُ أن موضوع السياق عند علماء العربية بالمغرب الإسلامي وأعلام المدرسة الانجليزية يرتبط بواقع الإنسان وعقليته وثقافته وعاداته . فالكلمات تبرز معانيها جلية عند الطرفين من خلال استعمالاتها اللغوية المتنوعة . إنها تكون غامضة بدرجة معينة كما يذكر برتراند راسل ، لكن يتم اكتشاف معناها بالتدقيق في استعمالاته من خلال الأفعال الكلامية speech acts .
نَجِدُ هذه النظرة السياقية عند ابن رشيق وحازم القرطاجني وأبي حيان التوحيدي جلية أثناء الحديث عن بعض السياقات النفسية والقرائن اللغوية ، وهو الأمر عينه الذي دافع عنه مؤخرا leech و Ullmann .
يُسَاهِمُ المنهج السياقي عند هذين العالمين في تحليل الكلمات تبعا لطريقة ورودها في الكلام المنطوق أو النص المكتوب ، وهو ما كان يركز عليه بالضبط علماء العربية منذ آلاف السنين في المغرب الإسلامي ، إذ درسوا الكلمات حسب الواقع العملي ، والمقام ، ومقتضيات الحال التي يستخلصون منها المعاني الوظيفية .
لَقَدْ قاربَ علماء العربية في المغرب الإسلامي عددا من السياقات المتعلقة بالاستعمالات الأسلوبية للكلمات الشعرية والنثرية والسردية المختلفة ، وقاموا بتحليلها والتعليق عليها وإبراز آرائهم فيها ، وهو ما يدل على وجود (( منهج تحليلي عربي )) مبكر . يذكر Ullmann الأمر ذاته في كتابه ( المعنى والأسلوب ) ، حيث يرى أنَّ هذا الموضوع يقلِّصُ من عدد الأحداث الفردية ويضبطها من خلال أحداث ثابتة وقارة .
يُمَثِّلُ المنهج السياقي عند ابن رشيق وحازم القرطاجني وأبي حيان التوحيدي عملا تحليليا متماسك المكونات والعناصر ، وكذلك هو الشأن عند ullmann رغم في الاختلاف في شكل المصطلحات ، لكن النتيجة واحدة .
يُعَدُّ أبو حيان التوحيدي أحد أقطاب الفكر الأندلسي الموسوعي ، إذ تبرز لنا موضوعات كتابه عمق النصوص ، وتنوع الثقافة ، وتقاطع النظريات الفكرية بالنسبة لأنواع السياق المذكورة .
لَقَدْ عاش هذا العالم مُعْوِزًا وعاشر أبا الوفا ؛ عالم الهندسة والإمام المشهور الذي قدَّمه إلى أبي عبد الله العارض ليصبح من أهم جلسائه وسُمَّاره . يذكر أبو حيان التوحيدي هذه القصة في ليالي السمر التي شكلت موضوع كتابه وسياقاته المتنوعة ، واللافتة للنظر.
يَحْوِي هذا العمل المتميز عدة قضايا تراثية تؤسسها سياقات كثيرة متناصَّة ( لسانية، اجتماعية ، سياقية ، بلاغية ، أسلوبية ، اتصالية ، حجاجية ) مهمة جدا.
يَعْتَمِدُ موضوع السياق في كتاب ( الإمتاع والمؤانسة ) على الظروف اللغوية الداخلية والثقافية الخارجية التي ساعدت أبا حيان التوحيدي على إنجاز عمله ، وهو ما جعله ينسج (( كونا )) universe فكريا جامعا ، وظروف إنتاج خاصة .
يُحَقِّقُ السياق عند هذا الكاتب البناء التركيبي والدلالي للنصوص المتنوعة ، حيث يحدد معاني الألفاظ ، ويحقق سلامة بنى الأقوال وصيغها اللغوية التي تخضع لقواعد اللغة العربية الفصحى . يضبط عمل هذا السياق أيضا تماسك معاني نصوص الكتاب ، وهو ما يجعله عبارة عن (( غربال )) يصفِّي مختلف التفاعلات والمواقف ومقتضيات الأحوال المتنوعة من بين كل الأبعاد المتناظرة ، كما تتجلى من خلاله أيضا الكفاية اللغوية linguistic competence المقننة للعلاقات والوظائف عند أبي حيان التوحيدي بناء على حسن استغلاله للموضوع بطرائق بيِّنة .
يُعَالِجُ كتاب ( الإمتاع والمؤانسة ) عدة وحدات لغوية سياقية وواسمات إشارية deictic مثل : هذا / ذاك ، أنا ، أنت ، الآن . تبرز عناصر السياق عن طريق:
أ _ الإحالات اللغوية المتنوعة .
ب _ ترابط نصوص الكتاب ( الليالي ) .
ج _ توظيف معلومات متنوعة عن العالم والمحيط الأندلسي .
د _ تنوع السَّبْكِ التركيبي syntactic cohesionوالحَبْكِ الدلاليsemantic coherence للجمل ووضوحها .
يَخْتَلِفُ أحمد أمين وأحمد الزين وزكي نجيب محمود بشأن عدد الليالي الواردة في كتاب ( الإمتاع والمؤانسة ) ، لكن الظاهر أنها انحصرت بين ثماني وثلاثين وأربعين ليلة . يعالج هذا الكتاب موضوعات وقضايا متنوعة كان يتمُّ طرحها في كل ليلة سمر :
_ الليلة الأولى : متعة وخصائص الحديث الجيد .
_ الليلة الثانية : شخصيات بارزة في العلم والأدب .
_ الليلة الثالثة : رجال السوء .
_ الليلة الرابعة : شخصية ابن عباد .
_ الليلة الخامسة : تتمة الحديث عن شخصية ابن عباد .
_ الليلة السادسة : خصائص الأمم .
_ الليلة السابعة : مقارنة بين علم الحساب والبلاغة .
_ الليلة الثامنة : مناقشة فلسفية بين أبي سعد السيرافي وأبي بشر بن متى بن يونس .
_ الليلة التاسعة : أوصاف صنوف الحيوان وتميزه .
_ الليلة العاشرة : بحث في خصائص الحيوان .
_ الليلة الحادية عشرة : متابعة بحث الخصائص .
_ الليلة الثانية عشرة : تتمة الخصائص .
_ الليلة الثالثة عشرة : بحث فلسفي عن النفس .
_ الليلة الرابعة عشرة : أنواع السكينة واختلاف واشتراك الأمم في الصفات.
_ الليلة الخامسة عشرة : حديث عن الممكن والواجب ، والفرق بين العقل والحس ، والمسائل اللغوية .
_ الليلة السادسة عشرة : حديث عن الجبر والقدر .
يَسْتَهِلُّ أبو حيان التوحيدي الجزء الثاني من الكتاب ابتداء بالليلة السابعة عشرة بالموضوعات التالية :
_ الكلمات التي على وزن ( تِفْعَال ٌ ) ، و( تَفْعَالٌ ) ، وإخوان الصفا ، والحيوان ...الخ .
_ الليلة الثامنة عشرة : مجون وهزل .
_ الليلة التاسعة عشرة : أقوال حكيمة .
_ الليلة العشرون : أحاديث نبوية .
_ الليلة الحادية والعشرون : الغناء والموسيقى .
_ الليلة الثانية والعشرون : فلسفة الجزئي والكلي ، ومشكلة الواحد والكثير.
_ الليلة الثالثة والعشرون : روايات عن النبي ( ص ) .
_ الليلة الرابعة والعشرون : حديث عن مواطن وطبائع الحيوان والنبات ، والروح والنفس .
_ الليلة الخامسة والعشرون : موازنة بين النظم والنثر
_ الليلة السادسة والعشرون : مجموعة أمثلة .
_ الليلة السابعة والعشرون : قصص ونوادر ، والفأل والطيرة .
_ الليلة الثامنة والعشرون : طائفة من أصحاب الطرب .
_ الليلة التاسعة والعشرون : بحوث لغوية .
_ الليلة الثلاثون : بحوث لغوية .
_ الليلة الحادية والثلاثون : كلام في الحرب والعقل والجنون .
يَبْدَأُ الجزء الثالث من الكتاب بالليلة الثانية والثلاثين التي يربطها ببقية الليلة الحادية والثلاثين ، ويتحدث فيها عن :
_ الطعام وطعمه .
_ الليلة الثالثة والثلاثون : بقية أنواع الطعام وطعمه.
_ الليلة الرابعة والثلاثون : العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
_ الليلة الخامسة والثلاثون : الجبر والاختيار ، والحب والشهوة ، والنفس والروح .
_ الليلة السادسة والثلاثون : بحوث لغوية .
_ الليلة السابعة والثلاثون : الصفات الخلقية وعناصرها المكونة .
_ الليلة الثامنة والثلاثون : نوادر وأحاديث .
_ الليلة التاسعة والثلاثون : نوادر وأحاديث .
_ الليلة الأربعون : نوادر وأحاديث .
وجوه الالتقاء والاختلاف بين علماء العربية بالمغرب الإسلامي وأعلام المدرسة الانجليزية
أولا ) وجوه الالتقاء :
_ جعل المنهج السياقي عند الطرفين معاني الكلمات سهلة وعملية بالنسبة للملاحظة والتحليل الموضوعي الذي يبتعد عن فحص الحالات العقلية الغامضة ، ويؤثر معالجتها حسب ثقافة المجتمع الذي يوظفها .
_ تقديم التحليل اللغوي حسب خصائص اللغة العربية أو الإنجليزية ، وتجاوز الجانب الرمزي والتصوري والسلوكي ، إذ درس الجانبان العلاقات الثقافية المختلفة من خلال وظائف اللغة واستعمالاتها المتنوعة .
ثانيا ) وجوه الاختلاف :
_ ربط علماء العربية اختلاف الألفاظ والمعاني باختلاف أنواع السياق ( مقتضى الحال + المقام ) .
_ غياب نظرية نظمية syntactic شاملة عند أعلام المدرسة الإنجليزية وليس كما هو الشأن عند عبد القاهر الجرجاني وابن رشيق القيرواني اللذين حاولا تقديم نواة (( نظرية للنظم )) العربي بشكل موسع . أما فيرث وأتباعه فقد اهتموا بطرح نظرية دلالية semantic فقط ، مع العلم أن المعاني تشكل مركبا محوريا في بناء العلاقات السياقية ( صوت ، صرف ، نحو ، معجم ، دلالة ) ، مثلما نجد في البلاغة العربية القديمة ، وبعض النماذج في البلاغة الحجاجية argumentative الجديدة .
_ غموض استعمال مصطلح ( السياق ) عند جون فيرث ، لكننا نجده واضح المعالم عند علماء العربية بالمغرب الإسلامي من خلال تردد بعض المرادفات المضارعة ( مقتضى الحال ) أو ( المقام ) ...
_ عدم ضبط المدرسة الانجليزية لأنواع السياق الأخرى ، وقلة النماذج والمتون والقرائن عكس ما نجده بين ثنايا مصادر النحو ، ونقد الشعر والبلاغة العربية ، وكتب تفسير الإعجاز القرآني . تستعمل اللغة الانجليزية عدة كلمات كمرادفات لبعضها كلمة night وكلمة حالك / دامس dark ، و كلمة day تستعمل في حقل معجمي مرادف لكلمة sunny . تمثل عدة كلمات إنجليزية أخرى الطبقة الاجتماعية التي توظفها مثل الفرق بين كلمة looking glass وكلمة mirror ، وكلمة rich وكلمة wealthy ، كما أن كلمتي strong و powerful فإنهما تتَّسقان مع كلمة ( argument ) ، لكنهما تختلفان من حيث السياقات الأخرى . فكلمة powerful تتَّسق مع كلمة car وstrong ) مع tea تبعا للحقول الدلالية ...
تَتَنَوَّعُ هذه الحقول الدلالية بالنسبة للكلمات والمتون عند علماء العربية المذكورين نظرا لإمكانية تركيبها مع مجموعات أخرى والاعتماد على مواقعها ورتبها المختلفة ، وهو ما يجعلنا نستبدل الكلمات العربية ببعضها فتتغير معها السياقات اللغوية والأحكام المرتبطة بها .
_ خلق بعض المتون والنماذج المرتبطة بتعدد المعاني ( المشترك اللفظي / الجناس ، الترادف ، الأضداد ، التكرار ) إشكالية كبيرة في مجال السياق عند أعلام المدرسة الانجليزية ، وهوما يحتاج إلى دراسات متخصصة لحقولها الدلالية .
_ تميز النقاد في بلاد المغرب الإسلامي بنفاذ البصيرة في الشعر ذوقا ومعرفة ، وضبطهم للقرائن المقالية المرتبطة بالزمكان عن طريق عملية السياق ( مقتضى الحال + المقام ) .
_ تنسيق أعلام المدرسة الإنجليزية الحديثة لمكونات وعناصر السياق الجامعة التي كانت معروفة عند علماء العربية من خلال مصطلحي ( مقتضى الحال والمقام ) .
_ بروز عناصر السياق عند البلاغيين والأصوليين العرب عن طريق توظيفهم لمصطلحي مقتضى الحال والمقام ، حيث ركز البلاغيون على المعيار الجمالي لمصطلح ( المقام ) ، واهتم النحاة بمصطلح ( سياق الموقف ) بالدرجة الأولى مثلما نجد عند الخليل وسيبويه والفرَّاء .