رأيت في المنام أني أذبحه. كان جارا طيبا وصغاره ودودون للغاية، أما الزوجة فلا تظهر إلا صبيحة الأحد لنشر الغسيل. في المرات القليلة التي تقابلنا على الدرج أظهر تواضعا وأدبا جما. يسأل عن الصحة والأولاد ثم يلج شقته بسرعة كأنما يخشى مزيدا من الكلام.
تعودت على هذا الصنف من الجيران الذي يُنشئ حدودا وهمية للإبقاء على الود في نطاق ضيق، فقصص الأسر التي خرّبها تطفل الجيران ودخولهم بين الظفر واللحم عديدة. قدّرت حرصه وأبقيت على تحية خفيفة، وتهنئة بحلول العيد؛ لكن شيئا ما بداخلي كان يهمس بأن خلف جاري ذي الملامح الجنوبية قصة ستنكشف خيوطها يوما ما.
يومها مالت الشمس إلى المغيب بينما كان اللغط في شقة الجار يرتفع. تظاهرنا باللامبالاة لولا أن صراخ زوجته بأن يُعتق أحد روحها دفعنا لطرق الباب. كانت اللحظة اختبارا لأدبه الجم، غير أنه بدا هادئا كأن شيئا لم يكن. شكرنا على حرصنا واهتمامنا، ثم قال بأن الأمر شأن داخلي ولا داعي للتدخل.
-هل نتصل بالشرطة؟ سألَت زوجتي. أجبت بأن حضور الشرطة قد ينزع فتيل الحرب مؤقتا، لكنه سيكهرب علاقتنا مع الجار لأمد طويل.
- لنتريث قليلا إذن، فإن عادت إلى الصراخ مجددا فلا مناص من إحضارهم.
كانت زوجتي ممن يعتقدون أن في يد الشرطة مفاتيح لإعادة ترتيب العالم. هم في النهاية أدوات لحفظ النظام، والنظام كما تشرّبنا فلسفته منذ مقاعد الدرس الأولى، أن للعيش إطارا لا يحيد عنه: تأكل وتشرب وتنام، وإن كان هناك داع للصراخ، فلا بأس أن يحدث الأمر في حفل عرس أو على مدرجات ملعب. حين جربت الأمر احتجاجا على وضع غير إنساني، تمت مصادرة لساني، وإعادة تقويمه بما يتناسب مع فرصة أخيرة للعيش المشترك !
في الغد التقينا على الدرج. حياني دون السؤال عن الصحة والأولاد. بدت نبرة صوته محذرة من الخوض في شجار الأمس. يا لهذا البرود الذي يشلّ الإحساس كوخزة عقرب! كدت أثور في وجهه لولا بقية من كبرياء. فليذهب إلى الجحيم هو ونعجته التي لا تحسن غير العويل.
سرت هدنة مؤقتة لبضعة أيام ثم انفجر الوضع مجددا. صحونا قُبيل الفجر على وقع ارتطام للأواني بأرضية المطبخ و تبادل لشتائم لا تليق بزوجين. أبديت انزعاجي حين التقينا على الدرج، فابتسم بخبث وهو يتذرع بتسلل فأر إلى المطبخ.
- وماذا عن الشتائم ؟
- شيء طبيعي أن نشتمه قبل الإمساك به. هو أسلوب لإضعاف الروح المعنوية لخصمك!
مؤكد أني لست المقصود بهذا اللمز وإلا كان لي تصرف آخر معه. تعددت لقاءاتنا على الدرج دون أن يتقدم الحوار خطوة واحدة. تحيات متبادلة نشير خلالها بالرأس أو بالكف دون كلمات، وأحيانا أتنحنح مبديا انشغالي لأتجنب أي حديث عابر.
توالت الشتائم في أوقات متأخرة، ثم تطور الأمر إلى عراك بالأيدي. وعكس ما ادعته أم كلثوم فلم يعد لصبري حدود. توقفت دورية الشرطة مرتين أمام البناية، ثم عادت أدراجها لسبب غير معروف حتى الآن. أخبرني الحارس الليلي أنهم سألوا عن هوية الجار قبل أن يواصلوا جولتهم في الأحياء المجاورة.
امتدت يد زوجته إلى حبال غسيلنا دون استئذان. وسرعان ما تحول السطح إلى مسرح أحداث للجار وصغاره دون أي اعتبار لوجودنا. كان من اللازم إذن أن أستوقفه في الدرج مرة أخرى شاكيا، فاعتذر ببرود كعادته، ثم استدرك قائلا:
- إن الشارع خطر هذه الأيام. لعلك سمعت بما جرى في الزقاق الخلفي. قليل من الصبر إلى أن تهدأ الأحوال!
في منامي ليلتها رأيت أني أذبحه. وعلى غير العادة مع الكوابيس لم أهبّ من فراشي مذعورا، كأن النفس راغبة في التشفي. سال دم غزير كالنهر قبل أن تبلعه الأرض، ثم نبتت على المجرى حروف مبهمة. حتى فقيه الحي الذي استنجدت بتأويله مسح لحيته ثلاثا ثم حذرني من مكيدة يحيكها الجار، أو ظلم يوقعه علي.
مر أسبوع قبل أن توقفني دورية الشرطة على بعد خطوات من البناية:
- أنت فلان؟
- نعم، هل من مشكلة؟
- لا بالعكس. جارك الجديد يثني على أخلاقك، لولا بعض الانزعاج الذي بدا عليك مؤخرا.
- لكن جاري هو ..
- أجل، لدينا علم بذلك، لكن ما يجري في الخارج لا ينبغي أن يشوش على تصرفاتك. لجارك أصدقاء مهتمون براحته، ونريد أن يستمر الوضع هادئا كما كان من قبل، مفهوم؟
رفعت رأسي فلمحت خلف الستائر عيونا تسترق النظر. يبدو أن جاري هو من تولى الذبح في الواقع. طرقت الباب، وقبل أن تنطق زوجتي بكلمة قلت: تشابه أسماء! لكنها كالعادة، لا تكف عن ترتيب الوقائع بدهاء:
- وماذا عن حبال الغسيل؟
- لنترك غسيلنا إلى أن تسمح الظروف.
- تريث أم خوف؟
- بل تطبيع !