مقدمة :
تعتبر فلسفة فتجنشتاين أشبه ما تكون بالثورة على الفلسفة التقليدية ، وذلك لأنها غيرت من مفهوم الفلسفة ، الذي كان يبحث في الوجود من حيث هو موجود ، وفي العلل ، والعدم ، والماهية ... إلى مجال آخر وهو البحث في العبارات والقضايا التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ماله معنى، وما لا معنى له .وتجاوز كل عبارات التي تسبب اللغو واللبس كما هو الحال بالنسبة للعبارات السالفة الذكر . وهنا يمكن القول إن عمل الفيلسوف حسب فتجنشتاين يكمن في تصحيح أخطاء الفلاسفة .ويمكن القول إن الفلسفة من منظوره هي فلسفة للفلسفة . حيث لم يعد السؤال يرتبط بماذا أعرف ،وإنما ما هذا الذي أعرفه أهو منطقي أم غير منطقي أهو ذو معنى أم أنه في خانة مالا يقال . وبالتالي تحول السؤال من كم ؟ إلى كيف ؟ وهذه هي ملامح الجدة في الفلسفة التحليلية .
وتعود أهميته في الفلسفة المعاصرة إلى الدور الذي لعبه من أجل تجاوز مشكلات فلسفية ظلت سائدة في تاريخ الفلسفة لمدة طويلة . ومن هذا المنطلق سعى إلى إقامة فلسفة تتوخى توضيح عباراتها ، وذلك وفق العملية التصويرية لعبارات وقضايا موجودة في العالم الخارجي .بالإضافة إلى أنه أولى أهمية جديدة للفلسفة ،والمتعلقة بتوضيح العبارات والقضايا اللغوية .وذلك من خلال كتابه الذي شكل إنجيل الوضعية المنطقية والذي لخصه في سبع قضايا كبرى وهي :
العالم هو كل ما هنالك .
إن ما هنالك هو وجود الواقعة الذرية.
الفكر هو الرسم المنطقي للوقائع .
الفكر هو القضية ذات المعنى .
القضية هي دالة الصدق للقضايا الأولية .
الصورة العامة لدالة الصدق هي ... .
ما لا يمكن قوله يجب السكوت عنه .
سنقف في هذه المقالة على القضية الأخيرة والتي شكلت أهم نقطة في كتاب رسالة منطقية فلسفية وفيها نجذ فتجنشتاين يضع ضع الحدود بين ما يقال ،أي بين قضايا العلم الطبيعي وبين ما يمكن إظهاره فقط، أي قضايا الفلسفة والميتافيزيقا. أما قضايا الرياضيات والمنطق فإن فتجنشتاين يصنفها ضمن خانة تحصيل حاصل ويشبها " بالصفر " في العدد ، فالصفر لا يزيد ولا ينقص شيئا ، ولكن هو عنصر مساعد في الحساب . كذلك الشأن بالنسبة لهذه القضايا التي هي عناصر مساعدة وبروتوكولات فقط.
و سنقف كذلك عند مسألة تشكل البنيات الأساسية لرسالة منطقية فلسفية ،وهي الفصل بين ما يقال وما لا يقال ، أو بتعبير آخر وضع الحد بين ما يمكن قوله ( العلم الطبيعي ) وبين ما لا يمكن فقط إظهاره ( الميتافيزيقا ) ، وذلك من أجل توضيح نظرية المعنى في الرسالة والتي يحددها فتجنشتاين في ثلاث قضايا وهي :
_القضايا التي لها معنى
_القضايا الفارغة من المعنى
_القضايا التي بدون معنى
أولا:القضايا التي لها معنى:
يتحدد دور الفلسفة كله عند فتجنشتاين في توضيح القضايا(1)، ولكن عن أي نمط من القضايا نتحدث ؟ يقصد فتجنشتاين القضايا الحاصلة على المعنى ،تلك التي تظهر في معاني نستطيع أن نفكر فيها .حيث يقول فتجنشناين" كل ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح " (2) . فالقضايا التي تتميز بهذه الخصائص هي قضايا العلم الطبيعي والتي تناظر وقائع موجودة في الواقع الخارجي بشكل يحمل التطابق أثناء تمثيل هذه الوقائع ،وهنا تكمن مهمة الفيلسوف في توضيح القضايا ذات صلة بالتجربة ، أي القضايا التي تنسب إلى العلم الطبيعي . وحينما تكون القضية صادقة فمعنى ذلك أن شيئا موجودا . إن العلم بمعنى العام تنطبق قضاياه على جميع الظواهر المطابقة للظاهرة التي يبحث فيها ، كما أن قضايا العلم الطبيعي صادقة .في نظر أي عقل يسلم بها مادامت لها إحالة خارجية صادقة .أما إن كانت هذه الإحالة كاذبة فإن القضية ستكون كاذبة
يؤكد فتجنشتاين أن القضايا الصادقة أو الكاذبة هي قضايا العلم التجريبي فكلما كانت عندنا قضايا تخبرنا بشيء ما ، فيمكن حسب فتجنشتاين أن نتحقق من صدق أو كذب هذه القضايا عبر مطابقتها للواقع الخارجي أو مطابقتها للواقع الخارجي ، فإذا كانت قضية تطابق واقعة فإنها نقول عنها صادقة وإذا لم تطابق واقعة كانت كاذبة . وقد قام فتجنشتاين بتلخيص تصوره حول القضايا التي يمكن أن نحكم عليها بالصدق و الكذب قائلا :" إن النهج الصحيح في الفلسفة يتمثل في قول ما يمكن قوله. وما يمكن قوله هو قضايا العلم الطبيعي " ، ويتضح لنا من خلال هذا القول أن قضايا العلم الطبيعي هي القضايا الحاصلة على المعنى وبالتالي فهي تصنف في خانة ما يقال.
ثانيا: القضايا خالية من المعنى :
أ - قضايا تحصيل حاصل: المنطق
يوضح فتجنشتاين أن قضايا تحصيل حاصل هي قضايا لا تقول شيئا ، ولا تناظر شيئا في العالم الخارجي ، حيث لا نستطيع التحقق من صدقها أو كذبها عن طريق مطابقتها بالواقع الخارجي كما هو الشأن بالنسبة للقضايا التجريبية . لأن صدق قضايا تحصيل حاصل "ذاتي" أي يتم استنتاجه من القضية ذاتها . فصدق مثل هذه القضايا لا يحتاج إلى قضايا خارجة عنه لكي تثبت صدقها . وفي هذا الصدد يشير فتجنشتاين إلى مثال السماء فيقول: " السماء إما أن تمطر أو لا تمطر " فهذه القضية صادقة دائما ، سواء كانت السماء ممطرة أو غير ممطرة ، فهذا النوع من القضايا لا يقول شيئا عن الواقع الخارجي على الإطلاق". ولعل هذا ما دفع فتجنشتاين إلى القول بأنها قضايا خالية من المعنى ( خارج عن المعنى) (3) غير أنه يعود ليقول " ومع ذلك فإن تحصيل الحاصل ليس بدون معنى ، إنه جزء من الجهاز الرمزي على نفس النحو الذي يكون فيه الصفر جزءا من الجهاز الرمزي في الحساب ، ذلك أن الصفر ، وبالرغم من كونه فئة فارغة ، إلا أنه له دورا مهما في الحساب ، أما أهم مثال على قضايا تحصيل حاصل فهي قضايا المنطق والرياضيات ، ذلك أن قضايا المنطق والرياضيات إنما تستمد صدقها من المعادلات ، ولا علاقة للواقع بها "(4) . فالمنطق حسب تصور فتجنشتاين مرتبط بالرموز والقواعد فقط ولا يرتبط بالواقع الخارجي ، كما أنه لا يخبرنا عن طبيعة الأشياء في الوجود الخارجي بل هو عبارة عن مجموعة من الرموز والعلامات الاتفاقية التي تهتم بصورة الفكر
وعلى الرغم من تصور فتجنشتاين بأن المنطق يملأ العالم ، فإن المنطق مع ذلك لا يخبرنا عن طبيعة الأشياء المادية ، كما هو الشأن بالنسبة للقضية المنطقية التي ليس لها موضوع معين تصوره ، وفي هذا الصدد يقول " إن النظريات التي تظهر قضية من قضايا المنطق تبدو ذات موضوع معين ، وهذه القضايا هي زائفة دائما . ويضيف فتجنشتاين "إن قضايا المنطق لا تقول شيئا " فهي تحصيل حاصل ، باعتبارها لا ترسم الواقع الخارجي ، بل هي تحليل لما نعرفه بالفعل ، ولهذا السبب يصفها بأنها قضايا تحليلية ، فهي لا تضيف شيئا إلى معارفنا ولا تقدم شيئا ملموسا يمكن أن نحكم عليه بالصدق أو الكذب.
ومن ناحية أخرى يماثل فتجنشتاين بين قضايا تحصيل حاصل وقضايا التناقض ويؤكد أن الفرق بينهما يكمن في أن قضايا تحصيل حاصل صادقة في كل إمكانات صدق القضايا الأولية (5) .
ب - قضايا الرياضيات
يعتبر فتجنشتاين موضوع القضية الرياضية بمثابة إحدى طرق المنطق فهي تماثل قضايا المنطق بكونها تحصيل حاصل ، لأنها لا تناظر الواقع الخارجي ، ولا تشير إلى أي واقعة من وقائع هذا العالم . خاصة وأنها تعتمد على الاعداد ، التي لا تحيل على أي واقعة من الوقائع .فعلى سبيل المثال العدد 2 لا يوجد ما يحيل إليه في الواقع الخارجي وإنما يوجد مثلا كتابين أو قلمين إلخ . وفي هذا الصدد يؤكد فتجنشتاين أن كل قول يقال عن العدد بوصفه شيئا لا متغيرا من المتغيرات يعتبر قولا خاليا من المعنى . والأمر نفسه يطابق استعمال الرموز في المعادلات التي لا تقرر شيئا واقعيا. فعندما أقول إن أ = ب فإني لا أعرف ما تشير إليه أ و ما تشير إليه ب في الواقع ، وبالتالي لا أستطيع الحكم بالصدق أو الكذب ، وهذا ما دفع فتجنشتاين إلى التأكد بأن قضايا الرياضيات ليست بالقضايا الحقيقية بل هي أشباه قضايا .
وفق ماسبق يتضح حسب فتجنشتاين أن العدد أو الرياضيات بصفة عامة تشير إلى حقائق ثابثة -ذاتية- وفي نفس الوقت لا تحيل على وقائع موجودة بالفعل في الخارج . فحينما أقول " إن معنى أربعة "فإن هذا القول يظل فارغا، لأنه لا يشير إلى شيء ، (6) ولكن حينما يشير العدد إلى معنى معين ، كقولي معي أربعة كتب ،فإن القضية تشكلت لأنها أصبحت تشير إلى واقعة موجودة في العالم الخارجي وأصبحت لها إحالة خارجية.
وفي هذا السياق يرى فتجنشتاين أن التعبيرات المتشابهة للأعداد تعتبر خالية من المعنى ، فالقول بأنه " لا يوجد إلا واحد ، وواحد فقط، هو قول خال من المعنى تماما كالقول بأن 2+2 = 4 عند الساعة الثالثة . وفي هذا الصدد، فإن فتجنشتاين لا يقول بأن قضايا الرياضيات بدون معنى ، ما دامت تحصيل حاصل فهي تملك مشروعية باعتبارها (7) " بروتوكولات" مساعدة في التحليل المنطقي . فهي بمثابة الصفر في الرياضيات لا قيمة له لكن لا يمكن الاستغناء عليه في الحساب والأعداد .
ثالثا: القضايا التي بدون معنى
يرى فتجنشتاين أن رسالته كلها قامت لأجل هدم قضايا الميتافيزيقا ، باعتبارها قضايا بدون معنى . وذلك لكون سوء فهمنا لمنطق لغتنا هو الذي يسمح بوجود مثل هذه القضايا . وغاية الرسالة هو توضيح سوء الفهم هذا ، وذلك بواسطة النظرية التصويرية للغة .فبالتصوير أو الرسم يمكن أن نتبين القضايا التي لها معنى والقضايا التي بدون معنى .
ينهي فتجنشتاين "رسالة منطقية فلسفية بقوله": " كل ما يمكن قوله يجب قوله بوضوح ومالا يمكن قوله يجب السكوت عنه " (8)، من هذا القول يتضح أن قضايا الميتافيزيقا لا تندرج ضمن ما يقال وإنما هي قضايا لابد من الصمت عنها ، لأن كل محاولة للتعبير عن قضاياها ستسقطنا في أخطاء لغوية ونحوية، كما هو الحال بالنسبة للفلاسفة ، ما ينتج عنها لغوا وغموضا ، وهذا ما سعى فتجنشتاين إلى تجاوزه. فما دامت الرسالة هي حديث عن العالم وتحليل هذا العالم إلى وقائع وأشياء ، كما أنها أيضا حديث عن اللغة وقضايا ، ومدى مطابقة هذه القضايا للوقائع من خلال النظرية التصويرية للغة ، كما أن الرسالة حاولت تحديد العلاقة بين الفكر واللغة . وبالتالي لا يمكن التساؤل على مدى مطابقة شروط المعنى لقضايا الرسالة نفسها؟
طالما أن قضايا الرسالة إنما هي حديث فلسفي ، فإن هناك من يرى أن قضايا الرسالة نفسها هي قضايا بدون معنى ، لأنه ليس ما يقابل هذه القضايا في الوجود الخارجي ، وإنما هي مجرد فرضيات ميتافيزيقية. وعلى ذلك ألا يمكن القول إن هناك تناقض فيما تقوله الرسالة وفيما تهدف إليه (9) . أي أليس هناك خلاف بين دعوة التشبت بقضايا العلم والصمت على كل ما هو ميتافيزيقي وبين إنتاج قضايا ميتافيزيقية في الر سالة ؟
يجيب فتجنشتاين عن هذا السؤال فيقول " إن من يفهمني سيعلم آخر الأمر أن قضايا كانت بدون معنى" (10). لكن هذا الذي يصفه فتجنشتاين بأنه بدون معنى ، هو في حقيقة الأمر له فائدة ، وفائدة "قضايا الرسالة " تشبه فائدة السلم الذي نستخدمه للوصول إلى مكان مرتفع ثم نلقي به بعد ذلك ، على هذا النحو فإن هذه القضايا وإن لم يكن لها معنى فإن لها فائدة . هكذا فإن من يفهم فتجنشتاين سيعلم جيدا ، أن قضاياه ذات فائدة. وهي التي تجعلنا نرى العالم بطريقة صحيحة ، وذلك بعد أن نعرفها ونتجاوزها ، كما لا تكون أية أهمية للسلم بعد أن صعدنا للسقف .
لكن وبالرغم من هذه الانتقادات التي تعرضت لها رسالة فتجنشتاين من حيث إنها كتاب مليء بالفلسفة والميتافيزيقا ، فإنه لا يمكننا أن نبخس أهمية هذا الكتاب ، خاصة وأن تيارات فلسفية مهمة قد تأثرت بما جاء في الرسالة من قواعد منطقية وتحليلية ، على رأس هذه التيارات الوضعية المنطقية ، الأمر الذي يدفعنا للقول بأن قضايا فتجنشتاين ليست مجرد لغو أو كلام لا يقال .فإن نقد فتجنشتاين واعتبار قضاياه بأنها بدون معنى إنما يقع في بنوع من الدور الذي يتمثل في أننا حين نحكم على الرسالة بدون معنى ، فإن المعيار الذي نحكم به على هذه الرسالة هو قضايا الرسالة نفسها ، وعلى ذلك فهذا المعيار كذلك بدون معنى ولا يصلح لأن يكون معيارا نستخدمه في الحكم على القضايا.
الإحالات
(1) Tractatus Tractatus Logico_Philosophicus.Trad_G .Gtanger. Gallimard. Paris, 1993 P 106
(2)Tractatus P 102
(3)Tractatus 4. 4211
(4) ورد هذا التحديد في كتاب المنطق واللغة والمعنى في فلسفة فتجنشتاين لرشيد الحاج صالح . ص 89
(5)Tractatus 4. 46
(6)Tractatus 6. 11
(7) Tractatus 5. 43
(8)Tractatus 7
(9) المرجع نفسه . ص 112
(10) رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي إسلام. مكتبة الأنجلو المصرية ص 60