« ton secret, on le voit toujours sur ton visage et dans ton œil, perds le visage. Deviens capable d’aimer sans souvenir, sans fantasme et sans interprétation, sans faire le point. »
Gille Deleuze.لم يستطع الأدب المعاصر أن يرسم لنفسه مساره الحالي إلا بتفاعله مع الفكر الفلسفي، وذلك من خلال آخر الأبحاث التي عرفها هذا الفكر حيث يتجلى أهمها في ظهور مدارس لأول مرة استطاعت أن تزاوج بين الأدب والفلسفة، أو بالأحرى نهلت من الأدب خياله كما استلهمت من الفلسفة مناهجها، حيث أضحى التمييز بين بعض الكتابات صعبا من خلال تصنيفها، هكذا نجد تعقيدات بليغة في الحكم على عديد الأعمال، إذ ما الذي يمكن أن نقوله عن كتابات بروست وكافكا وهمنغواي وكونديرا وكامي وسارتر.. هل هي كتابات في الفلسفة أم في الأدب؟ بعبارة أخرى كيف تزوج الأدب بالفلسفة خلال الحقبة المعاصرة؟ وما هو الأثر الفلسفي الذي وجد في كبريات الأعمال الأدبية؟
من جهة ثانية، لم يسلم الأدب منذ ظهوره باعتباره إنتاجا إنسانيا من حلول الجانب الفلسفي فيه، خاصة تلك الأعمال التي بصمت على حضور منقطع النظير في الساحة الأدبية، ونخص بالذكر هنا أعمال هزيود، وهوميروس، وشيشرون، وأبي العلاء المعري، وابن طفيل، ودانتي، ومونتين، وسيرفاتيس.. بيد أن الجديد الذي طبع الفترة المعاصرة، هو محاولة الفلسفة القبض على المعنى الأدبي، كما محاولة الأدب الانفتاح على الفلسفة للعثور على تلك الحلقة المفقودة التي تجعل للأدب معنى من الصعب القبض عليه، من ثمة "فالأدب المعاصر، كالفن المعاصر لا يمكن تلخيصه في تعريف، أو شكل، أو إشكالية ما، بل إنه على النقيض من ذلك مسكون بتيارات... وبخطوط انفلاتات."[i] إنه أدب ذو خلفية فلسفية أعاد ترتيب الإنسان والوجود والعالم على حد سواء.
إن التحولات التي بات يعرفها الأدب المعاصر اليوم، ــ والتي يمكن حصرها بالتدقيق في ثلاث مياسم حسب موقف فيليب فورست Philipe Forest ــ لم تأتي وليدة الصدفة، بقدر ما ساهمت فيها قوى خارجية أخرى، فقد "وسم الأدب المعاصر بتصدع كبير."[ii] عكس الحقب السابقة التي "وسمت بخطوط نظرية، وتيارات ومدارس... حيث اختفت اليوم كل هاته الأشياء."[iii] لصالح طريقة جديدة استطاعت أن تقول الفلسفة والأدب في وقت واحد، أو بالأحرى تمكنت الفلسفة من الدخول المباشر في صلب النصوص الأدبية والعمل على دراستها، بينما أعطى الأدب للفلسفة قطع الغيار التي بدأ يشتغل بها.واجدا فيها بعضا من أجوبته الأنطولوجية، عاثرا بين سطورها على طرق جديدة لفهم الأسئلة الفلسفية السابقة. لقد تمكن الأدب "ابتداء من القرن العشرين من التعبير على العالم وعلى الشرط الإنساني."[iv] من ثمة أمكننا أن نقول في هذا المقام أن الأدب المعاصر خاصة مع بروست وسارتر وكامي تمكن من إدراك "عناصر الواقع في كليتها."[v] زيادة على ذلك لا يمكن القفز أيضا على مجمل التغيرات التي لحقت بكل الأجناس الأدبية، فالأدب المعاصر ثانيا تميز "بيوطوبيات طلائعية التي من خلالها نعثر على الجانب السريالي، وعلى نمط الرواية الجديدة كما هي، إضافة إلى المسرح العبثي وأشياء أخرى."[vi] من ثمة استطاع الأدب المعاصر أن يرسم لنفسه طريقا جعل من الفلسفة تسعى لإيجاد موطئ قدم داخله، مستمدة منه ومن اتجاهاته المتعددة مسارات لفهم إشكالاتها العالقة.
والحق أن أهم ما ميز الأدب المعاصر ثانيا هو إعادة ترتيب الواقع، حيث أنه واقع فارغ ساهمت تأويلاتنا في ملئه ثم الاعتقاد أنه الواقع الوحيد، لكن العكس هو الصحيح حيث عمل الأدب المعاصر على تأكيد أن الواقع ليس إلا واقعا من ضمن وقائع لا متناهية. وأن كل واقع ما هو سوى إرادة قوة لكائن مؤول لا غير.
ومن جهة ثالثة تميزت خلفية الأدب المعاصر أيضا، بظهور مناهج فلسفية لها من القدرة على اختراق النصوص الأدبية ما ليس لغيرها، وذلك بفضل مجموع الأبحاث البنيوية والنفسية واللسانية ثم السيميائية... والحال أن الأدب الكلاسيكي أو الحديث إذا كان مهووسا بالوصف الخارجي للإنسان، فالأدب المعاصر تمكن بفضل آخر الأبحاث النفسية والفلسفية من اكتساح ما كان ممنوعا سلفا، إنه الإنسان ذاته كإنسان، إنسان في علاقته بنفسه بالآخرين وبالمحيط، إنسان تجرأ على الغوص في خصوصياته الفردية وجعلها بمثابة موضوع فهم ودراسة بلغة أدبية مرموقة.
وفي معرض آخر، يتحدث لنا الباحث دومينيك فياغت Dominique viart بدوره عن ثلاث مقومات للأدب المعاصر، مقومات بقدر ما أنها وجهت نحو بنية هذا الأمر، بقدر ما بنت صرحها على متن فلسفي خالص، حيث طبع المقوم الأول بكونه جعل من الأدب المعاصر أدبا مقبولا ومجمعا عليه، "فمن جانب أول يتحدد بكونه تخيلا رومانسيا."[vii] تمكن من الدخول في أعماق الإنسان العاطفية وجعلها موضوعا قابلا للدراسة والتمحيص، أما من جانبه الثاني فبنية الأدب المعاصر تجعل منه أدبا جوقيا، إنه ذلك "الأدب الذي بإمكانه أن يكون حاضرا في كليشيهات اللحظة، أو في الضجيج الثقافي المعاصر،"[viii] باعتباره أداة ترافق الإنسان في أكثر الأشياء حميمية، كما يمكن أن تجعل من نفس الموضوع تربة خصبة لإنتاج عمل أدبي خالص وإن كان منطلقة لحظة عادية إن لم نقل تافهة. أما من جانب ثالث فلا شك أن الأدب المعاصر هو أدب انفلاتات أيضا، إنه أدب يموقع الانتظار، أدب ينفلت من اللحظة قبل المدركة، من ثمة فهو أدب جديد ببنية جيدة وطرق كثر جدة، من ثمة فإن "رهان هاته الكتابات يصدع الوعي بالحدوث في هذا العالم.. محاولا القول أو التعبير عن الواقع"[ix] ومنه فشخصية الكاتب تتخلى عن الفكرة المجردة التي طغت في الأدب السابق عن الحقبة المعاصرة، كي ترسم لنفسها حضورا أقل ما يقال عنه، أنه حضور يضفي طابع المشاركة على كل الأشياء،من ثمة فالأدب المعاصر أدب غير تصنيفي، أدب لا ينتصر لأحد على حساب أحد آخر، أو لفكرة على حساب أخرى، فالكاتب بهذا الصدد يتحول من شخص يخندق نفسه في اتجاه ما، إلى لاعب دون خلفية تذكر، يقول دولوز:" إنه يجب أن نكتب مع، أن نقول مع. مع العالم، مع قطعة من العالم، ومع الناس، إنه ليس بتاتا نقاشا ، بقدر ما أنه مؤامرة، صدمة حب هو أو حقد."[x] وعليه فبنية الأدب تتحول تباعا إلى لعبة جدية، لعبة تتكلم الحياة والجسد والأرض والاختلاف واللامعنى.
لقد أضحى الأدب المعاصر نفسه فلسفة قائمة بذاتها، فتح لنفسه نوافذ قابلة للانفلات نحو أي عالم ممكن، وهو ما جعل منه أدبا متفوقا فلسفيا مقارنة بأدب الحقب السابقة عليه، إنه يتنطع للمعنى الواحد نحو معاني متعددة، بطله بطل تراجيدي يسخر من قدره كما يسخر من قدر الآخرين، كما أنه ثالثا أدب يؤكد للجميع أن هذا العالم هو العالم الوحيد بكل هامشه وحمولته وأوهامه وكذبه... هكذا تمكن الأدب المعاصر من أن يضع لنفسه موطئ قدم في الفلسفة حيث بتنا من الصعب أن نفرق في الكاتب الفيلسوف الذي يحمله من الأديب الذي يسكنه، لم لا والأدباء الكبار هو دوما فلاسفة كبار كما يقول دولوز.*
إن الأدب المعاصر خاصة الأنغلوساكسوني منه، تمكن من أن يجعل من نفسه فلسفة قائمة بذاتها، فلسفة تعيد العالم إلى الإنسان، كما تعيد الإنسان إلى العالم، حيث لا "يتعلق الأمر هنا بالقيام برواية فلسفية، وليس بوضع الفلسفة في رواية، بقدر ما أن الأمر يتعلق بوضع الفلسفة في كتابة روائية، أي أن نكون روائيين في الفلسفة."[xi] حيث سيصبح من العيب إن صح التعبير، أن نتكلم عن فلسفة أدبية أو أدب فلسفي، إننا هنا أمام شيء آخر وهو الأدب/الفلسفة، أدب يهرب من نفسه كي يكون فلسفة، وفلسفة تنفلت وتتنطع من عقلانيتها نحو إمبريقيتها كي تصبح أدبا. ومنه فقد لا نتعجب عندما نرى أن الأدب المعاصر ابتداء مع بروست تمكن من اللعب بالزمن، مركزا على أتفه الأشياء التي ليست في الأصل تافهة، وإنما هي من تنتج المعنى المنسي، إلى جانب كل شيء، الأدب المعاصر إذن أدب أزال المركز الذي صنعه أدب النهضة والأنوار، منتصرا للمركز والهامش على حد سواء، مزيلا من المركز مركزيته ومبعدا عن الهامش هامشيته، كل الأشياء متساوية وكل انتصار هو انتصار لإرادة قوة لا غير.
لقد ناضل الأدب المعاصر إذن من أجل ضخ دماء جديدة في المعنى، فأصبح بدوره منتجا للمعنى، صحيح أن كل أدب ينتج معنى ما، بيد أن الأدب المعاصر بات مهووسا بالانفلاتات ورسم خطوط الانفلات أيضا، فلنعد مثلا إلى بنية الأدب النهضوي، كي نلاحظ أنه أدب مسكون بالترتيب والتمييز الأفلاطونيين، أدب ينتصر للروح على المادة، للسماء على الأرض، وللمركز على حساب الهامش، لكن لا يجب أن نفهم أن الأدب المعاصر هو بمثابة رد فعل على أدب الحقب التي سبقته، فإذا كان الأدب النهضوي مثلا يقول لا لهذا الشيء، ونعم للشيء الآخر، فإن الأدب المعاصر يقول نعم لكل الأشياء، الأدب المعاصر إذن أدب يريد "مبارزة شبه تفوق الروح على حساب الجسد، توجد الروح ويوجد الجسد، وكليهما يعبران على نفس الشيء، أي على الشيء الواحد."[xii] والحق أنه بفضل هاته المغامرة التي وضع الأدب المعاصر فيها، أضحينا أمام فلسفة تتكلم الأدب، وأدب ستكلم الفلسفة، فبات التصنيف أمرا صعبا، إن لم نقل عملا غير مجدي، وبفضل ذلك أصبح الفلاسفة أدباء في ضيافة الأدب، كما أصبح الأدباء فلاسفة في الأدب والفلسفة على حد سواء. وختاما على ما ذكر سلفا، فإنه سيكون من باب الغرابة بمكان وضع السياجات والحدود بين الفلسفة والأدب المعاصر، مل أدب تيه وسفر وترحال متواصل، وكل فلسفة أرض تستقبل هؤلاء الرحل كي تقول لهم في نهاية الأمر: هذا المكان مكان إلى جانب باقي الأمكنة، ليس هناك تفوق بقدر ما أن هناك إرادة قوة تلعب بنا متى شاءت، فلنسر في تيارها دون خوف، ولنكن رحلا إلى الأبد لأن هذا هو ما كتب علينا دون زيادة أو نقصان.. "[xiii] إن الفلاسفة كانوا دوما شيئا آخر، لقد ولدوا شيئا آخر." والحال أن هاته الولادة تمكن الأدب من فهمها، فجعل من نفسه رحلة متواصلة لا تتوطن إلا كي تنفلت وتكمل مسيرتها اللامتناهية، إن الأديب عندما يكتب شيئا فهو يكتبه كما هو، يلبسه ويصبح هو ذلك الشيء، فلنعد مثلا إلى رواية كافا "التحول" كي نرى أن بطلها الذي هو الكاتب نفسه لم يعد هو وإنما تحول إلى موضوع العمل الأدبي، فأصبح يتكلم ليس بلسان الحشرة التي تحول إليها، وإنما أصبح هو الحشرة نفسها، من هنا يمكن أن نقول أن الأدب المعاصر ليس أدب ثنائيات les dualismes، وإنما هو أدب يطابق الشيء مع نفسه/ في نفسه، في القول، في إنتاج الأقوال، حيث "لا توجد هناك ذات، ولكن رجال مجتمعون"[xiv] إنهم أبطال لا يعرفون أنهم أبطال، لسبب بسيط أن كل بطل هو بطل في اللحظة والزمن والحالة والشرط الذي يجعل منه بطلا لا غير. لا يوجد معنى مطلق كما لا توجد بطولة مطلقة وحاضرة دوما، وما الأدب إلا تعبير وقول على لسان حال الوجود، يؤكد هاته القاعدة، إنه ينتصر في النهاية للجميع وليس لأحد.
[i]- Sébastien rongier, qu’est ce que la littérature ? cours exposé à l’université paris 1 – Sorbonne, 28 novembre 2008.
[ii] - ibid.
[iii] - ibid.
[iv] - ibid.
[v] - ibid.
[vi] - ibid.
[vii] - ibid.
[viii] - ibid.
[ix] - ibid.
[x] - Gille Deleuze, de la supériorité de la littérature anglaise-américaine, in : dialogues, ed : Flammarion 1996, p : 66.
* il écrit dans une autre exposition : « l’auteur comme sujet d’énonciation, est d’abord un esprit : tantôt il s’identifie à ses personnages, ou fait que nous nous identifions à eux, ou à l’idée dont ils sont porteurs ; tantôt au contraire il introduit une distance qui lui permet et nous permet d’observer, de critiquer, de prolonger/ mis ce n’est pas bon. »/ voir par exemple : Deleuze, dialogues, op, cit, p : 66.
[xi] - ibid, p : 68 .
[xii] - ibid, p : 75.
[xiii] - ibid, p : 89.
[xiv] - ibid, p : 86.
Bibliographie :
- Deleuze Gille, de la supériorité de la littérature anglaise-américaine, in : dialogues, ed : Flammarion 1996,
- Rongier Sébastien, qu’est ce que la littérature ? cours exposé à l’université paris 1 – Sorbonne, 28 novembre 2008.