لم يكن تواجدي في ذلك المساء البعيد صدفة عابرة،كنت عازماً على تشييعه ومصراً عليه،لذلك لم أعدل عن قراري ولم أخضع لرغبات الصحب بالعدول بعد أن آلمني كثيراً مشهد تشييعه اليتيم الى مثواه الأخير،أربعة رجال يحملون على كواهلهم الضعيفة نعشا خشبيا بلا سقف،جوانبه البالية تلطخها خربشات باهتة وكتابات قديمة لم تفلح عيناي في قراءة محتواها الغامض،يمضون به مسرعين عبر شارع خاوٍ من الناس،يتسابقون للوصول الى مقبرة ليس على مشارفها الجرداء أي أثر لقبر أو لشاهدة قبر،ليس سوى حفرة تفغر فمها الأسود في وجه السماء،يتوقف المشيعون عندها ويطرحون التابوت على الأرض،تمتد كفا الحفار الغليظتان الى الجوف الخشبي المفتوح،حيث رأس الميت المقطوع ينام مستسلماً في بركة الدم المتخثرة،تنتزعانه من لزوجتها فيتصاعد بخار الدم الأرجواني،مخلفاً وراءه جسداً نحيفاً تستره أسمال قديمة بالية،يراقب الرجال الرأس المقطوع ويحزنهم إنكسار الوجه المستسلم بوداعة بين يديّ الحفار القبيح،تعتريهم الشفقة عليه وتسري عدوى الأنكسار الى إفئدتهم القاسية،تتراخى مشاعرهم الصلبة وتتندى عواطفهم اليابسة،حتى يعيدها الى ما كانت عليه صوت الحفار المشروخ :
هيا ! إحملوا هذا القواد !
تتشابك أياديهم الكثيرة على الجثة الناقصة ويسلخونها من قاع التابوت بقسوة،يوارون جثمانه الثرى بلا تلقين،يكتفون بقراءة الفاتحة على روحه الحائرة ثم يتلاشون منفرطين كل ٌ في إتجاه.
الكل يعرفه في المدينة الصغيرة،داره البسيطة المنحسرة في قلب أقدم الأزقة،تشع بشهوات رجال تذوقوا على يديه طعم اللذة الأولى،من مواعظه الشّبقة اكتسبوا مهارات خارقة رسخت فحولتهم المستعرة في أصقاع المنافي الباردة،حتى أمسى بيته الصغير مع تعاقب الأيام ملاذا جنسياً لصغار المراهقين ولكبار الرجال الطاعنيّن،ينشرون على بلاطه المغمور بدبق الشهوة الأبيض غسيل أحلامهم،يتأملهم بحسرة ويؤّمِن من أجلهم أجمل النساء،يدعوهم بأدب جم الى وليمته الدسمّة،يفتح الأبواب ويوصدها ويصغي لفحيح الجماع الموجع في الغرف المقفلة،يتناهى إليه من بعيد دعاء امرأته القابعة مع ابنتها في الغرفة المهملة في مؤخرة البيت أو الماخور ولافرق، تصله كلماتها الرحيمة وتوخز قلبه العاصي بسهام التوبة الحارقة،يطأطئ رأسه ويسير عبر الرواق الى الباحة الخلفية،يصل الى غرفتها الطاهرة ويتنصت عبر بابها الموصود الى أدعيتها،تغمره الترانيم الحزينة بالحزن وتدفعه ليدفع الباب،يدفعه ويراها بين يديّ الله جاثية على سجادتها القديمة،ترفع رأسها الى الأعلى وعيناها تترقرقان بالدمع على مآله الوضيع،يزلزله حالها المهيب فينتزع جسده من فضاء الغرفة الممغنط بالأدعية ويعدو الى الوراء،يرى في ألق أمسه البعيد طفولته الممرغة بالشقاء،يسمع صوت أباه الأجش يدوّي عالياً في صحارى نفسه الشاسعة:
يا ابن القحبة ؟
تتصادى الكلمة في رأسه ويتذكرها جيداً،أمه الرقيقة بوجهها الجميل تروي له في مساءات غابرة عن حكايات العشق العقيمة،عن فارس ملثم مجهول يجئ ممتطياً مهرته البيضاء الرشيقة،يومض كالبرق الساطع في حياتها ثم يغيب،مخلفاً وراءه غيوم الانتظار وصهيل الأسى، لم تساعده ذاكرته البريئة على إدراك المعنى من حكاية الفارس المجهول،لم تسعفه سنه الصغيرة على إدراك أوجاع أمه العاشقة،لم تمسّه سياخ شوقها اللاسعة،لم تلسعه أشواك حسراتها اللاهبة، كان يدرك بغريزته الصافية خواء خزانة قلبها الرقيق من الرجال إلا منه،حتى حلَّ غيابها المفاجئ في فجر ذلك اليوم البعيد،غياب لم تعتقد به ذاكرته قط،على أنه يقيناً كان غياباً،لكنه كان غياباً حقيقياً لطخ فيما بعد رأس أبيه بالعار!
منذ ذلك الوقت وخطى الأب المثقلة بالخزي ما أنفكت تبحث عنها في المواخير،تتلصّص عبر الأبواب المواربة على الوجوه والأجساد العارية،تتاَبعُ ضوع الروائح المأفونة في الأروقة الموبؤة،تتسلل الروائح الغريبة الى باطن الأبن المتتبع أباه في المواخير،توقظ مشاعره السابتة وتدعوه ليفتح لها مغاليق جسده السرية،يفتحها فتتلاطم الصور العارية في خزانات رأسه الصغيرة،تنضّد نفسها لتستحيل الى إيقونات عاهرة،تلطخ وجه حياته القادمة بالدعارة،دعارة تفيض بشهوات طافحة تطفو وتجري مع جريان دمه البرئ،تعرّش في كل خلية من جسده الطري،تصرعه برعشات ينتبه لها الأب المكسور ويبكي من أجلها،يصحو الأبن على بكاء أبيه المفجوع وينهض،يمدّ كفيه الصغيرتين الى العينين المترقرقتين بالدمع ويسأل:
لماذا ؟
يغيب صدى السؤال وتتلاشى صورة الأب الغائب في الفضاء المأفون، يوصد الباب على الزوجة الساجدة ويتركها وراءه في سكينة التضرع،يخطو نحو الباحة الضاجّة بطوابير الرجال الهائجة،يتملى إنتظار الملامح المصطلية بنار الشهوة الحارقة،يتابع ولوجهم المرتبك الى الغرف الملوثة بالعراء،تتناهى له من داخلها تأوهات النساء الجائعة وهي تتراجع تحت الصرير الشره للرجال،تغيب التأوهات مع غياب الرجال بالتدريج حتى تتلاشى ويتلاشى بعدها كل شئ، يسود السكون المكان ويطبق حتى يبزغنّ العاهرات كالشموس المنطفئة من الجحور الرطبة،يمضينّ بتثاقل منهوكات مما علق فيهنّ من روائح الرجال المالحة،يتكدسنّ نافضات عن أجسادهنّ الأسمال الدبِقة ويشرعنَّ بالاغتسال أمامه، يتسامى وشيش الماء المدوّي ممزوجاً مع قهقهاتهنَّ الصاخبة الى رأسه كالحرب.
الآمر يطلبك ؟
ترى عيناه الخائفتان الجبهة المتحالفة مع الموت تغلي وتفور،يرى في مراجلها أجساد الجند المنصهرة،يبحث عن منفذ للنجاة فيرشده الجميع الى الآمر،يرى في الآمر الملاذ من الهلاك الوشيك،يستعرض رغبته بلا حياء ويعلنها جهراً أمام الجميع:
أنا قواد !
لم يكترث الجند لإعلانه الجرئ وكذلك الضباط،لكن الآمر المكترث أسبغ عليه المناصب المهمة ليحصّنه من الموت القادم،ضمّه الى حمايته الخاصة وأمرهم بأن يرتهنوا لأوامره،سيّده على الجند المغلوبين وولاه على أمرهم،إستاء الضباط من ظهور الخصم الرخيص واعتبروه عاراً على الجندية، أما المراسلين المتذمرين من حضوره الشديد،فشرعوا مع ضباطهم في حبك المؤامرات ضده،كانت الدسائس الخطيرة تُحبك وتنتهي خاسرة بين يديه،كان ينتصر في الحرب فيما الجميع كان يخسر فيها،راقه الحال الذي لم يكلفه سوى تأمين النساء للآمر في الأجازات الدورية،دفعه وضعه الجديد لينبّش في باطنه الأبيض عن الخير،راعه الخير الوفير فشرع في مساعدة الجند المحتاجين،تناهى في خدمتهم حتى ذاع صيته عالياً ليصل الجند والضباط والقادة،أنشطر الجميع في تصنيفه الى شيطان وآخرون الى ملاك،أحبه البعض وبغضّه البعض الآخر،لم يوّلِ أدنى إهتمام للّغط الدائر حوله،حتى تشظّت تداعياته بالحرب في الهواء،حينما همست في أذنه إحدى عاهراته المكتنزات :
إلامَ تنظر ؟
كانت عيناه تنظران الى الرغوات الساحرة تسيل مع الماء على الجلود الملساء،تشدّه المؤخرات البدينة بتكوراتها المثيرة،تسحقه الأثداء الناعمة،يأوي الى المرحاض ويقعي مثل كلب مجروح،يرفع رأسه الى الأعلى ويعوي :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه !
يثير عواؤه العاهرات فينفرطنّ من حوله الى بيوتهنّ،مهرولات تلاحقهنّ أشباح تسللت في غفلة الى حياتهن الصاخبة،تسوره المخاوف ويتشمم رائحة الحرب ويألف نفسه ثانية منحشراً في ماكنة وحشية تدور رحاها في جبهات النفوس،تطحن على مرأى منه رؤوس الجميع بلا رحمة،تنزع عن الحياة أنوارها وتحيل المدينة الى قبركبير،يجتاحه الرعب ويرى في زوجته العابدة الملاذ،يدفع الباب ويوجعه خواء الغرفة المخيف،يدرك بغريزته حلول غيابها الأبدي،يألف نفسه منفرداً إلا من ذكريات تمرغه بالشقاء،يهرب منها صوب المدينة الملتهبة،ترى عيناه الحزينتان رواد الأمس وقد احالتهم الفتنة الى جثث مبعثرة الأشلاء،يروعه المآل المخيف للأنسان ويلج الأزقة الضيقة محتمياً بعتمتها،يبحث في أروقتها عمن يأويه،يطرق الأبواب ولا أحد يفتح له،الكل ينبذه الكل يلفظه الكل ٍيدعو الى قتله،ٍيعود محتمياً بالجدران الى بيته الفارغ،ينتصب أمام بابه الموارب ويصغي لأصوات تتعالى بالتدريج،يحني رأسه على الجدار فتتناهي إليه الأصوات قريبة،إمرأته تترنم حنجرتها الرقيقة بأدعية هادئة يقطعها وابل من الرصاص الكثيف،عاهراته يصدحّن بقهقهات تخرسها تكبيرات الموت،دربكات لخطى مرتبكة على إثرها تنتشر مسوخ مقنّعة على سطح بيته،يلجمه الخوف من القتلة ويحاول الصراخ ولايقوى، تتراخى ساقاه ويهوي جسده المرتعش من الرعب الى الخلف، يتحلق حوله المقنعون شاهرين بوجهه خناجرهم المنقوعة بدم الأبرياء،يتبين عيونهم الغاضبة ويعرفهم جيداً،إنهم رواد أمسه الجميل وقد استحالوا الى قاتلين،يسلم لهم جسده اليائس ويصغي لوشيش هادر يتفجر من أوداج رقبته المذبوح،تغمره برودة لذيذة تسري في جسده رغم حرارة الدم المنساب من راسه المقطوع،يغمض عينيه الحائرتين ويفتحهما ليرى رؤوساً كثيرة ترفرف بأجنحة بيضاء وهي تعرج بصمت نحو سماء حمراء.