أزاحت الملاءة الهفهافة عن جسدها المشبع بالنوم و نهضت . تثاءبت وتمطت . ثم وقفت أمام المرآة تحدق في وجهها الذي لم يعد يعجبها أبدا ، هي ترغب في التخلص منه وتغييره .. فالفكرة قد اختمرت في رأسها ونضجت كما ينضج الخبز في الفرن .. على الرغم أنها في السبعين من العمر إلا أنها أسيرة الماضي البعيد .. أيام الصبا والشباب .. و المرآة تلح عليها مع كل نظرة فيها بضرورة تعديل كل شيء بجسدها وتبديله : الوجه والأنف والنهدان والبطن و الفخذان والأرداف و الأسنان و الشفتان .
باتت مصممة على إجراء عمليات التجميل لكل هذا الجسد المليء بالتجاعيد و الحفر ، والأنف الكبير الذي يلازمها و ينتصب في وسط وجهها كل هذه العقود ، فهو ضخم كأنف العجل ، و تتمنى لو بمستطاعها أن تمد يدها لتخلعه و تستبدله بأخر صغير وجميل ، لم تعد قادرة على تحمل رؤيته ، أبدا لم تعد قادرة . ولكن الأمر محفوف بالمشاكل ، فيجب إقناع زوجها ، هل سيوافق ؟ و من أين ستأتي بالنقود لإجراء عدة عمليات متتالية ؟ لكنها عجوز خبيرة في الحياة والرجال ، فلن تقف عاجزة أمام زوجها والنقود ، فقد سلحها الله بعقل نسائي فعال ، وروح امرأة .
لمّا عاد زوجها من عمله في المساء استجمعت شجاعتها و أخبرته عن رغبتها الغائرة عميقا في طيات نفسها .. فغرق في الضحك و القهقهة و اخذ يحدق بها على غير عادته ليتأكد من سلامة عقلها .. و ضحكت هي أيضا و بان كل ما في فمها من أسنان ، هي أربعة أسنان فقط آيلة للسقوط في أي وقت .
أدرك الزوج أنها جادة في طلبها . بعصبية امتدت يده إلى رأسه ونزع الكوفية ، فظهر شعر رأسه الأبيض الكثيف و الناعم مثل شعر الأرانب ، و قد احمرت عيناه المحوّلتان و برزت وجنتاه حمراوين كفلقتي طماطم . علا جهير صوته المتهدج زاعقا : عن أي عمليات جراحية تتحدثين يا شمطاء ؟
- أنها عمليات تجميل و شد لأصبح جميلة كفتاة في العشرين من العمر .
- بعد هذا العمر ! ألا تخجلين من نفسك ؟!
- الله جميل يحب الجمال .
- الجمال الطبيعي وليس المزّور .
- لكن الزمن أتى على جمالي و خربه .. و كل شيء مزّور في هذه الدنيا .
- بينك و بين القبر خطوات .. كم من السنين ستعيشين بعد اليوم . سيكون جسدك طعاما شهيا لدود الأرض الذي سيسمن بعدما يرتع بجسمك المتفسخ .
- الأعمار بيد الله .. تموت الناس ويبقى الجمال و يخّلد.
- أكيد أن وراء كل ذليل امرأة ! اطردي الفكرة من مخك ألبناتي !
كانت تكره الحديث عن الموت والمستقبل . يعشش في رأسها الماضي البعيد ، هو نصف قرن قد مضي على زواجها . ولكنها لم تيأس و أخذت تطن وتزن في الموضوع كل يوم و تستعر حمى النقاش بينهما و تحتدم المناكفات و تلعلع حادة في معظم الأحايين ، حتى قالت له ذات يوم متسائلة لإقناعه : أيهما أفضل لك و لرجولتك أن استقبلك في البيت و أنا عجوز بلا أي عرق اخضر غض في جسدي الناشف مثل سنابل القمح في موسم الحصاد ، أم استقبلك كفتاة صغيرة يانعة بضة الجسد و تشتعل بالصبا والجمال فواحة بالأنوثة الفتانة كما تفوح بالعطر أزهار الياسمين .
اقتنع زوجها بالفكرة .. أخيرا اقتنع ، بعد نقاشات مضنية ومريرة .. فحمدت العجوز الله و شكرته شكرا جزيلا . فباعت ما بحوزتها من حلي ، و باع هو دكانه و صار يشتغل بائعا جوالا في الشوارع ، و يحدث نفسه : كل شيء يهون ويرخص أمام الجمال و الرجولة و الشباب .
انتهت من كل عمليات التجميل ، لمّا رآها زوجها بعد اكتمال شكلها الجديد لم يصدق أنها زوجته أبدا ، لولا الأطباء الذين أكدوا له بالوثائق و الأوراق أنها هي هي . كل شيء بها قد تغير ، الوجه والشعر والصدر والأرداف و الشفاه و الأجفان ، حتى شعرها الناعم المسدل كان في الماضي كث كشعر الخروف . كلها على بعضها صارت جميلة لذيذة و طرية مثل شقفة الجبن الهولندي .. كأنها صبت في قالب في مصنع للدمى .
لبست العجوز الجميلة بنطلون جينز ضيق حشرت به ساقاها حشرا ، و قميص اكتظ به جسدها البض ، و نزلت إلى الشارع تمشي بدلال و تتقصع بإغراء و تتمايل ، و فمها يطرقع بالعلكة .. ها هي ذي آية في الجمال تمشي على قدمين .. لكن ظهرت مشاكل أخرى لم تكن في الحسبان.. و أبدا لم تخطر على بال .. فكلما نزلت إلى الشارع يعاكسها الشبان اليفعة و المراهقون ...
- يا سلام على الجمال الرباني .. يا رب تكون من نصيبي .
- أموت في هذا الغزال .. عين الحسود فيها عود .
- نظرة منك ترد الروح يا جميل .
- تبرعي لي بقبلة يا حلوة و ثوابك على الله .. وزعي القبلات رحمة عن روح الأموات .
- تصدقي عليّ بابتسامة .. حسنة قليلة تمنع مصائب كثيرة .. الله عاتب في انتهار السائل .
كانت تفرح في نفسها وتطرب لهذه المعاكسات ، و لكنها باتت تخشى على سمعتها و صيتها أمام الناس .. كثيرا ما كانت تقع في الحرج عندما ترافق زوجها أو أحدا من أولادها الشبان أو أحفادها الصغار .
والذي زاد الطين بله هو مجيء الشباب إلى البيت بهدف خطبتها .. كل يوم يطرق جرس الباب و يستقبل الزوج الخطّاب .. لا احد منهم يقتنع أنها زوجته .. الكل مصمم على أنها ابنته .
أمام جمالها استعر جوع الشهوة بزوجها العجوز .. كان جوعه نائما من سنين ، أوقظه جمالها بشكلها الجديد، بل هو أكثر أنواع الجوع قسوة و يهون عنه جوع المعدة . و لأجلها صار يعود إلى البيت وقت الظهيرة على غير عادته .. لكن المشكلة كبيرة .. نعم كبيرة . ليس بمقدور زوجته إشباع جوعه الذي ينهش روحه و يكوي جسده و يلهب أعماقه و يشعلها . خاصة عندما ينظر إليها نائمة بملابس خفيفة مهفهفة و يحدق في جسدها اليانع المصقول ، جسد يبرق ويلمع كأنه مرشوش بالورنيش ، و أملس مثل ورق العنب ، فيصبح كالمخبول أمام منظر كان قد نسيه من وقت طويل .. و ها هي ذي تبعده عنها كلما اقترب منها قائلة محتدة : أجننت ؟ ألا تعلم أني عجوز مثلك ؟!
- يعني أنت منظر فقط .. كالورود البلاستيكية .
- و ماذا تريد أكثر من ذلك و أنت في السبعين .
- أريد إطفاء الجوع في جسمي والظمأ في نفسي .. إني اشتعل و احترق و في قلبي بركان.
أصبح زوجها في حيرة من أمره ، كأنها صورة جميلة معلقة على الحائط ، أو تمثال لا ينفع و لا يضر .. لا . قد يضر . يا الهي ! حتى صوتها بقي كما هو لزج و متهدج لعجوز جميلة في العشرين .
لا بد من طلاقها .. نعم . طلقها أخيرا ليشبع .. صار يبحث عن الشبع كما يبحث القط عن هرة في شهر شباط . بعد بحث طويل وشاق استطاع أن يظفر بصبية .. صحيح أنها قبيحة وعورة ، لكنها صبية في ريعان الشباب و تنضح بالأنوثة و تتوهج بالصبا .. تزوجها .. و بكل جوارحه اقترن بها .
اعتقد في سريرته انه حل المشكلة . ظهرت مشاكل أخرى لا حصر لها ولم تكن في خاطره بالمرة .. هي صبية فائرة جائعة للدنيا ومتاعها ، و هي أكثر منه عطشا ، وهو عجوز ضعيف هزيل . صارت تطالبه بالطلاق كي تطفئ نيران الجوع الأعظم المشتعلة في جسدها وروحها .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.