علاقة السينما بموضوعة الفقر، علائق معقدة وشائكة في السينما انطلاقا من رؤى المخرجين وتصوراتهم الفكرية وكذلك من خلال تعامل السينما مع البحث عن إيجاد صورة نمطية للفقراء بأبعاد متعددة وغنية.
فماهي ملامح الفقر في مجتمعاتنا؟ وكيف تعاملت السينما مع تيمة الفقر؟
كيف رسمت السينما صورة نمطية عن الفقر والفقراء؟
هل تغيرت الصورة الإجتماعية للفقر أم ترسخت في أشكال أخرى أكثر هشاشة وبؤسا؟
وهل غيرت السينما من صورتها النمطية للفقراء؟
كيف سلطت السينما على الجوانب الإيجابية والسلبية للفقر؟
وهل حدت السياسات والتشريعات من انتشار الفقر؟
عندما نتحدث عن الفقر في السينما، فعادة ما نشير إلى الأفلام التي تظهر موضوعة الفقر وعواقبه في مناحيه الإيجابية والسلبية. تبدو هذه الأفلام كحجة أساسية يشار إليها صراحة. منذ البدايات ظل الفقر الرفيق الملازم للإنسانية. فالفقر هو الحاجة أو الصعوبة في الحصول على بعض السلع والخدمات، ولكن ليس هذا فقط، بل حينما نتحدث عن الفقر يمكن أن نتحدث على سبيل المثال عن حالات واضحة من الظلم والعجز. فالفقر هو الشر الذي يمكن أن تجده في كل البلدان ولدى كل الأعمار والعصور لأنه يظهر مثل الولادة ( مثلا ..الأمهات اللواتي لايستطعن ولادة أطفالهن في حالة جيدة أو إطعامهن في السنوات الأولى من حياتهم.)
وظهرت رؤية الفقراء والفقر منذ بدايات السينما، ونتذكر على سبيل المثال فيلم " الأم " لماكسيم غوردي وكذا في العديد من أفلام شارلي شابلن والتي تظهر الخراب والعجز مثل فيلم " الصبي" أو "شارلي المتشرد" و" حياة الكلب". كما أنه ينتمي إلى هذه النوعية فيلم " المنسيون" والفيلم الوثائقي " أرض بلا خبز" للمخرج الإسباني لويس بانويل والذي يصور البؤس والميزريا في منطقة " هورديس" الاسبانية في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
تسلط هذه الأفلام المزيد من الضوء بوعي أفضل على مسألة الفقر. بعد ذلك سعى العديد من المخرجين إلى استعمال الفقر أيضا كحجة أو موضوعة أساسية في أفلامهم.
مع مرور الوقت، أتت أفلام جديدة لم تبرز فقط واقع هذا الشر ( الفقر) ولكن حولته إلى قاعدة للشغب والإحتجاج ضد حالات ووضعيات كانت تعتبر غير عادلة ومنصفة بشكل عام.
وقد ساعدت السينما ذات البعد الإجتماعي والمطلبي على فضح حالات الفقر والوضعيات السوسيوثقافية الهشة التي تسببت فيه، بكونه انعكاسا أكثر من ذلك وفي بعض الأحيان تحديثه بطريقة أو بأخرى للحظات سابقة من حياة معاشة في وضعية فقيرة. بعض الأفلام المقترحة أدناه على هذه التيمة أخذت هذا البعد الإجتماعي والمطلبي لتثير الانتباه إلى أفلام جيدة تبرز العواقب الوخيمة للفقر، وهي تعمم شرا على نطاق واسع وأكثر من شر يجتمع كما هو الفقر.
يمكن لهذه الأفلام التي نقدمها أنها تعرض الإهتمام بالعالم السفلي، نعرفه، ونعرف كيف هم الفقراء، وكيف يعيشون وندرك وجود هذه المشكلة التي تطرح نفسها في بعض الأحيان دون معرفة أسبابها، ويمكن أن تكون أكثر خطورة مما كنّا نعتقد، لأنه يمكن أن تؤثر على ملايين الأشخاص من الأبرياء والذين لاينتظرون معاناة النتائج اللامرئية للفقر.
فيلموغرافيته تعالج موضوعة الفقر
تعج السينما بفيلموغرافية مطولة لأفلام الفقراء، ومظاهر الفقر. ولم تخلو سينما أي بلد من إبراز وجوه وأصناف من تعاسات الفقراء وما يكابدونه للحصول على لقمة العيش. ومن بين أشهر هذه الأفلام نجد:
فيلم " المليونير المتشرد" (2008
فيلم "المليونير المتشرد" من اخراج داني بويل والنص لـ سايمون بوفوي مقتبس عن رواية للكاتب والدبلوماسي الهندي فيكاس سوارب والتي تحمل عنوان "سؤال وجواب" وذلك بعد إجراء بعض التعديلات على تفاصيل الرواية. يحكي الفيلم قصة جمال مالك، الشاب الفقير غير المتعلم الذي نشأ في الأحياء العشوائية في الهند وتحديداً في بومباي حيث يشارك جمال في النسخة الهندية من برنامج " من سيربح المليون" حيث سيدهش الجميع بإجابته على الأسئلة سؤالًا بعد سؤال. وليثير أيضًا شك مقدم البرنامج الذي لا يقف صامتًا أمام الفوز المتكرر لجمال.
فيلم " الصبي" اخراج شارلي شابلن (1924)
تدور أحداث الفيلم حول سيدة تحاول التخلص من ثمرة خطيئتها والمتثملة في طفل رضيع، وذلك بتركه داخل أحد العربات، التي تتعرض للسرقة وعندما يكتشف اللصوص وجود الطفل يقومون بإلقائه بجانب صناديق القمامة، ليجده الصعلوك بالصدفة ويحاول التخلص منه في البداية، لكن لا تطاوعه نفسه، ويقرر الاحتفاظ به، ومشاركته حياة الصعلكة، عن طريق تعليم الطفل تكسير زجاج النوافذ ليظهر هو بعد قليل كمصلح للزجاج. وهكذا يكسبان عيشهما ويطاردهما الشرطي المتشكك. وتتصاعد الدراما حتى يمرض الطفل ذات مرة ، وتحاول السلطات المحلية انتزاعه من شارلي في مشهد شديد التأثير والحزن، حتى تتسبب المصادفات في العثور على أم الطفل التي أصبحت امرأة غنية ومشهورة.
فيلم" بلاسيدو" اخراج لويس غارسيا بيرلانغا( 1961)
عشية أعياد الميلاد نظم مصنع لإنتاج العربات حملة تضامن تحت شعار :" استضف متشردا لمأدبة العشاء إلى مأدبتك! " . قبل إنجاز هذه المهمة توظف المؤسسة عاملا اسمه بلاسيدو ألونسو للقيام بهذه المهمة.
فيلم " بلاسيدو" (87 دقيقة) يطرح موضوعا اجتماعيا في قالب الكوميديا السوداء. يكشف الفيلم بعمق عن زيف نماذج بورجوازية ولباقتها المصطنعة في عهد فرنكو. في قلب هذا الزيف البورجوازي لن يكون بطل الفيلم سوى وسيطا بين الطبقتين لكن نظرة المخرج تبدو رحيمة ومتعاطفة شيئا ما مع الفقراء( مثل المرأة التي فقدت زوجها وأصبحت محاطة من قبل أشخاص أنانيين).
فيلم " ماكاريو" "Macario" اخراج : روبرت غبالدون( 1960)
ماكاريو، جزار يتخبط وسط الفقر، يعاني ويخاف من الموت، تساعده زوجته على سرقة بيبي ويذهب رفقتها وابنه لتناوله في الغابة. في هذه الأخيرة يلتقي بالتتابع مع ثلاث شخصيات ( الشيطان، الاله، الموت) وهم أيضا يرغبون في الأكل من الطبق، لكن البطل لن يشاركهم باستثناء الموت سيمنح له بعض الماء مقابل أن يمنحه الموت قوة كبيرة في معالجة الأخرين واشفائهم. بفضل هذه " القوة" سيُصبِح الجزار أكثر ثراء وغنى بسرعة كبيرة.
فيلم " أطفال محطة لينينغراد " اخراج: هانا بولاك و أندري سيلنسكي (2004)
هذا الفيلم الوثائقي الرائع من اخراج مخرجين رومانيين، يبرز عن واقع الكثير من الأطفال الروس بدون مآوى وبخاصة في محطة القطار لينينغراد بموسكو. يكشف الفيلم عن حيوات هؤلاء الأطفال وإيقاعهم وأحلامهم المنكسرة. من أجل العيش عليهم التسول، السرقة وممارسة الدعارة.
تقريبا في منطقة موسكو ثلاثين ألف طفل بلا مآوى ينامون في الأدراج وفي حاويات القمامة وفي محطات الميترو وفي الأنفاق.
يطرح الفيلم مشاهد كيف يتعايشون مع البرد القاسي في موسكو، وكذلك مع الجوع. ورغم ذلك هناك أطفال يفضلون العيش في العيش عِوَض منازلهم. ففي كل سنة يغادر مائة ألف طفل قاصر منازلهم للعيش في شوارع موسكو مما يخلق أزمة حقئقية لها.
يظهر الشريط هؤلاء الأطفال في مواجهة الموت وتعسف الشرطة وهما يعبران حياتهما بشكل مباشر أو غير مباشر كل يوم. استقبل الفيلم بحفاوة كبيرة في المهرجانات الدولية وترشح لجوائز الأوسكار عام 2004.
فيلم " ملائكة بلا سماء" اخراج : سرجيو كوربوتشي وكارلوس أريبالو ( 1957)
في العوالم السفلى لمدينة مدريد يبدأ طبيب وحلاق حركة للتضامن حيث يلامسون الكثير من وضعيات البؤس والعجز والتي يعمدان إلى إيجاد حلول لها.
يبرز الفيلم موجة حركات التضامن التي انتشرت في المدن الكبيرة وخصوصا في العوالم السفلى حيث يقطن الفقراء والمهاجرين والمشردين خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن 20م. هذه الحركات التي كانت تناضل بوعي وتدعم فكرة الحصول على الحقوق من خلال تظاهرات تطالب بحقوق المهاجرين والفقراء وتعامل الساسة معها...
فيلم " خلف جدار طويل " اخراج لوكاس دي نار (1958)
عائلة من الفلاحين تترك موطنها القروي وتنزح إلى مدينة بوينس أريوس البرازيلية حيث ستقطن بحي مهمش يدعى " شارع الحديقة" حيث يعيش سكان الحي بطريقة بائسة بدون أدنى متطلبات الحياة وبدون ماء...
هذا الشارع يخفي عن أعين باقي المجتمع عبر جدار حيث يبرز الانقسام بين عالمين، بين نوعين من الأشخاص وبين طريقتين في العيش. موضوعة الجدار تذكرنا حاليا كيف هي موجودة بأكبر المدن البرازيلية وكذلك في المدن الاسرائيلة.
إنه فيلم يساعدنا على التفكير والإقتراب كيف نبني جدرانا غير مفهمومة من أجل تقسيم أشياء لايمكن أن تكون مجزأة ومقسمة.
فيلم " الاستعمالات الألف" اخراج روبيرتو ج ريفيرا ( 1981)
يحكي فيلم "الإستعمالات الألْف " عن تجربة فلاح مكسيكي يدعى " ترانزيتو" يغادر أرضه للبحث عن الثروة في مدينة مكسيكو. في هذه المدينة عرف قسوة الواقع إلى جانب رفاقه القرويين في صورة مغايرة حينما سئل ما الذي يعرف القيام به؟
فأجاب أنه يعرف الكثير من خلال مكاتب التشغيل ومن ثمة أصبح ينادي عليه ب " الاستعمالات الألف". ووجب عليه أن يشتغل في أعمال متعددة داخل المدينة مكنته من الحصول على مورد للعيش مثل : تنظيف الزجاج، مدلك في حمام شعبي، مطفئ للنيران، عامل بــِناء إلى جانب أعمال أخرى...
يبرز الفيلم واقع المهاجرين القرويين نحو المدن ويكشف أن الحلم ليس دائما أكثر وضوحا كما نرسمه.
فيلم " القطار الأبيض" اخراج : ناويل غارسيا، شيلا خمينيس، راميرو غارسيا (2003)
حينما تطفئ أنوار مدينة بوينوس أريس يظهر قطار يسافر وحيدا في الليل، غير مرئي وخفي عن أعين الأخرين،
مع أجراس ظلال العزلة والإختلاف التي يمتلكها هؤلاء الأشباح وهم يسافرون في القطار بحثا عن قدرهم. إنها قصص صعبة كما هي قصة أنطونيو، 43 عاما الذي يقول " لم أقم بهذا العمل، فتح كيس للأزبال يَصدِم، إعادة تدويره و اختيار ما يتم اختياره، لكن هكذا أعتقد أنه للحصول على أموال كثيرة يجب سرقتها".
يبرز هذا الوثائقي واحدة من النتائج الاقتصادية الخطيرة التي خلفت الكثير من الفقراء في السنوات الأخيرة.
فيلم " نحن الفقراء" للمخرج اسماعيل رودريغيز (1948)
يحكي الفيلم عن عامل بناء متواضع اسمه " بيبي إلطورو " فعلى الرغم من فقره لايفقد تواضعه وحبه لابنته " شاشتا" وخطيبته " سيلا" . في تطور أحداث الفيلم تظهر قصص مختلفة تلتقي وتشترك في مظهر فيما بينها يبرز البؤس والمعنى أن تكون فقيرا، حيث يظهر الكثير من الأشخاص في الفيلم وكأنهم ارتكبوا خطئية لاتغتفر.
السينما والفقر: العلاقة الشائكة
غالبا ما يكون الفقراء في السينما على شكل لصوص وينتمون إلى عصابات ومافيات تفتك وتقتل بدون رحمة ولاخشية أو مرتزقة مستأجرين وتصورهم في شكل هيئات تدعو للاشمئزاز والنفور منهم خصوصا في السينما الأمريكية. إلا أن هذه الصورة النمطية عن الفقير في السينما يمكن أن نجد لها صورة مغايرة في سينما أمريكا اللاثنية والمصرية والهندية حيث يظهر الفقير بطلا لايملك أي شيء ومستعد للتضحية بكل ما يملك من أجل إسعاد الأخرين. وهكذا نجد الفقر يؤثر في جميع الأجناس ولهذا داخل حقل السينما يمكن أن نصف الفقراء حسب هذا الترتيب:
فقراء سوء الرعاية حيث يتكفل بهم في إطار حملات تضامنية لتحسين أوضاعهم المادية ومستواهم المعيشي سواء من قبل الأشخاص أو من قبل مجموعات معينة.
الصنف الثاني وهم فقراء الحضور حيث يمكنهم العيش بفضل المساعدات المقدمة لهم من قبل الدولة ومن خلال العائلات المحسنة ومن الأصدقاء وبدون هؤلاء لايمكنهم تغطية الاحتياجات الاساسية لهم من مأكل ومشرب ومسكن.
تم الصنف الثالث فأن تكون فقيرا ليس فقط الحصول على المأكل والمشرب والنوم ... بل أيضا أن يكون لك موقف مما يقع ويحدث .
وهناك فقراء نماذج في شدائد الحياة وعظائم الأمور لهم مواقف بطولية في معارك الحياة. ونجد مجموعة من الأفلام على طول عمر السينما من بينها: "الخبز الأسود"، " مدينة الله"، " نهاية اللعبة"، " فقراء على الدوام"، "14كيلومتر"، "استمع إلى أغنيتي"، " في عالم أفضل"، " أرض بلا خبز"، " أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان"، " العالم في كل لحظة"، " العرس"، "عمي خاسينتو"، " المكتشف"، " استراتيجية الحلزون"، " الله والشيطان في الأرض المشمسة"، "حيوات جافة"، " بائعة الورد"، " المنسيون"، والفيلم الوثائقي "نهاية الفقر؟".
كذلك سلطت السينما الضوء على تيمة جوهرية في هذه العلاقة الشائكة والمتمثلة في الظلم والاستبداد المسلط على الفقراء وكذا العنف المؤسساتي وتصويرهم على أنهم فقط جموح من النازحين والفقراء و مجموعات مهمشة لاحظ لها.
صورت السينما الفقير بمختلف صوره وأبعاده الاجتماعية والسياسية وتركيباته النفسية، فصورته في هيئة لص وقاطع طريق ورسمت له صورة العاشق الصبور الذي يشتغل ويكد ويجتهد لاصلاح أحواله المادية وتحسين وضعه الاجتماعي، وصورته كذلك يقظا ومنتبها ومهذباعلى عكس الصورة الأولى النمطية الاولى حيث تلتصق صورته بالأذى والشر للأخرين.
كما تجدر الإشارة أن السينما صورت الفقير في مختلف مراحل الحياة: رضيعا وطفلا وشابا ورجلا وكهلا وكذلك شبحا ومقنعا وفي هيئة شيطان وملاك على حد سواء. وقد اجتهدت السينما كثيرا في تمثل هذا الشر / الفقر على أنه قضية وجب الاستعداد لها ومكافحتها وابراز الوسائل الممكنة للحد والتخفيف منها ومحاربتها. وصورت مناطقه وجغرافيته وكذلك الحملات التضامنية والتعريف بالحالمين والمناضلين والمناصرين لقضيته. وأنه ليس قدرا محتوما وعلى أنه صنيعة بشرية يتداخل فيها السياسي والاقتصادي والصراعات بين الطبقات وأنه شر عالمي لايميز بين الأشخاص والأعمار والديانات والعرق.
ينتظر الفقراء/ المنسيون غالبا عالما أفضل ويحلمون بعوالم ومدن فضلى ويجدون ويبحثون عنها بكل ما أوتوا من عزيمة وقوة حتى وإن تاهت بهم السبل وقذفت بهم إلى عوالم يجدون أنفسهم فيها مكرهين، كل ذلك أضاءته السينما بأنوارها الكاشفة من منطلقات مختلفة بين من يتعاطف مع قضية المحرومين والفقراء وبين من يجد فيهم بلاء مسلطا وخبثا ومكرا لاينقطع وجد ضالته في الحرمان والكبت والظلم والاستبداد والقمع واستمرار الحال على ما هو عليه لدوام سلطة ومصالح أخرين.
عبدالله الساورة: كاتب وناقد سينمائي من المغرب