تأملوا معي هذه العبارة :"مستشفى الأمراض العقلية" هل يمكن اعتبارها عبارة صحيحة على مستوى المعنى؟ بل هل سبق وأن انتبهنا إلى حمولتها الفلسفية؟ هي ليست جملة عادية كي نمر عليها مرور الكرام، إنها تحمل بين طياتها تاريخ الحداثة برمته، وتلخص بين تضاعيفها الجانب الخلفي المؤطر لمركزية الإنسان، أو لنغامر ونقول: إنها الوجه الآخر للكوجيتو الديكارتي.. "أنا أفكر، أنا موجود" تكاد تكون إذن بمثابة التيار المضاد لعبارتنا، أو الطرف المقابل للمعادلة التي يمكن أن نقرأها على الشكل التالي: "مستشفى الأمراض العقلية = أنا أفكر أنا موجود" لأن التفكير تمرين يدل على غياب مرض يتيح لنا إمكانية ولوج المستشفى وإن لم نرد، بينما نتفق أن من يدخلها شخص مريض يجب أن يعالج، وهنا أتحدث طبعا عن الأمراض العقلية/النفسية، فالسليم المعافى، والمتوازن نفسيا هو من يعمل عقله، أي هو من يفكر، بينما يأخذ المجنون هذه الصفة لأن عقله اختفى، بالتالي فهو لا يفكر، الأول من حقه التمتع بمشاركة الفضاء العمومي مع الآخرين، بينما الثاني توجب عليه الذهاب كرها إلى "مستشفى الأمراض العقلية" كي يشفى من سقمه.
لنتأمل عبارة "مستشفى الأمراض العقلية" من جانبها الأنطولوجي، ما الغرض من وجودها؟ سيكون جوابنا على الشكل التالي: إنها تشفي المرضى الذين يعانون اضطرابات عقلية/نفسية، لها طاقم طبي يعمل باحترافية، يراقب ويعاقب، يصنف ويسمح، يبحث ويطبق، يقبل ويرفض، يلهي ويُنَمِّطُ، يحصي ويتنبأ.. وكل هذا نتيجة لتطور الطب والتقنية أيضا.. سنعتبره جوابا معقولا إلى حد ما، لكنه يؤدي بنا مباشرة إلى سؤال آخر يقول: هل يعني هذا أن العقل يمرض، وإذا أمكن ذلك فما هي أمراضه؟ لذلك سنحاول في هذا المقام أن نتحدث عن أحد الأمراض العقلية/النفسية، ألا وهو مرض "l’aphasie" الذي يدل على حدوث اضطراب كبير لدى الشخص الذي يجد صعوبة في الكلام وأحيانا في الكتابة أيضا، وذلك نظرا لاضطراب المعلومات لديه حول الأشياء التي تحيط به، بل إنه قد يجد صعوبة أيضا حتى في فهم ما يقال أو يكتب له.. هكذا يصعب تحقيق التواصل مع هذا الشخص جملة وتفصيلا. في المقابل لنعد إلى الدلالة اللغوية لهذا المرض، والتي نجدها في اللسان الإغريقي phasis ثم كلمة aphasia التي ظهرت سنة 1826 بحيث تدل على الكلام la parole بينما يلعب حرف a دور النفي، ومنه نصبح أمام عبارة "اللاكلام" أو "المالا ينقال" والحال أنه بتطور علم النفس خاصة في القرنين الماضيين، أصبحنا نعتبر كل من يجد صعوبة في التعبير أو الكلام مريضا توجب علاجه، عاملين على تشخيص حالة دماغه، خاصة في الجانب الأيسر منه L’hémisphère gauche باعتباره المسؤول الأول على اللغة من قراءة وكتابة وفهم وتعبير وكلام..
في المقابل هل يمكن فعلا اعتبار من تتبعثر لديه أسماء الأشياء، ويفقد بذلك القدرة على الكلام شخصا مريضا توجب إدخاله إلى "مستشفى الأمراض العقلية" ومتى كان الصمت المطبق مرضا؟ أليس الصمت بداية كل شيء؟ وهل كان الإنسان البدائي الذي يصاب بهذه الأمر يُعتبر مريضا وقد حانت ساعة علاجه طلبا للشفاء؟ الحال أن العقل هو من حاول أن يضفي على الأشياء هوية وطبيعة خاصة، هو من جعل من الواقع شيئا ثابتا وتمثلا يكون الإنسان فيه هو الفاعل، هكذا فإن الكوجيتو الديكارتي لن يعدو غير إثبات الوجود عن طريق العقل، إذ كل حقيقة قابلة لأن نبرهن عليها عقليا هي حقيقة واضحة ومتميزة وبديهية، بينما غياب العقل يعني غياب التعبير السديد عن الواقع الناتج عن تمارين ذهنية/عقلية محضة..
العقل يتوجس من التغيير ومن كل قوة تضفي الاختلاف على الهوية، والحال أن المريض المصاب ب "l’aphasie" يفقد هوية الأشياء فيعجز عن إيجاد الكلمة التي تناسبها ليكون الصمت بعدئذ مآله، وللعقل كما نعلم تصور محدد للواقع، في حين أن "المرض" أعلاه يعطي صفات متعددة وأسماء مختلفة على الشيء نفسه، لنأخذ مثلا كلمة "كتاب" والتي لا تدل على الكتاب في ذاته، بقدر ما أنها حكم اعتباطي للانسان على هذا الشيء الذي سماه "كتابا" في حين أنه في الحقيقة ليسا كتابا إلا بالنسبة للانسان فقط.. هكذا يحدث أن تنفلت من العقل مسارات وطرق ملتوية تأخذ صبغات جديدة، أو قل إنها لا تتوقف على حال واحد، فيحدث أن تُبرز للعقل حدوده من جهة، وعيوبه من جهة ثانية، بيد أنه يستغل قوته وسطوته كي يجعل من كل انفلات مرض، والدليل على ذلك هو أنه يعطي لمرض "l’aphasie" تعريفا ووصفا، في حين أنه يتكلم على لسان المريض الذي هو في الأصل عاجز عن التعبير بما يشعر به، وفي نفس السياق لنعد مثلا إلى مجموع الأنشطة التي يقوم بها الطاقم الطبي في "مستشفى الأمراض العقلية" وقد تحدثنا عنها سابقا كالمراقبة والمعاقبة والتصنيف والسماح.. أليست كلها أنشطة سلطوية محضة، أنشطة تبني العلاقات بين الانسان على المستوى التراتبي وليس على المستوى الأفقي؟ لذا فالحق يقال أن العقل إقصائي لأنه كلما أحس بتزحزح سلطته إلا وكان إقصاء القوة المُزَحزحة أكبر حل لذلك، مما يبين أن أكبر مرض عرفه العالم هو مرض العقل، بل وبلغة طب "مستشفى الأمراض العقلية" فإن جنون العظمة له علاقة وطيدة بالبرانويا la paranoïa والسكيزوفرينيا la schizophrénie فلماذا لا يمكن القول أن العقل يعاني من هذين المرضين..
إن اعتبار النسيان مرضا هو مرض في حد ذاته، واعتبار اضطراب التعرف على الأشياء بيِّنة على خلل في الجانب النفسي للفرد، سيكون هو الآخر مرضا، إذ لولا النسيان لما تمكن الانسان من الاستمرار في الحياة، ولولا الاختلاف لما استطاع هذا الكائن أن يستمر.. والحال أن غياب العقل الذي يعتبره العقل مرضا، لهو خير دليل على مرض العقل نفسه، والشاهد على ذلك هو أن الأشخاص "الأسوياء" عندما حرروا العقل أكثر، أنتجوا أكبر الكوارث التي عرفها تاريخ الكوكب وليس تاريخ الانسان فقط، من ثمة فلنذهب بالعقل أيضا إلى مستشفى الأمراض العقلية كي نشخص مظاهر وسمات المرض لديه، إذ الصمت في نهاية المطاف ليس مرضا، بقدر ما أنه قذف بالواقع إلى أقصى نقطة يمكن أن يصل إليها، وبما أن الواقع قوة مفعول بها من طرف العقل، فإن الصمت الذي يحفر طريقا نحو الحديقة الخلفية للعقل سيعتبره هذا الأخير علامة على المرض، لهذا نلاحظ أن أول طريقة تستعملها "مستشفى الأمراض العقلية" هي العمل على جعل المريض يتكلم ليس من أجل علاجه وإنما بغية جعله شيئا مثل باقي الأشياء درءا لكل تنطع من شأنه أن يخلخل عجرفة العقل..
هكذا أكاد أقول أن الكلام عندما يعجز، فإنه يمنح المجال للصمت كي يعبر بطريقته الخاصة به، فما لا يمكن الكلام عنه يجب أن نصمت عليه، وبلغة أدق، إن الصمت يتجاوز الكلام عندما نعجز عن الكلام.. أما ما يمكننا قوله، فإنه لا يعبر بالضرورة عن كل اللحظات والظرفيات، وإنما على اللحظة التي قيل فيها هذا دون ذاك، علما أن كلامنا ليس إلا ترجمة تقريبية لما نفكر فيه، أما إذا أردنا تحقيق فعل المطابقة بين التفكير والكلام فإن الحل للتعبير عن ذلك هو إما التزام الصمت بسبب العجز عن التعبير، أو إعطاء صفات متعددة ومختلفة للشيء الواحد، وهذا للأسف ما يعتبره العقل مرضا..