1 ـ حين تصبح الحكاية بابا للدخول..
تُفتح للأمكنة الأبواب.. يلجها شاهرا قلما/مفتاحا لفك مغاليق الأبواب.. باب يُسلمه لباب.. باب البيان.. باب الكلام.. إلى آخر الأبواب.. باب الغيوم.. وبه توصد الأبواب وتنغلق الحكاية لتعود إلى مهدها.. إلى سرها.. "جدتي كم أحبك"(ص188).. لتترك القارئ ـ عاشق الحكي ـ مغسولا بالطلل، من عتبة الدخول إلى موعد الخروج كاشفا سر السفر والروائح والأمكنة..
الأبواب تُفتح على الأسرار.. لا تنفتح إلا لتبسط ما بداخلها.. يقال في المثل.. "سر الدار على باب الدار ".. وسر الحكاية عند باب الحكاية.. أقصد عند مفتتحها..
2 ـ حين يصبح المكان أمكنة متعددة..
"رائحة المكان" هو في الحقيقة روائح وأمكنة متعددة، فضاءات كوشم انطبع عميقا في ذاتٍ خبرت أسرار السفر، فأصبحت تجوالا إلى ما قبل وما بعد وما سيأتي من حكي تُطرِّزه حكّاءة ماهرة تجيد فن الوشم على ذاكرة متعطشة تنفتح على العالمببطء يسمح لها بالتعلم واحتضان الفضاءات والأمكنة بروائحها وأسرارها آمالها وآلامها وحفرياتها ورجالها ونسائها.. كما تُجيد فن ترصيص الحرف على الحرف بطيئا وئيدا، ليكون للحفر عمقا لا يُشوه معالمه الأيام وذكرى كلما هبَّ على الأمكنة نسيم يعيد الحكاية إلى الواجهة وتظهر الجدة بهيبتها وجلستها الوازنة تعطي الحكي ألقه وقوته..
في البدء كان البيان وكانت الجدة سيدة البيان، حكّاءة ترصع بالكلام أسرار الحكاية.. وتفسح للمكان أن ينفتح على أمكنة جديدة تتواشج وتتناسل لتترك في البال الأثر..
الحكاية تحتاج إلى فسحة من مكان تنبسط فيه وتتمدد، لتتوسع وتتشعب وتتوالد لتؤسس المداخل والمخارج والأحداث، وتسجل الصور والنقوش، ومسارب عبور العاشقين والسائرين نحو المدى يأخذهم سحر الجمال والكمال ولغز السؤال.. كما تحتاج الحكاية إلى من يستنزل السر من الزمان الغابر الضارب في عمق الذاكرة ومجاهل النسيان، يستنزله كلمات كالنشيد يُشيّد به بنيان الحكاية مستكشفا أزمنة وفضاءات العشق وملح الكلام..
أمامك امتدت بكل فتنتها.. تنظر إلك بغنج ودلال، وقد أسلمت لك نفسها العاشقة للأسرار.. في حضرتها يحلو الكلام .. تُقبل بوجهها العامر بالفتنة فينفتح القول الذي في الصدر .. ويندلق الحبر بين الأنامل.. وتعلو الجسدحمى الكتابة فتتسرب الروائح من أمكنة وفضاءات كنبوءات عاشقة للنور.. تُفرش لكبياضها، تخطو فوقه كملاك شفاف رهيف وقور كالحقيقة ..عيونها لا تفارق عيونك وملمسها لا يفارق كفك،فتنساب الحكايات أبوابا تنفتح على مصراعيها رهيفة، قوية تلبس ألف لون ولون ..
يدك في يدها من أول الخطو إلى آخر الكلام، لتبوحبالشوق والتيه والدلال.. وتروض المعاني، وتستحضر الذي مضى والآتي والمخبوء في غيب الزمان..
المكان أمكنة تتعدد، كما الحكاية.. حكايات تتعدد.. والحكاية تروض الأمكنة، وتجعل منها مبتدءً ومنتهى، فهي الأصل والقلب والمدينة ومن مر تاركا للزمان الأثر.. وهي أيضا امتداد الفضاءات بكل تلاوينها من مبدأ الحكاية إلى منتهاها، يطرزها الكلام.. صدق الكلام.. والكلام ألسنة متعدد أصله "الجدة" حين تحكي تؤسس لمستقبلِ عاشق باحث قارئ ثائر متذوق لمعنى الكلام .. كنتَهُ ولا تزال..
والكلام صناعة الكتبة والحكَّائين.. وقليل من تحمَّل عبئه، ورصص للآتي نبوءات تحيل المستحيل ممكنا، والشك يقينا، والضعف قوة والفوضى نظاما.. فيستقيم الكلام ويصبح للغة سلطانا وصولة على العالم، فيُسمي الأشياء كي يستولي عليها، ويخرجها من غموض الميلاد إلى صورة مدركة..(ص27).
3 ـ حين تُفتح للحكاية الأبواب..
على الجدة السلام.. هي من اشعل فتيل الكلام..وملأ قلبك بالسؤال..
وإذا كان الكلام يصنع المعنى.. فإن السؤال يصنع المعرفة (ص28) ويُطيل عمر الحكاية.. والمعرفة تتشعب وتمتد لها الجذور حين ينتظم على اللسان الكلام..
والسؤال عندكسر الحكاية.. وهو إتقان وصناعة (ص29).. وهو للغَوص في الأسرار مفتاح وانفتاح على الغامض والمُلغز.. واقترابٌمن سر السماء.. وهو "شر لا بد منه"(ص29) لمن يبحث عن سر المعاني، ولمن أراد اقتحام المغامرة وفك ما استعصى من رموز الوجود..
الكلام في النص اعتراف..أن تفيق عاريا أمام مرآة نفسك (ص30) لتكون أنت المعني.. أنت المصلوب على الحرف وأنت الموقّع على الكلام بالكلام نبيا.. ناسكا.. عاديا.. قارئا.. باحثا.. واقفا على ثغور المعنى لتُحرر نفسك من ثقل ذاتك ونظرة الآخر..
والاعتراف بداية الكلام.. بداية الكتابة..
وبالحبر توقع صك اعترافاتك.. خطواتك.. أمكنتك التي احتضنتك ولازلت تحمل رائحتها، وتحمل رائحتك.. أمكنة.. ممْلكات بالحبر تبنيها وتُعلي قواعدها، وتجعل من المعاني حرزا ضد الضياع والتلاشي والنسيان..
الحبر ليل تودعه أسرارك (ص33).. ولليل أستار، وأنت باعترافاتك تجعل منه علانية .. شاهدا وعيانا يفضحه البياض الممدد أمامك والمثقل بالفضول..
الليل لديك عشق خاص.. طقوس خاصة.. به تبدأ الحكاية وتنمو عميقاتصنع الجذور.. به تؤسس أمكنتك التي تحمل بصماتك ومن رحلوا ومن بكوا، ومن ترك لقلبه غواية الاختيار وحُرقة السير نحو الجمال والكمال شاهرا اختيار الروِيّة والتأني.. لتكبر الحكاية تحرسها الجدة.. إذ هي الأمان وفُسحة الشعور بالسلام (ص 39).. وهي الأصل.. وما عداها محض كلام..
4 ـ حين تجلس الجدة على عرش الحكاية..
الجدة هي الجواب حين يداهمك السؤال.. هي الأمان والملاذ.. هي وعاء الأسرار.. هي الدرع لصد الأعداء.. هي دولتك وجيشك وإذاعتك.. شريعتها شريعتك.. وتعاويذها مدافع تدك بها حصون الشيطان.. وخرافاتها تملأ الخيال وتصقل الوجدان (ص70)..
هي فاتحة الكلام.. وشرارة اللسان.. هي أول الحروف وسر الشعلة حين أنطقتك شعرا.. لأن الشعر عندك الحب والكُره والعشق والحرب، والحياة بكل تلاوينها.. وهو مذهبك ونحلتك(ص47) تهرب إلى محرابه كلما ضاق بك الكلام.. هو نُصرتك "على الفراغ وعلى فرار المعنى الحار من بين أصابعك" (ص51) وعلى الكآبة.. و"ما أتعس العمر لولا فُسحة الشعر"(ص57)..
الشعر عندك ملح الكلام.. تسرج به المعاني وتطرّز به الصور.. تجوب على صهوته المفازات تزور أمكنة وروائح خلدها بشار والمتنبي والمعري والسابقون الأولون من العاشقين صانعي الكلام.. تنظم الفراغ وتبعث الأمل في المستحيل، كأنك الناسك في محرابه تقرأ ألواح فتنته مرتيات أو أغنيات.. شدوا أو نشيدا.. تفتح للسر الأبواب، وتنشر الأشرعة لأجمل الصور، حكايات وقصائد.. "أجمل/القصائد ما لم يُكتب" (ص60).. وأنت تبحث عن هذا الذي لم يُكتب بعد، اتُنطق ـ كما الأجداد الأولون ـ "الصمت في بيداء الكلام" (ص61)..
5 ـ حين تستلذ الهروب من مكان ضيق..
"ما ألذ الهروب من مكان ضيق" (ص75)..كان هذا إيمانك حين سارت بك الدروب أو سرتها محمولا على أجنحة من حكايا تجيد ترصيصها جدة امتلكت سر الحروف وسحر الكلام.. ليكون الهروب إلى القراءة.. إلى الكلمة..
"إقرأ".. هي البداية.. بداية الكلام.. بداية سر السماء إلى الأرض..
"إقرأ".. لتمنح للعتمة البهاء.. وتبرأ من وحشة الصمت والفراغ (ص88)..
"إقرأ".. رحلتك التي ابتدأت مذ كان الإنسان على الأرض أثرا، وعندما قرأ آدم الكلمات فأتمّهُن فامتلك السر..
القراءة عندك شغفٌوهواية.. هي النبض واتساع المدى لاكتشاف الأسرار وفك رموز النبوءات ومغاليق السؤال وتقريب المسافات..
"إقرأ".. لتسافر، بدْءً بالتنزيل مرورا بما كتب الأولون.. فالشعر، وما عُلّق في محراب الكعبة، والأغاني ورسالة الغفران والصحابة والبخلاء، والعقد الفريد والحيوان وعيون الأخبار والعمدة، وما أبدع المتنبي والآخرون.. محطات للسفر إلى أمكنة جعلتَ منها مبتدءً ليكون للمنتهى امتداد بلا ضفاف أو شطآن..
"إقرأ".. كي توقد شمعة في عتمة فراغ مجهد..
"إقرأ".. كي تهَب المعنى للأشياء وتقهر خوفك المدفون..
"إقرأ".. حتى لا يُحاصرك الغموض(ص101)..
خذ زادك معك واجعل من الكلمات بساطا يوصلك إليك، وطُف بأمكنة الذكرى، وسجّل روائحها، واكتب كي تتحرر من الكآبة(ص129)..
"أكتب، ففي الكتابة عقار روح أصابها السقم، وبلسم جرح يهتاج به الألم.. أكتب ما تراه وما لا تراه وما قد تراه ليرتفع الغموض عن الأشياء وينداح العدم"(ص129)..
الكتابة عندك سر الأسرار.. خلوة العاشقين..
أكتب فللكتابة شهوتها وسطوتها(ص136).. حُزت العالم، فاكتبما حزت وارفع القيد عن قلم ليس لك عليه سلطان من حديد(ص137).. وكن أنت السلطان حين ترفع النشيد.. وتمنح الصبح هدأته ونوره والجمال.. وتسمح للحرية أن تُزهر أياد ترسم النصر..
"أكتب".. يكفيك أنك ربحت القلم..
"أكتب بصمة لجدةٍ علمتك سر الكلام..
"جدتي .. كم أحبك.."(ص188).. تلك بصمتك..