كان افتتاح عيادة الدكتور صفوان النَّفسيَّة حدثا هامَّا، وضرورة مُلحَّة، فالحرب أكلتِ الأخضر واليابس.
أدمى الحزن قلوب المساكين، كثر المُتسوِّلون، شاعتِ السَّرقة، وتسيَّد الفاسدون.
انتشرتِ أدواء الرُّوح بشكل رهيب، عمَّ القلقُ القلوب، وسكن الخوفُ النُّفوس.
توتَّر الشَّعب، انفصم البعض، وتغلَّب الفرح المفرط على آخرين، دون سبب وجيه.
تجاوزتِ السَّاعةُ التَّاسعة صباحا بقليل، استقبل الطبيب مريضَه الأوَّل، استلقى على أريكة الفحص، وعرض معاناته:
- تصوَّر يا طبيب، أنا أعمل طالب مساعدة، مُرخَّص لي بالعمل من البلديَّة.
أجني يوميا عشرة آلاف ليرة تقريبا، أدفع منها ألف ليرة ضريبة، بينما يحصل المُتسوِّل غير المُرخَّص على ضعفي دخلي، ولا يدفع قرشا واحدا للخزينة .
أكاد أُجَنُّ، أشعر بغبن كبير، فارقني النوم، يداي ترتعشان بشدَّة، وأنا أمدُّهما للمحسنين.
قاطعه حكيم النَّفس:
- لا تقلق، حلُّ مشكلتك عندي.
انذهل الشَّحَّاذُ المسكين، حين أتبع الطَّبيبُ كلامَه المطمئن بصفعة قويَّة، تركت أثرها الفوريَّ على وجهه، وخرج، لا يلوي على شيء.
طلب الدكتور إدخال المريض التَّالي.
كان القادم مختلفا تماما عن سابقه، لباسٌ رسميٌّ، وعطرٌ فوَّاح، استمع إليه الطَّبيب بتركيز كامل.
- عملت مديرا عامَّا، أزيَدَ من عشرين عاما، جاءت لجنة تفتيش لعينة، صادفت نقصا في الخزينة، لا يتجاوز ثلاثين مليون ليرة، لم ينتظروا نهاية العام لجرد أموال المؤسَّسة، وأصدروا توصية بطردي من منصبي.
- هل واجهتَ القضاء، أو ذقتَ الحبسَ؟
- لا يا رجل، ليس لهذه الدرجة!
- ماهي مشكلتك إذن؟
- لقد سحبوا مني كُلَّ سياراتي، وأحالوني للتَّقاعد المبكر، وأنا لا أتحمَّل نظراتِ النَّاس إليَّ، وقولهم أنِّي لصٌّ!
لم يكملِ المدير المطرود حرف الصَّاد المُشدَّد، حتى عاجله الطَّبيب بلطمةٍ ارتجَّت لها أطراف المكان، ووجهه الكبير المُتهدِّل.
صدم تصرُّف الطَّبيب المديرَ السَّابق، لكنَّ الدكتور صفوان أجابه بهدوء الواثق:
- هذه أول جلسة علاج، قد نحتاج لغيرها، راجعني بعد أسبوعين.
رحل المناضلُ القديمُ مذهولا، لم ينطق بأيِّ كلمة.
بعد استراحةٍ قصيرة، وكوبٍ من الشَّاي، أدخلتِ السُّكرتيرةُ مريضا جديدا.
رجل تجاوز السَّبعين عاما، سلَّم على الطَّبيب، اتَّكأ على سرير الفحص، قال دون مقدمات:
- يا دكتور، بالله عليك، ما تصنع لو كنت مكاني، جمعتُ ثروة كبيرة من تعبي، وعرق جبيني، يريد أولادي الاستيلاء عليها، أنا محتار، المال يفسد؟!
يا حكيم، لا أحد منهم يكلمني، أو ينظر إليَّ، كلُّ هذا لأنِّي تبرعت بنصف ثروتي لجمعيةٍ للكلاب الضَّالة!
قلت لهم "ضعوا أنفسكم مكان هذه الحيوانات المسكينة، كيف ستعيشون؟!"
تروى الدكتور صفوان قليلا ، نظر إلى الشَّيخ، انقطع تفكيره فجأةً، بسط كفَّه الأيسر ليرتطم بعنف بخِلقة المُسنِّ، الذي سقط مغشيَّا عليه.
لم يتوتَّرِ الطَّبيب من الموقف، حمل المريض، وضعه على سرير الفحص .
استيقظ صديق الكلاب بصعوبة، استعاد أنفاسَه شيئا فشيئا، وغادر بخطوات بطيئة، دون نظرة للخلف.
تتالى قدوم المرضى إلى العيادة النَّفسيَّة، ولم تمضِ إلا أسابيع قليلة حتى ذاع صيت الطَّبيب النَّابه، يدخل المرضى إليه حزانى، باكين، ويخرجون والابتسامة مرسومة على شفاهم.
استغرب الأطباءُ النَّفسيُّون من نتائج زميلهم الاستثنائيَّة ، بالمقارنة مع حصيلتهم المزرية، وفشلهم الذَّريع، فمرضاهم بأسوأ حال، وكُلُّ العقاقير الموصوفة لم تغيِّر كثيرا من أوضاع هؤلاء الحيارى.
صعد منسوب الحسد، قال أحدهم:
- لا بدَّ أنَّ زميلنا صفوان خريج جامعة أمريكيَّة، يحمل شهادة بورد، فنحن لم نعرفه بأيام الجامعة، ولم يدرسِ الاختصاص معنا في مشفى ابن سينا.
ساد الهرج والمرج، تدخَّل الدكتور خالد، وهوعضوٌّ في نقابة الأطباء، أبدى تعجبه، فالدكتور صفوان شابٌّ لم يبلغِ الثَّلاثين عاما بعد، ولا يذكر أنَّه رأى اسمه في سجل الأطباء المنتقلين حديثا إلى المحافظة.
قرَّر الدكتور خالد تحرِّي الموضوع بدافع من الفضول وغيره، بحث في وثائق النِّقابة، صعق لغياب اسمٍ، أو رقمٍ نقابيٍّ للدكتور صفوان.
أعلمَ دون تأخير نقيبَ الأطباء، الذي أخبر "مكتبَ مكافحة الاحتيال، وانتحال الصِّفات" .
وصلت قوةٌ من الشُّرطة إلى عيادة الطَّبيب، كانت السُّكرتيرة تنظم دور المرضى في قاعة الانتظار، لكنَّ الدكتور صفوان لم يأتِ هذا اليوم.
نبَّش رجال الشُّرطة، لم يجدوا ما يدلُّ على شخص الطَّبيب "المحتال"، لا أوراق، لا شهادات، لا شيء حقَّا ذا قيمة.
نشرتِ السُّلطاتُ أوصافَ الطَّبيب في كل المخافر، وعلى جميع الدُّوريَّات الرَّاجلة والسَّيَّارة، والثُّغور.
وقبل أن يصل التَّعميم إلى مركز حدوديٍّ أخير، اقترب منه صفوان، الذي سُجنَ خمس سنواتٍ ظلما، على جرمٍ لم يقترفه.
تذكَّر سجانيه الذين كانوا يحلُّون كل مشاكل السِّجنِ بعلاج وحيدٍ هو الصَّفعة، رغم اعتراضه وزملاءه على ذلك.
ألقى التَّحيَّة على الجُمركيِّ، عرض عليه جواز السَّفر، وهمَّ بفتح حقيبته الوحيدة.