المنظومة اللغويّة جزء من المنظومات الكونيّة التي نظن أنّنا أحطنا بقوانينها و رسمنا حدود قواعدها نحوا و صرفا و تنظيرا لسانيّا و تمثيلا عرفانيّا بل و حتى تحليلا جينيّا. لكن يبدو أنّ نظريّة الفوضى (الكايوس) قد عصفت بهذه الحقائق كما عصفت بحقائق علميّة راسخة في مجالات أخرى.
فرغم نجاح العلم في الإحاطة بعديد الظواهر الكونيّة و تحليل نظام اشتغالها إلاّ أنّه لا يزال يقف عاجزا أمام بعض الظواهر التي تتسم بالفوضى والاضطراب مثل حركة الأمواج و تقلبات المناخ و الزلازل و ذلك لأنّها تمثل الجانب المفاجئ و الانقلابي من الطبيعة .
إلاّ أن تلك الصورة شرعت في التغيّر تدريجيّا في سبعينات القرن العشرين عندما همّت كوكبة من العلماء الأمريكيين و الأوربيين بالاهتمام بأمر الاضطراب و فوضاه.و تالّفت تلك الكوكبة من علماء في الفيزياء و الرياضيات و البيولوجيا و الكيمياء الذين سعوا للامساك بالخيوط التي تجمع ظواهر الفوضى كلّها [i]. و قد أنتجت تلك البحوث رؤى جديدة دلّت على إمكان تغيير النظرة إلى العالم الطبيعي بما في ذلك أشكال الغيوم و بروقها و الشبكات المتداخلة من الشعيرات الدمويّة و تجمّعات النّجوم و المجرّات."[ii]
ههنا تبتدئ نظريّة الفوضى (الكايوس) في الحدود التي يتوقّف عندها العلم التقليدي و يعجز، و في هذا الإطار يتنزّل البحث في الاضطراب اللغوي حيث تتم مساءلة الظواهر اللغويّة الخارجة عن حيّز " النظامي" و يكف البحث اللغوي عن إقصاء الشاذ منها و الاستثنائيّ خارج أهداف الدرس لنتوقّف بالسؤال عند مواطن الاختلال في الخطاب قصد تمثّلها و تفهّم حيثيات حدوثها.
هي رؤية جديدة لهذا العالم اللغوي تحتلّ خلالها الفوضى صدارة الاهتمام فتطرح فرضيات أخرى توسّع من معرفتنا بأسرار الخطاب الذي لطالما اعتبرناه منتظما.
فنحن لا نعرف عن اللغة أكثر من القواعد التي تمّ التواضع عليها في فروع النحو و لا نتناولها بالتحليل إلا من خلال مناهج لسانيّة معياريّة تسائل الخطاب داخل مربّع القاعدة و تقصي الاضطراب على تخوم الهامش فلا ترى فيه ضربا من ضروب التفاعل الطبيعيّ في هذا العالم اللغوي الحيّ .إنّ ما ندركه عن اللغة و أسرار اشتغالها في حيّزها العرفانيّة أقلّ بكثير ممّا تنبئ به الإشكاليات المطروحة بالنظر في ظاهرة اضطرابها.
فهل اللغة التلقائيّة الصادرة عنّا نظاميّة بالأصل أم أنّها تعبير إنساني حر يتشكّل وفقا لخصوصيّة ظروفه و لكنّنا نجتهد لحصره في محاولة للسيطرة عليه و إدعاء فهم قوانينه رغم أنّها لا تزال تدهشنا بإبداعيّة خلقها ؟
وهل هذه الفوضى التي يصنعها الاضطراب اللغوي لعوامل مرحليّة أو نمائيّة أو لحوادث طارئة تمثل خروجا عن النظام أم أنّ ما تمّ التوصّل إليه من قوانين لغويّة في الأصل ليس إلاّ جزءا من العالم اللغوي الذي يتسع فيه المجال لأشكال التعبير الفوضوي عند توفّر الظروف الباعثة على ذلك؟ ماذا لو أنّ اللغة تعبير طبيعيّ أوسع من الحدود التي يضبطها النظام اللغوي ؟ ماذا لو أنّ بعضا من اللغة ينفلت عن ضبط النّحو فهل يخرج عن أن يكون لغة؟
لقد توصّل أرباب نظريّة الفوضى إلى أنّ العجز عن توقع مكان الإعصار و زمانه رغم امتلاك جملة من المعطيات المنبئة بحدوثه يعود إلى ارتباط الظواهر الطبيعيّة بأدق التفاصيل و الجزئيات المتصلة بظروف نشأتها حتى ذهبوا في مقولة شهيرة إلى أنّ أعتى الأعاصير في شمال الأرض تتأثّر بـ"رفرفة جناح فراشة" في جنوبها .
فإذا كانت اللغة هي الأخرى ظاهرة طبيعيّة تتأثّر بأدق الحيثيات الحافة بظروف إنجازها فلا غرابة أن يظل للاضطراب مجال يذكرنا بحقيقة عجزنا عن الإحاطة التامة بكل القوانين و العوامل المساهمة في تشكيل الخطاب على ذلك النحو المخصوص سواء أ كان مطابقا للنظام أو مقاربا له أو خارجا عنه .
هذا المبحث لانزال نجهله و لا نعرف عنه أكثر ممّا أنبأت به ملاحظات التخوم و الهوامش. من هنا تتأكّد أهميّة البحث في الاضطراب اللغوي لا باعتباره استثناء عن النّظام بل من حيث هو زاوية جديدة لتناول الحدث اللغوي في تشكلاته الطبيعيّة الحرة النابعة من خصوصيّة ظروفه بعيدا عن الأحكام المعياريّة . فسواء أ كان الاضطراب "انزياحا" شعريا أم كان خطأ مقصودا أم عارضا من عوارض الاضطرابات اللغويّة المرحليّة أو المرضيّة فإنّ النظم اللغويّة تكون قد خرجت عن حالة الاستقرار و الثبات إلى ضرب من الحركيّة لها في سياقاتها و ظروف تبلورها سبل للتأويل.
[i] "وقد عثر اختصاصيو الفيزيولوجيا (علم وظائف أعضاء الجسم) على درجة هائلة من التناسق في الاضطراب الذي يصيب القلب الإنساني و يوقف عمله على نحو مفاجئ والذي يعتبر ايضا سببا رئيسيّا للوفيات البشريّة و درس اختصاصيو البيئة التقلّب في أعداد الفراش الغجري .و غاص الاقتصاديون رجوعا في تاريخ أسعار الأسهم و أخضعوها لنمط جديد من التحليل" جايمس غليك : نظريّة الفوضى علم اللامتوقّع - ترجمة أحمد مغربي - دار الساقي- ط1 - 2008.
[ii] - جايمس غليك : نظريّة الفوضى علم اللامتوقّع - ترجمة أحمد مغربي - دار الساقي- ط1 - 2008.