قالوا لي عندما وصلت ، لا تخرج في الليل ، فسماء الغابة تقصف الغريب بالحجارة .و رغم ذلك لم أهتم بالأمر ،فخرجت .في أحيان كثيرة ، يجب ركوب التحدي .هذه هي عقيدتي .بعدها أقبل النتائج مهما كانت .
لم أخبر أحدا من زملائي عما أنوي القيام به .كان الجميع منكبا على لعبة الورق ،ككل مساء .. إلا ابراهيم الذي فضل ،كعادته ،أن يغرق قارئا في أعماق حروف كتاب في التصوف ،في ركن من أركان الغرفة . أسميه الإنسان الورقي ..يكاد لا يتحدث .بل يبدو في بعض الأوقات ،و كأنه شلت شفتاه و أصيب بالخرس .لكن عندما يكون في يومه ، لن تسكته رعود السماوات السبعة ..، ...يحصل له كما لو انفجر في جوفه نبع من ينابيع عيونه الباطنية ..يتحدث لك في كل شيء ، و بأدق التفاصيل. ..سألته يوما عن سر هذا الصمت الصارخ ، الذي يختاره في الكثير من الأحيان ..أو ينزل عليه كالصاعقة من السماء ..فرد علي قائلا :
"لا أختار الصمت ..،بل هو الذي يأتيني سعيدا و يختارني ، و بدوري ، أجد نفسي ملزما لمصاحبته و استضافته ..بين دواليب دمي و فمي ..إذن ، بما أنه يختارني ، عن دون باقي الناس ..فلم تريدني أن أخون ضيفي ، بالخروج عن الصمت ، لأكون عند حسن ظنك ، و توقع الآخرين معي ..؟؟".
لقد كان يتحدث و ملامح وجهه الدائري الشكل ، تكاد تقول كل شيء عن طموحه الزائد ، و عدم اقتناعه بالكيفية التي تسير بها أمور الحياة بصفة عامة ..أتفق معه في بعض أفكاره ، لكن لم يحصل أن نجح في إقناعي بحالة سكوته و لغز صمته ، الذي يبقى في نظري سؤال الجرح /البطل الإشكالي ، في مجتمع مريض ، و عبقري في نفس الوقت ..مجتمع موزع بين تسلط العصا ، و الرغبة الجامحة في الانفلات منها .
يسود في غرفتنا هدوء تام ،كما لو كان جدارا يكاد يلمس بالأيدي .فراشة ملونة تحوم حول ألسنة لهيب الشمعة الواقفة ،كالبرج ،داخل جبروت الشمعدان .عندما تنضج الثمار يجب قطفها ، قبل فوات الأوان .لهذا يجب علي ، بل وجدت نفسي مدفوعا بالضرورة لإخراج الفكرة ، فكرتي التي تدور في رأسي ، و أن أركب هذا التحدي ، الذي يرعب ساكنة هذه القرية النائية ، منذ وصلت إليها من أجل العمل .هذا شعب مغمى عليه .يتنفس ما يشبه هواء الحياة في قبره معتقدا أنه حي ، لكن ليس بينه و بين الحياة إلا الإسم و الإحسان.الشعوب الحية ترث كنوز الفعل و القول ، و ما تحت الأرض ، و هؤلاء ورثوا من أجدادهم متعة الخوف و نشوة الترديد و النقل المجاني ..للصور دون الجوهر ..لم أفهم كيف يمكن للسماء أن تقصفني ،أنا الغريب ..و الغريب فقط ..القادم من بلاد بعيدة ،و لهدف خدمة هذا الإنسان ، خاصة إذا كان من طينة الأطفال ..هل السماء ستعاقبني لأنني جئت لخدمتها..؟أسئلة محيرة ، فرضت علي أن أتخذ موقفا واضحا و حاسما من مصيري و منها أيضا . لهذا قررت أن أخرق منطق القاعدة السائد ، و أبحث عن حل لهذا اللغز المحير ، بالنزول إلى ساحة الميدان ، و أتوغل وحيدا بين أشجار النخيل الكثيفة ، لمعرفة الحقيقة ، و اكتشاف ما وراء خيوطها الخفية ،حتى و إن كان ذالك على حساب مصلحتي و وجودي كذات ..،المهم يجب أن أعرف الحقيقة ، بمواجهة هذا الكابوس غير المفهوم ، مهما كانت طبيعة النتائج ،التي ستترتب عن هذه المواجهة .
كان الليل جد كالح و بارد .ارتديت قميصي الجلدي الغامق اللون .و انتعلت حذائي الرياضي ، ثم وضعت حول رأسي و عنقي عمامتي السوداء ، التي تكاد تلازمني في جميع الأوقات.و قبل أن أخرج ، شربت من القنينة بطريقة عشوائية .انتبه إلي أحمد الذي قال : خرق للقاعدة تسعة ."يمنع الشرب من القنينة مباشرة" .أشرت له بيدي اليسرى بأنه على حق .و سأؤدي الغرامة المتفق عليها لاحقا ..عندما أعود ، ثم غادرت البيت ، بعد أن اعتقد الجميع أنني ذاهب لأنام .
تعمدت أن لا أحمل معي أي وسيلة لها علاقة بالإنارة ، حتى لا أثير الآخرين بوجودي .رغم أن السير في ظلمة كثيرة السواد أمر صعب للغاية ، في مكان ليس فيه كهرباء ..وصلت إلى قناة الماء.قلت سأغسل وجهي بهذا الماء لأول مرة .وجدته ثقيلا و دافئا .تابعت طريقي بانتباه شديد ، لكل ما يمكن أن يتحرك في محيطي .لا أكاد أسمع إلا خرير المياه الجارية ، في سواقي هذه البلدة الطبيعية الجميلة و الغارقة في نومها البدائي .أرهفت السمع أكثر .تناثرت بالقرب مني أحجار كثيفة كما لو كانت خيوطا نازلة من السماء .. .لحسن الحظ لم أصب بأذى .و قبل أن تسقط توقعت سقوطها .لأنني سمعت أصوات "خشخشة " في قمم أشجار النخيل العالي ..فقرت في استعداد الخفافيش لمهاجمة ليل القرى المجاورة . .وقبل أن أصل إلى مكان ، تغسل فيه نساء البلدة أجسادهن البيضاء ببعض الأمطار تذكرت لعبة ، فجريت بكل قوتي نحو مصدر الحركة التي لم تكن سوى حركة آدمية .و هو نفس المكان الذي أمطرني بالحجارة .و بسرعة ، بدل أن أعود أدراجي هاربا ،كما يفعل غالبا كل من وقع في فخ مصيدة الليل ، حملتني أقدامي طائرا تجاه مصدر الحجارة .قلت ..هذه الليلة ، إما أن أكن أو لا أكن ...
تصوروا ماذا وجدت ..؟؟(كان الجميع يستمع بلهفة و شهية )نساء شبه عاريات ، حاولن التستر بعباءاتهن المزركشة عندما انتبهن إلى وجودي .، بعد أن فضح أمرهن ..أما أشباه الرجال ، فقد فروا هاربين مخترقين أدغال غابة النخيل الكثيفة كالفئران .لم أتبين وجوه هؤلاء النساء .و أغلب الظن ، قد يكن من أشراف قوم هذه البلدة الشريفة .
و كأنني أعود منتصرا من ساحة حرب قديمة .لقد كنت سعيدا و مرتاحا .لأنني أصبحت شاهدا على سقوط إحدى الأقنعة المسيطرة على النفوس .قلت : لكن هل سيصدقني الآخرين عندما أخبرهم بحقيقة ما رأيت ..؟سأبدأ بإخبار زملائي في العمل أولا .و بعدها فلتسقط السماء على الأرض ..هكذا لم أتردد في الكشف أمامكم عن أسرار خيوط هذه اللعبة القديمة في مكان يبدو بريئا كهذا المكان ..
كان اليوم جميلا ، و يوم عطلة الأسبوع .في الغالب في مثل هذا اليوم ، نتفق على الذهاب إلى السوق ، من أجل قضاء أغراضنا الخاصة ، كشراء ما يلزمنا من حاجيات يومية .و في نفس الوقت، كنا نحرص على تقوية علاقتنا التفاعلية مع وسط اجتماعي و ثقافي محلي مختلف ، نعيش بين أحضانه ،نحن المدنيين ، كما يسموننا ، في هذه البلدة الصغيرة و المعزولة ،تحقيقا لعمل مشروعنا الثقافي و العلمي ، الذي بدأناه منذ سنوات ، بخصوص دراسة ملامح المجتمع القروي في جنوب المغرب .
و قبل أن نشرع في تناول الغذاء ، و نحن تحت خيمة واسعة في فضاء السوق ،بجوار العديد من الناس الآخرين ،قلت لزملائي ، موجها الكلام بالخصوص إلى أحمد ، الذي سبق أن مر من تجربة الخوف من حجارة السماء ، و مرض بسبب ذلك أسبوعا كاملا ..التزم فيها الفراش ..:
- اسمعوني جيدا ..إن حكاية حجارة السماء مجرد تلفيق و وهم ، خلقها بعض الأشخاص ، رجالا و نساء ، في هذا الدوار ، من أجل تحقيق مآربهم و أغراضهم الخاصة الدنيئة ..
بدا الجميع يستمع في انتباه شديد ، و قد أثار انتباهي شخص ،بين مجموعة من الأفراد ، الدائرين حول مائدة الشاي ..يسرق النظر و السماع ناحيتنا ..لهذا تعمدت أن أرفع شيئا ما من صوتي ..فتابعت واثقا مما أقول ..:
- كنت البارحة في غابة النخيل عند السواقي ..وقبل أن أواصل كلامي ..تدخل سعيد متسائلا ..
- و كيف نجوت ..؟؟
- رأيت كل شيء بعيني هذه التي سيأكلها الدود ..ليس هناك ثمة "جنون ، و لا شياطين ، و لا عفاريت" ..ولا أي شيء من كل الكلام الفارغ الذي يشاع بين السكان ..إنها فعلة البشر ..
- كيف ..أفصح بسرعة يا زعيم ماذا رأيت ..؟
- نساء و رجال ، في مشاهد مخلة للأخلاق ..في عراء تام ..تحت ظلال أشجار النخيل ، و تحت خيمة السماء ..(لا حظت أن مجموعة الأفراد الذين كانوا يشربون الشاي ،بالقرب من مجلسنا ،انضموا فجأة إلينا ..و بدأوا يتهامسون فيما بينهم ).
- و ماذا حصل ..عندما و جدتهم في ذلك الوضع ..؟ (أجابه زميله الجالس إلى جواره .)
- بالطبع سيهربون ..(و فاجأني جواب هذا الشخص العفوي و الصادق في فراسته ..قلت : إنه منهم و يعرف أهله أكثر من غيره: أهل مكة أدرى بشعابها ..).ثم تابعت :
- بالضبط هذا ما حصل ..لقد هرب الرجال كالسناجيب و سراويلهم في أيديهم...(قلتها بنوع من التشخيص ..في حين قهقه بعض الحاضرين..).و قال أحدهم جالسا على ركبتيه ..:
- و النساء..(قالها بنبرة ثقيلة فيها نوع من التهكم ..).أما أنا فتعمدت أن أتأخر شيئا ما في الإجابة ، حتى أعطي الفرصة لذوي الفراسة ، من أهل البلدة ، أن يجيبوا بدلا مني ...) .لكن تفاجأت ، عندما نظرت إلى الشخص ، الذي أبدا بفراسته التوقع الأول ، وجدته غارقا في تأمل كئيب ،و كأنه في حالة سهو .كلي .فقلت ..:
- تسألني عن الأفاعي .."سوق النساء سوق مطيار يا الداخل رد بالك"صدق عبد الرحمان المجذوب.نهضن ببطء تام ،و لملمن أجسادهن الطرية في عباءاتهن المزركشة ، ثم غادرن مكان السهرة ..
بعد قليل ، تجمع كل زوار خيمة السوق – كما تسمى – و شرعوا يتبادلون أطراف الحديث .قلت دوري الآن انتهى .
و في المساء ، حين عدنا أدراجنا إلى حيث نقيم ،بين أشجار النخيل .و قبل أن ندخل إلى منزلنا ،جاءنا صبي في جلبابه القصير يخبرنا بأن شيخ أكبر قبيلة في البلدة ، و المسمى مولاي علي أحمو ، يدعونا لتناول وجبة العشاء هذه الليلة...و استغربنا لهذا السلوك ، الذي صدر فجأة من شيخ هذه البلدة ، الذي عرف بتسلطه و شحه ، خاصة تجاه أمثالنا من رجال العلم .. منذ تم تأسيس أول سور للمدرسة في هذه المنطقة النائية ...
قال زملائي : هذه بادرة طيبة ، لم لا نستجيب لها ...؟؟
أما أنا فقد عارضت بقوة الإستجابة لهذه الدعوة غير البريئة ...و بالفعل ، إعتذرنا لشيخ البلدة ، في خطاب موجز ، حمله إليه رسوله الصبي..
محمد بقوح
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.