-1-
Je creuserai la terre/ Jusqu'après ma mort/ Pour couvrir ton corps/ D'or et de lumière/ Je ferai un domaine/ où l'amour sera roi/ où l'amour sera loi/ où tu seras reine/جاك بْرالْ، يرقرق صوته الفضيّ ما بين الأرض والسّماء. سماء تضيء كلّ أصابعها شموعا احتفالا بليلة الميلاد السّبعين لميسيو رينيه رجل الأعمال التونسيّ الفرنسيّ ومالك سلسلة محلاّت الأحذية وحقائب اليد النسائيّة الحاملة للماركة العالميّة: RenéBOO
ليل مصاب بأرق صيفيّ مزمن، كلّما راود غفوة عن نفسها باغته العشاق. سرير من رمل نديّ يغمّس أصابعه في بحر متهيّج على خلاف الهدوء الوقْر الذي يلبس قامة السّاعة، متضرّمٍ كحقل أحوى تركض فيه الأمواج قطيعا من الجياد البّريّة ترجّع الجوانب الصخريّة صهيلها المحموم، وتغتسل في رغوة أنفاسها الرّمال. قطعة من ساحل مسوّر بمقاطع صخريّة متفاوتة الأحجام رُصّفت بذائقة طبيعيّة ساحرة حتى الرّهبة وانشداه الحواسّ، حدّ الرّغبة في اختلاق سبب ما للبكاء الجنائزيّ علنا يفضي بنا رأسا إلى ضحك عبثيّ يغسل جراحاتنا بمحلول ملحيّ لطيف، حدّ افتعال فجيعة استثنائيّة تليق بذلك الحزن العتيق الغامض المتلألئ فينا كطبقة جوفيّة من الكوارتز تقع على حدود المدّ البحريّ للخيبة..
المشهد برمّة تناقضاته الآسرة يشكّل امتدادا طبيعيّا معدّلا فنيّا لـ "VillaRené" الفاخرة، باعتبار الدّرج الحجريّ المنحدر من الباب الخلفيّ للسّور نحو الماء. في الجانب الغربيّ من الكرة الأرضيّة، ما يناهز العشرين مليون مشاهد يتابعون الآن وهناك بالمناظير والنظارات الخاصة كسوفا للشمس يظلّل سماء هاوايْ والمكسيك وكولومبيا. في هذا الجانب الشرقيّ المعدّ لاستيلاد الدّسائس المعدّلة جينيّا، واستصلاح مياه الخيانة المالحة، مُشاهد واحد، سبعينيّ، يستلقي الآن وهنا على كرسيّه الهزاز المصنوع من خشب الزّان التّونسيّ، في شرفته المطلّة على البحر، يتابع في بثّ حيّ مباشر وعلى الهواء الصيفيّ العليل، كسوفا عاطفيّا خطيرا على وشك الحدوث..
عاشقان.
وذلك اللّقاء كان العشاء الأخير لحبّ بلغ من العمر فورة السّنة ونضوج أطفال الكروم، اجتمعا على مائدته فتناول كلاهما من كليهما فوق ما تيسّر له من الخبز الجسديّ للآخر وثماره المخبّأة في أكمامها السّريّة ومائه المعتّق، ثمّ افترقا على موعد جديد يعلم كلّ منهما حينها أنّه لن يتحقّق ثانية على المدى القصير على الأقلّ، لكننّا لا نعلم من الذي ابتدأ بخيانة صاحبه أوّلا..
حالما تقفز السّاعة عبر دائرة صفر الزّمن الناريّة ويخرج اليوم الجديد من رحم اللّيلة المتشنّجة سيتغيّر كلّ شيء. إذ لم يكن ما يجري من أحداث هذه اللّيلة، جملة صدف صغيرة متلاحقة متزامنة شكّلت النهاية على غير ما كان متوقّعا. الحقائق التي ستتكشّف يوما ما وعلى معنى "فات الميعاد"، ستُتيح لكلّ منهما أن يرى بوضوح جارح الصّفاء ما فعله بنفسه وبكلّ من سقط في مصائد العسل التي سيبرع في نسيجها عند كلّ ليل آت..
-2-
يجترّ المساء أحشاءه كلّ مساء: تناول حليمة العجوزَ "رينيه" حبّة المنوّم وتهمّ بالانصراف. يطبق قبضة يابسة على معصمها.
Ne me quitttte ppa…، صوته "جاك بْرال " يعجن في آنية صوته العميقة طينة الحزن بأصابع مغرمة متشنّجة، يملّسها بشغف وشبق ويأس حميد. ينجّد معبد الخيال بتماثيل فخّاريّة للحبّ الذي يبلغ على وشك الخيبة المتألّقة ذروة فتنته، ثمّ سرعان ما يهدمها لينشئ أخرى بلا وجوه أو تقاسيم بيّنة..
يتحلّل التّراب المشبع بماء الشّوق بين مفاصل الكلمات المضغوطة، تنشدّ الأربطة المفصليّة لهيكل الصّبر، يترنّح اللّيل الخارج من ضباب النّشوة في الفناء العاطفيّ للكون ويرتمي بكلّه في البحر. تسكن حليمة. يحمى نبضها. يسحبها رينيه إليه. تدنو في بطء حذِر. وجه حسن مورّد غضّ تشفّ بشرته الأسيلة عن أكمام الحياة المتبرعمة تحته، قبالة وجه مترهّل متغضّن مُشربا بحمرة البذخ المتغطرس. فقر فاحش يقرقر في جوف الأحلام الجائعة، ينخس أمعاء الرّغبات المستنفرة إزاء ثراء مطمئنّ كسبيكة من ذهب، واثق السّطوة لا يذكر أنّه خسر تجارة من قبل..
تسكن جانب كرسيّه الهزّاز على ركبة مثنيّة انحسر عن استدارتها المشرقة طرف فستانها الصّيفيّ، وثانية على أُهبة الانفلات. ينشب نظراته الزُّرْق ناصلة بعينيها. لا يبتسم. لا يطرف إلاّ قليلا. كلّ جسده يتكثّف في قطرة ماء تموج منفعلة مستثارة منتفضة في البركة الصغيرة للحدقة الزرقاء. ترتجف حليمة، وتستغشي برصانة كاذبة فيما تنتفش دواخلها. تُؤخذ بمسّ من رغبة نصفها نار متأجّجة مصطفقة، ونصفها طين مائع حَمِئٌ..
يخلّل رينيه شعرها بأصابع ناحلة جافّة، وخدَّ طموحها بوعود رخيّة..
تحلم..
في "دار فاطمة" قرية الشظف الواقعة شرق خريطة أحلامها شمال غرب خريطة البلاد، تتهيّأ الحياة المتروكة للجدب لاستقبال وفد الفراش المقبل قريبا على زهورها المشرقة للتوّ..
"حليمة بنت الضّاوي تتزوّج رجلا غنيّا غنى لا يصدّق.. !"
تخفق حليمة جسدا عشرينيّا فائرا مزدهرا كأرض تغادر للتوّ سباتها الشّتويّ، وجلا، متوثّبا، مغامرا، متوتّرا، مقدما، متهوّرا، محجما، متعقّلا.. لا تنفر. لا تلين. البسمة ملصقة على شفتيها كإعلان تجاريّ عن السّعادة، والعمر أرنب بريّ يرنو إلى عالم ما بعد الجحر، خارج خريطة الحاضر المربوط كدابّة إلى حاجة صاحبها..
ترى نفسها تنزل دحرجة عن ظهر الجدب وترتفع الهوينى إلى منازل الرّفاه بكعب رفيع وحقيبة يد بتوقيع RenéBOO.. يقشّر واقعُها جلده الدّبق بما يعشّش فيه من طفليّات الفقر، ويلبس أرفع أنواع الجلود المستوردة..
ستطمئنّ على مستقبل أخويها المراهقين، وتلتئم شقوق بعقبيْ أمّها، وأخرى بسقف المنزل المتداعي. ستؤمّن رزق عائلتها اليوميّ ومدى السنوات القادمة، ولن تتذمّر كثيرا من سوء تصرّفهم في مال توَفَّر لهم بلا عرق.
" لا بأس لو بعثروا المال قليلا، الثروة كثيرة والحمد لله ولزوجي. أبي..؟ هههه..
سيجدّد غراميّاته التي رثّت لفقر ذات يده، يسكن النّزل خماسية النجوم بدل تهريب وسائل متعته المختلفة عبر الحدود الشرقيّة للجزائر، وتستأنف أمّي موالها اليوميّ: "الرّجال والزّمان"، وأساور الذّهب الستّة، كما تمنّت دوما، تحفحف على حدود أصابع جرّحها قطاف ثمر الصّنوبر، ولوّنها الزيتون المجنيّ بزرقة فاقعة..
تضحك حليمة في سرّها إذ ترى في خيالها أمّها، بينما في بطحاء الحلم الخلفيّة تتّسع دائرة الحرب، ترتفع رايات وتنتكس رايات ولا أحد أو شيء ينتصر..
ستغتنين يا حليمة، ستغدين امرأة أخرى غير أنت البائسة هذه.. ستشغلين بؤرة القصّ هنااااك في "دار فاطمة"، ستغدين البطلة بامتياز المال الأجنبيّ لشهور طويلة على الأقلّ، حتى ترتّبي نقلة عائلتك هنا إلى سوسة أو إلى العاصمة عندما تستلمين إدارة أعمال زوجك بعد وفاته.. أمّك لن تجاهد ثانية في إثبات أنّ المال الذي ترسلينه إليهم حلال بانكسار باد رغم التّخفّي:
- بنتي ممرضّة في تونس. الحمد لله، تْصوِّرْ في الخيرْ والبرْكة.
- ألم تتزوّج؟
- مكتوبْها لم يجئ.
هذا الـ "رينيه" سيكون مكتوبك السّعيد، يحمله ساعي بريد الحظّ من دار إلى دار فتنقلب الأحداث خير منقلب:
- تزوّجت بنتي حليمة.
- قالوا " قاوْرِي". أستغفر الله، اللهمّ استرنا.
- صحيح. لكنّه دخل دين الإسلام. أعلن أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله أمام إمام الجامع في تونس وخُتن أيضا. الحمد لله. الآن يهنأ قلبي عليها وتخرس الألسن النتنة. من لا يقدر على أكلّ العنب يقول إنّه حصرم. هديّة الزّواج ستكون حَجّة، أزور بيت ربّي وأغسل عظامي من ذنوبها.. هكذا وعدني زوجها سي.. أظنّ أنّ اسمه الجديد هو سي بوعلي "كانْ صدّقْني ربيّ"..
لن يصدّقها الله، ولن ترى رينيه ليَعِدَها، لكنّها ستعرف كيف تؤلّف قصة عن زواج ابنتها الخرافيّ وسفرها إلى "بلاد النّاس، ذلك حال الدّنيا، والمرأة تتبع رجلها"..
هذا الزّواج سيرقّع بكارة مزّقها التمرّد على قيم مجتمعيّة كان الذي زيّنه لك أكثرهم حفاظا عليها.. أنت حتما تذكرين يا حليمة.. لا تندمين على أيّ شيء ممّا فات ولكنّك تذكرين..
ذراع رينيه اليابس تتأبّطينه سيجعلك سيّدة مجتمع راقٍ: "مدام بو" أين نضعك يا طبق الورد، وكومبا، الماسة السّوداء كما تسمّينه، في زيّ السّائق الشخصيّ الأنيق، يتعثّر في لغته الرسميّة الجديدة:
S' il vous plait madame
ينحني بلطف ليفتح لك باب سيّارة الـ "أودي" الحمراء التي طالما اشتهيتها.. دون ذلك قد تظلّين العمر الباقي امرأة الهامش والظلّ واللاّمرئيّ إلاّ من انتهازيّي الشّعارات التّحرّريّة يَلِغون في حاضرك ثمّ يستبدلونك بزوجة نقيّة الماضي..
" زوجتي امرأة لم تعرف رجلا قبلي، قال، وملائمة جدّا لعائلتي. ثمّ هي لا تمانع أن تكون ربّة بيت تكرّس عمرها لي ولأولادي.. أمّا أنت..؟ أحبّك نعم حلّومة، أنت أجمل ذكرى في حياتي.. لكنّك متحرّرة جدّا يا صغيرتي.. و.. خطيرة.. لن تحبّك أمّي."
وذهب أستاذ الفلسفة يناصر الحركات النسويّة على المنابر، وذهبتِ إلى البحر تنتحرين. أنت مدينة بالنهاية لكومبا الذي أنجاك من الغرق وأمّن لك العمل هنا، ولرينيه أيضا، فهو الذي تكفّل بتدريسك التمريض على نفقته الخاصّة ثم احتكرك لتطبيب علاّته.
ماذا تمتلكين من نفسك بعْدُ؟ وإلى أيّ حدّ أنت حليمة فعلا يا حليمة؟
رينيه قد رتّب كلّ شيء: جواز سفرك، هديّة زواجك، شهر عسلك.. ثمّ لا ورثة له، كم قد يطول عمره..؟ إنّه مشدود إلى شهقة، ستمنحينه ما يريد على وجه الكراء المؤقّت ثمّ تترمّلين شابّة بثروة طائلة وأعمال كثيرة..
يصفّر نوري خارجا. يرتجّ تحت أقدام الأوهام مسرح الخيال، تنسدل ستارة سوداء دون العرض المزهر في أفكارها. تنتبه إلى موقعها من العالم ومن رينيه نفسِه.
يصفّر نوري ثانية يستعجلها إليه بقلب يغرغر بالشّوق ووجْد ملقى في بيدر الانتظار كوْمة من سنابل ناضجة، تدرسها حوافر الرّغبات الصّاهلة وتنفشها دوّارة القلق..
تنتفض حليمة فزِعة كما لو كانت تفيق للتوّ من غيبوبة الغرق.. يقترب القمر من الشّرفة ويسكب ماء فضّته على وجه رينيه المستلقي على كرسيّه الهزاز فيضيء الشّحوب المتجعّد على تقاسيمه ويترقرق الوهن على الضّفاف الزّرق لنظراته الآسرة. تبعد وجهها عنه في حركة متوتّرة مفجوعة كمن يسترجع نفسه من لحظة سقوط حرّ. ينسخ نوري بحضوره كلّ الغدِ المحتمل خارج حضنه، ويرجّ التي كانت تعدّ في داخلها منزلها الشّخصيّ للكراء على وجه الخسارة الفادحة. يَتمّ صحْوُها قهريّا. يستلم القلب مقاليد القرار من جديد، ويعيد سريعا ترتيب أولويّاته. يحسم أمره. يتلو عليها بنود العقد الذي أمضيا عليه بقبلة ذات لقاء ليليّ كهذا:
- نكون معا فيكون العالم. سنعدّ وثيقة تعايش سلميّ بين الحبّ والفقر ونكون استثناء مدهشا، ننجب طفلا واحدا أو اثنين: مروان ومروى، حسنا ليكونوا ثلاثة كما تريدين، الثالث سمّيه أو سمّيها أنت الاسم الذي تشائين. سنتقاسم كلّ شيء داخل منزلنا الصغير، أنا أحسن الطبخ وكيّ الملابس يا حليمة، ولا أضجر من تغيير حفاظات الأطفال وتجديد أثاث الحبّ حين تضجرين.. خارج جنّتنا الصغيرة سيكون الله في عوننا على عسر الحياة، سنتدبّر حتما موردا لرزقنا بعيدا عن هنا..
تنقّي حليمة سريرتها من شبهة قطع الطريق المؤدّية إليه. يغيم رينيه. يغلبه الخدر. ترزح على كتفها ذراعه المرخيّة. تنسلّ منه. تزيّن مداخل الرّوح بما يبهج غرامها المسترخي على الرّمل، وتندفع إليه.. تقفز نطّ الرّشا الفرِح على درجات السّلم الحجريّ الواصل بين باب الفيلاّ الخلفيّ وشفة الشاطئ..
غير أنّ ذلك المساء جنح عن رتابته، وغيّر مِسْيو رينيه عاداته. طلب أن تقتصر حفلة عيد ميلاده على البعض المحيط به: ممرّضته الخاصة حليمة، جنائنيّ حديقته نوري، مدبّرة المنزل الرّوسيّة بريسكا، وحارس الفيلاّ الماليّ كومبا. رفض تناول المنوّم. تخلّى عن مراودة حليمة. وفضّل السّهر في الشرفة مؤرجحا كرسيّه في رفقة "جاك برال"..
ذاك المساء..
-2-
- حبيبتي..
- ماذا؟ صرفت نقودك بسرعة نوري؟ أرجوك كُفّ عن التّبذير. سأتولّى حقيبة الماليّة بعد الزّواج. أنت ستكون، مبدئيّا وزير الشؤون الاجتماعيّة بميزانيّة غير مستقلة. أفكّر جدّيا في التخلّي عن هذا العمل. رينيه يخيفني. كثيرا ما أشعر أنّه يحبسني دون الحاجة إلى غلق الأبواب ومتْرسة النوافذ. كلّما انفردت معه في ركن ما من منزله أشعر كأنّ ستائر مخمليّة تنسدل حولي سورا ناعما يطوّقني وأعجز عن اختراقه، صوتي نفسه يفقد قدرته على الصراخ.. لولا أنّك هاهنا دائما..
- كم تقدرين على انتظاري إذا ما غبت عنك..؟
سقطت كلماته فيها دفعة واحدة كدمعة كثيفة متحجّرة على سطح إناء به ماء ساكن. بَقْ. ارتطام عنيف ومبتور. بعده انفتحت هاوية الصّمت العميقة.
تغضّن سطح ماء الرّوح الهادئ، وتقعّر الجوف تهتزّ فيه الفقاقيع الهوائيّة متلاطمة على وشك الانفجار..
تأوّه كمان حزين عند نافذة القلب يحوّل شجن الصّوت الفرنسيّ الرّفيع إلى همّ ثقيل يغمّ اللّحظة الفرحة يوشك يخنقها. ماد سرير الرّمل من تحتها يسحبه الجزْر إلى القاع المعتم. رأت نفسها تغرق مجدّدا في البحر ولا كومبا جديد لينتشلها سوى وجه رينيه مرسوما على قماشة منطاد يرتفع على وهن الأنفاس المختنقة، ويجتاز في تؤدة مغرضة مستفزّة حدود الشفق عارضا نفسه كفرصة أخيرة للنجاة..
- حليمة.. !
شكّ مشبع برطوبة الخيبة ورذاذ الملح البحريّ الكثيف غلّف صوته فغلظت أوتاره تحشرج في فراغات الكلام، وخشنت نبرته حتى تعذّر عليه الانسياب الطبيعيّ في مجرى السّمع الذي يحبّه. في نهاية النّفق السّمعيّ كان صوت آخر عميق الحزن يتساءل فيها ولها وبدلا عنها، فيكاد ماء الكدر المنسكب على البلاط السمعيّ يسحب معه إلى مجاري النّسيان كلّ كلامه العذب، كلّ صوته المحبّب..
"مينْ أنا عايزْ أعرَفْ مينْ أنا؟ ليهْ أنا عايزْ أعرَفْ؟ ليهْ أنا؟"
كتفت يديها في شدّة، جمعت إليها ركبتيها منطوية على نفسها مغلقة كلّ منافذه إليها. خطر لها أن تمشي وحيدة في خطّ أفقيّ مستقيم حتى تهوي في الظلام المائع، ثمّ علّقت بصرها على جدار اللّيل القاتم. يضرب الماءُ الصّخر من حولها ولا يبلّل جزءا من قلبها الذي اندلعت حرائقه للتوّ.. القمر صار خلفهما مباشرة يسلّط عينيه عليهما. اِجتازت السّاعة الليليّة المتوتّرة حدود اليوم الجديد ببضع دقائق وقلق كثير. أنهت بريسْكا حزم حقائب السّفر. أوقف رينيه جاك برال عن الغناء. تناول شطر حبّة المنوّم، وقام للنّوم مخلّفا أزيز مفاصل الكرسيّ خلفيّةً موسيقيّة للمشهد الخارجيّ.
- هل تبشّرني بالغدر يا نوري؟
سمعت صوته يغرورق. لم تُولِ وجهه المعشوق نظرتها المولعة به. غدت في اللّحظة المنسحبة من دائرة الضوء القمريّة جملة أسئلة فُصلت قسرا عن أجوبتها وهاجرت منفيّة هاربة من أوطانها الدامية تبحث عن أمنها المتعذّر في مكان آخر قاس ومجهول..
- أغدر بنفسي إذا غدرت بك حليمة. نحن لا نعثر على أنفسنا في كلّ مكان ومع أيّ شخص. قلةّ هي الأماكن التي تساوي وطنا، ندرة هم الأشخاص الذين يشكّلون وثيقة هويّة تدعم أوراق الثبوتيّة التي نستخرجها من دوائر الوطن الرّسميّة، وأحدهم فقط يلقي بشطر جذعه الأعلى على شفير الهاوية ليشدّ ذراعيك عند انحدارك نحو التلاشي. تركت كلّ شيء خلفي. لا أعرف إن كنت أُجبرت فعلا على فعل ذلك أم لا، بيد أنّي كالذي أحرق مركبه الأخير للعودة، حتى حقّ التلفّت لاختلاس الحنين صار ممنوعا عنّي. ربّما لم يَحِن الوقت بعد لأخبرك عنّي أكثر، لكن..
أنا الآن أحبّك جدّا وأبدا يا حليمة، وهذه مجرّد "إذا ما.." ، لا غير.. حسنا، انتظري، سأعطيك كنزي السّرّي وعْدا منّي بالعودة إليك مهما قد يطول غيابي عنك وإن في الرّمق الأخير من العمر، أعود لأسْلم الرّوح في حضنك، لو كنت متزوّجة حينها سأتمدّد على عتبة دارك ملتحفا بلافتة كتب عليها بالبنط العريض:
متسوّل مات جوعا للحياة على باب الكرام.
أعدك، حليمة.. خذي، هذا منديل أمّي.. تشمّين رائحتها صحيح؟ لم يُغسل منذ سنة، تركت فيه عرقها مضمّخا بالنّفة والدّمع وطشيش لعابها إذا تكلّمت في غضب أو ضحكت حتى بكت.. كانت تصُرّ فيه نقودها وتربطه هكذا ( ينهض نطّ طفل مبتهج. يخرج من جيبه مصباحه اليدويّ الصغير ويروح مفتّشا عن صدفات، يجمعها، ينفض عنها ما علق بها من رمل. يجثو على ركبتيه قبالتها. يضع الصّدفات في المنديل ويعقد أطرافه عقدتيْن) وتضعه هنا ( مشيرا إلى ما تحت صداره)، صدرها كان بنكا من ثروات طائلة ومال قليل يكفي كلّ حاجاتنا ويفيض.. صدرها رحب كصدرك حليمة يسع تبعثري، غنيّ يؤمّن طعام قلبي الشّره وروحي الظّمأى على الدّوام..
- مرّ ما يناهز السّنة على تعارفنا هاهنا ولم نتبادل حديثا جديّا عن أنفسنا التي ولدت خارج هذا المكان. هل لاحظت ذلك نوري؟ كان بيننا اتفاق سريّ على أن يصمت كل منّا عن ماضيه وننظر معا نحو الأمام. هل تعرف سبب تسمية قرية "دار فاطمة" بهذا الاسم..؟ في جانب من تلك القرية حيث سقط رأسي ذات ليلة ليلاء لا تتعارك فيها الكلاب لشدّة قرّها ورياحها كما روت أمّي، توجد منطقة تسمّى قديما "بلاّعة العرايس". ويحكى أنّ عروسا فاتنة الحسن تدعى فاطمة كانت داخل الهودج تترنّح شوقا على خبب خطى الموكب والأهازيج، عند منتصف المسافة، عبر الموكب منبسطا من أرض طينيّة مثخنة ذات تربة دوباليّة موحلة جدّا وذات نسبة عالية من الحموضة، لسوء حظّ العروس، غرق الهودج ومن معه، ومات الجميع اختناقا. لا شكّ ماتت عرائس كثيرة قبل فاطمة هناك وابتلع الوحل هوادج عدّة، وحدها فاطمة اخترقت قانون الموت وخلّدت اسمها في قصّة تُروى جيلا عن جيل. قصّة مأساة وقع تدجينها لتصير هويّة اسميّة لقرية منسيّة لم تنقطع عن ابتلاع العرائس وفرسان أحلامهنّ. أنا لا أحبّ أن أعود مجدّدا إلى "بلاّعة العرايس" نوري، لن أكون عروسا أخرى تندفن تحت الطين الموحل، فإن كان لا بدّ لك من أن تغيب فلا تفرط، سيصير العمر حينها قاعة مسدلة الأستار والأحلام لانتظارك. لا يعدك الجسد بشيء حبيبي. الأماكن المهجورة يعمرها الجِنّة والشياطين..
- أعرف..
- وأنت؟
استعاد كفّها الهاربة منه، قبّلها، أودعها المنديل المعقود على الصّدفات وأطبقها عليه.
- لا تعرفين..
كان وجهه المشتاق يفتح كلّ حواسّه على وجهها، وكانت عين القلب تراه يبتعد بينما قيد ما خفيّ وحديديّ يغلّ يديها عن شدّه إليها.
مينْ أنا؟ / تتُوهْ عِينَيَّ حَواليَّ تِشوفْ الدِّنيا مِشْ هِيّ/ وتِتْلوِّنْ بأحزاني ويِبْقى لُونْها لُونْ تاني/ لا شايِفْ ضَيْ مع فجري ولا بسمة فْ طريقْ عُمري/ مينْ أنا عايز أعرفْ..
ينشج العندليب في صدرها وتعالج شفتاها قفل الكلام الذي أغلق على نفسه باب البوح..
- ما الذي لا أعرفه نوري..؟
- أنّي.. نْموتْ عْليكْ.. وأنّ "غير أنّ" المجرمة تهدّدني وتضع نصلها الحامي على الوريد..
إذن- vient m'embrasser /Avant de t'en aller ce soir/ vient m'embrasser/ On ne va plus se voir/ mais on est pas fâché/ vient m'embrasser/
رقرق لنفسه ما تبقّى من قارورة أجرى معينها نهر الرّغبة بين فكّيه فانتشى البريق في مقلتيه، وتأنّق خدّ الخواطر المتجهّمة. تفاصيله تضجّ بالنّداء. رعشة الوله تنمل على أنامله. بنود العقد الاجتماعي الذي أمضيا عليه بالقبل والوعود يتحلّل في ماء البحر. القمر الذي كان يتأهّب للأفول يبيضّ أكثر. الحبّ يتألّق تورّدا في ذروة خسارته. حلوى ابتسامته تنثر سكّرها على شفتيه، على ساحل سِنّه العاجيّ. اليوم الجديد يرتّب أحداثه الجديدة في حقائب السفر. الشّهوات مجتمعة متنافرة تتبرّج مفعمة بإغراء عات.
حليمة..
تتشتّت. يحضر هو وكومبا ورينيه في الوقت نفسه وعلى هيئة الرّجاء نفسها. تتشابه منازل العمر القادمة، تصير جميعها مهارب غير آمنة تماما، ولا دائمة القرار: هنا بتونس، أو هناك بفرنسا أو بعيدا جدّا بمالي..
تقف الذات على عتبة الحالة، الرّغبة بالداخل تتبرّج لأجلها والقلق خارجا يلمّع لها حذاء الرّحيل.
يَلْأَمُ نوري نثرَها بالغزل، ويغلق عليها باب الضلوع بقفل الحبّ ليجنّ في ضمّها حتى كأنّهما حرف مضاعف لم يفكّكه الصّرف..