في تلك المقهى المعزولة بين أشجار حديقة السندباد بمدينة الدارالبيضاء، جلس ليقرأ صحيفته الحزبية وهو يرتشف قهوة فاحمة السواد. تصفح العناوين دون أن يجد موضوعا واحدا يستحق القراءة. طوى إذن الصحيفة وأسلم بعد ذلك نفسه لأحلام اليقظة وسط ركام هائل من الهموم تنفجر داخل رأسه بين الفينة والأخرى لتعيده إلى التفكير في هذا الوضع المزري الذي أصبح يعيشه.
انتبه إلى حذائه الذي تقادم ولم يعد ينفع تلميعه بعد أن بدأت جوانبه تتفتق. أخذ على نفسه وعدا بأن يشتري حذاءا جديدا حين يقبض راتبه مع حلول آخر الشهر. فكر لو كان لديه بعض المال، لذهب لزيارة أحد أصدقائه بمدينة إيفران خلال العطلة الربيعية القادمة. لكنه بعد أن محص الأمور، وجد أن اقتناء الحذاء أولى من السفر. أخذ الصحيفة مجددا ليقرأ كلمة العدد. بعد دقائق معدودات رمى بها وهو يردد بصوت خافت: صحافيو آخر زمن، منتحلون لكلام الآخرين، هراء في هراء، كلام مزيف ليس إلا....
جال بنظره مجددا في الكراسي التي من حوله، لا شئ يثير الاهتمام. نهض ليتمشى وسط الأشجار تحت شمس دافئة تغري بإمضاء اليوم كله خارج البيت. لم يكن يعلم أنه سيمضي الليل واليومين الموالين أيضا خارج بيته.
في جولته هذه، سيلتقي المسماة نادية. امرأة قد يتجاوز عمرها الأربعين بقليل. يبدو رغم جمالها الطافح أنها عانس لم تتزوج قط. يحب هذا الصنف من النساء اللواتي يكبرنه سنا، لأنه يعلم أنهن أكثر عطاءا ولا شروط مسبقة لديهن، خصوصا إذا ترأءى لهن بصيص من الأمل في إمكانية الزواج منه. هو لا يكترث، يتركهن يحلمن كما يشأن. لا يقطع عليهن بصيص الأمل هذا، إنه بالمجان ولا يتطلب منه شيئا يذكر. ثم ما أن يقضي مآربه، حتى ينتصب واقفا ويولي هاربا خوفا من إحكام قبضتهن عليه.
نادية أستاذة تدرس اللغة الفرنسية بإحدى ثانويات الدارالبيضاء. دعاها لتناول مشروب بالمقهى التي غادرها قبل قليل. ترددت في البداية، ثم قبلت الدعوة والابتسامة قد علت محياها. سألها بعد أن جلسا حول طاولة معزولة في ركن المقهى:
- كيف هي أحوال العمل؟
- كل شئ في الثانوية التي أدرس فيها يدعو للبكاء والقرف.
- إلى هذا الحد ساءت أوضاع التعليم في هذا البلد؟
- مدير أمي وصل إلى كرسيه بالأقدمية، أساتذة متذمرون من رواتبهم المتآكلة، تلاميذ كثيرون محشورون في مقاعد لا تكفي. لكن دعنا من الخوض في الحديث عن العمل.
سكتت قليلا، ثم قالت وهي تبتسم دائما:
- لماذا لا تحكي نكتة؟
- نكتة عن رجال التعليم؟
- نكتة والسلام.
- لست بارعا في حكي النكت، ثم إن ذاكرة النكت لدي ضعيفة جدا. النكت لا تضحك، بل تخفي هموم هذه الأمة المغلوبة على أمرها.
- أأنت تأخذ كل الأمور هكذا بجدية؟
- بل إن جدية الأمور وخطورة الوضع الذي صرنا إليه هي التي تأسرنا وتغرقنا في مزيد من الحزن والأسى.
حدثها عن نفسه وحدثته عن نفسها. علم أنها تسكن لوحدها شقة في تلك الأحياء الجديدة المترامية بأطراف مدينة الدار البيضاء. تأكد الآن أنها أصبحت ملك يديه، فهي وحيدة تبحث عن دفئ حضور ذكوري.
عندما غادرا المقهى، اقترحت عليه أن توصله بسيارتها. لم يمانع، بل تجرأ وقال لها:
- ماذا لو دعوت نفسي للعشاء في شقتك؟
ترددت قبل أن تجيبه. غرقت وسط صمتها، فظن أن جرأته هاته أقلقتها. ربما تسرع ولم يأخذ وقته الكافي قبل الهجوم على عزلتها. فتحت باب سيارتها وجلست خلف مقودها. ظل هو مسمرا في مكانه لا يجرؤ على فتح الباب. نظرت إليه بعد أن فتحت الزجاج الأوتوماتيكي من جهته وقالت وقد عادت الابتسامة ثانية إلى شفتيها:
- ما رأيك في طبق من السمك؟
ابتسم هو الآخر، ثم فتح باب السيارة ليجلس على المقعد بجانبها. انطلقت السيارة تجوب شوارع هذه المدينة المزدحمة والمتسخة. عند نقطة الوقوف، تردد رنين السيارات لينخر طبلة أذنه. قال بانزعاج واضح:
- لماذا كل هذا الضجيج؟ أليس هناك ضوء أحمر يحتم الوقوف على الجميع؟
- لا تنسى أننا في دولة متخلفة، وقد تعلمنا أن نخاف من الشرطي، لا أن نحترم قانون السير. وبما أن الشرطي تغيب أو ذهب لتناول قهوته غير مكترث، فكل واحد سيطبق فوضويته الخاصة به.
- ما علينا، حدثيني عن نفسك أكثر.
- اسمي كما تعلم نادية، في الثانية والأربعين من عمري، عازبة لم يسبق لي أن تزوجت من قبل، مزاجية ومتقلبة كمناخ الخريف، أحب أن أملك الأشياء من حولي، سمني أنانية إن شئت. عندما أحب شخصا، أجعله يجن بي ولا أقبل أن ينشغل بشئ آخر عني...تربكك صراحتي، أليس كذلك؟ أعلم أنني مختلفة عن اللواتي عرفتهن من قبل. لكنني مع ذلك عاقلة، متزنة، حالمة، رقيقة...وفي بعض الأحيان فقط أصبح مجنونة. ألخص كل ما قلته في عبارة أحد الشعراء الفرنسيين: إن كان في الحب شئ من الجنون، ففي الجنون شئ من الرشد والحكمة .
عندما وصلا باب العمارة، ناولته المفتاح وطلبت منه أن يسرع للالتحاق بالشقة رقم 12 في الطابق الثالث دون أن يثير انتباه الجيران، فهي امرأة محترمة ولا تريد أن تتناولها الألسن بالحديث أو تشير إليها الأصابع. دخل الشقة وظل ينتظرها واقفا في الفناء لمدة ليست بالقصيرة. عندما التحقت به، أخذت تردد في شبه ارتجاف:
- أظن أن لا أحد انتبه إليك وأنت تدخل الشقة؟
- ولماذا كل هذا الخوف؟ أنت امرأة تجاوزت الأربعين من العمر ولك مركز اجتماعي محترم، من حقك أن تستقبلي من تشائين استقباله.
- أنا امرأة أعيش لوحدي يا عزيزي.
- وما الحرج في ذلك؟
- يجب أن أحترم جيراني ولا أسئ لسمعتي.
سكت لأن هذا النوع من الحديث المتخلف لا يعجبه كثيرا. عندما رأت أن وجهه علته مسحة اشمئزاز تغلفها ابتسامة صفراء، قالت له:
- انس الأمر، المهم أننا معا الآن, سأوصد النوافذ لأسعد بوجودك معي لوحدي.
اقتربت منه، أخذها بين ضلوعه وقبلها على شفتيها المرتعدتين والمبتلتين بريق عذب، ثم قال لها:
- إن لوجهك طلعة الشمس وبهاء القمر.
غرقت في صمتها، أخذتها غفوة لذيذة وهي تحلم بين ذراعيه. استفاقت بعد ذلك لتدرك أنها مستلقية على سريرها بعد أن جردت من كل ثيابها. ظل هو واقفا يرتدي ملابسه ويوجه إليها نظرات صاعقة. ابتسمت، ثم قالت بصوت خافت جدا:
- ألا يعجبك جسدي؟
- بل لا تعجبني السرعة التي أخذتها الأمور بيننا.
قامت غاضبة، مدت يدها إلى حقيبتها، أخرجت علبة السجائر وأشعلت واحدة منها. جابت الشقة وهي لا تنوي التخلص من عريها. وهي تفتح الثلاجة، سألته:
- جعة أو ويسكي؟
اهتز شدقاه بضحكة صاخبة، ورد عليها قائلا:
- كان الأولى أن نبدأ بالشرب عوض الجنس. أفضل كأس ويسكي إن لم يكن لديك مانع.
ناولته كأس ويسكي دوبل ، ثم فتحت هي قنينة جعة باردة. شغلت أسطوانة غناء شرقي وأخذت تدندن مرددة كلمات الأغنية. قبل أن تشرع في تحضير العشاء بالسمك كما وعدته، سألته بنبرة غاضبة بعض الشئ:
- ستمضي الليل هنا أم أنك ستخذلني كما فعلت قبل لحظات؟
- بالتأكيد سيدتي مادام الشراب متوفرا.
تناولا عشاءهما. كانا شبه ثملين وهما يتحدثان لملئ الصمت الذي أغرق المكان. طلب منها أن ترقص، فعلت. أخذها بين يديه وأجلسها على ركبتيه، قبلها من جديد، مرر يديه فوق كل شبر من جسدها، أخذ يعد خالات ظهرها وهو يقول:
- اسمحي لي بهذا الفضول المتوحش.
لم تجبه، دفنت رأسها في صدره وهي تتساءل في قرارة نفسها: لماذا يتحوط بهذه الهالة من الغموض؟
انتبهت وهو يقول لها:
- لي رغبة.
- إن استطعت حققتها لك.
- ماذا لو أطلي جسدك بالصلصال وأرسم عليه لوحة العشق والجنون بعد أن أغمس أقلام القصب في قنينة الخمر هذه؟
- ومن أين لنا بالصلصال يا عزيزي؟
ضحك ساخرا. تجرد من ملابسه، نهل منها كيفما شاء. جنت، ثم ماتت بين ضلوعه من شدة اللذة والألم الممتزجين. بعد ساعة من الزمن، رجعت إليها الحياة مجددا. وضعت رأسها فوق صدره، لتقول بصوت رقراق حنين:
- قل لي أنك لن تختفي أبدا من حياتي.
ابتسم، ثم شرد بفكره قليلا قبل أن يجيبها:
- وهل الديمومة أفضل من الانمحاء؟