ليست الفلسفة ترفا كما يعتقد عامة القوم، بقدر ما أنها ليست فكرا أضحى من التراث الإنساني كما يرى بعض النقاد، لا وليس الفكر الفلسفي أداة نستعملها متى شئنا ثم نرفضها عندما نريد... إن أول إساءة للفلسفة كفكر تتجلى في اعتبارها تطاحنات فكرية أو عبارة عن أقاويل تسبح في بحر من المتناقضات التجريدية المحضة، بينما اعتبرت الفلسفة وعلى مر العصور تثمينا لمجهودات فكرية وعلمية وأدبية، وتتويجا لعصارة حضارة بعينها، الفكر الفلسفي فكر راق جدا، من ثمة كان من الصعب استيعابه لدى الحضارات التي لا تؤمن بتحرير العقل، ومنه فثقافة العبيد هي من عملت دوما على الحط من قيمة الفلسفة، هذا وإنه ليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بقدر ما أنها تصور واقع ونمط وبنية تفكير كل ثقافة وكل فرد.
إن كل رافض للفلسفة إنما يرفض ضمنيا روح النقد، وحس المغامرة الفكرية، وتحرير العقل من التبعية والقصور الفكري، هذا علما أن نفس الفكر ليس بمثابة بضاعة قد نختارها أو نرفضها وفق اختياراتنا، ومنه فبدل أن تضعنا الفلسفة بين الرفض والقبول، يمكن أن تسقطنا في ثنائية الخوف والإقدام، الفلسفة إقدام وشجاعة، إنها انفلاتات الفكر نحو التأسيس لفكر آخر، وبناء للهوية كاختلاف وليس كثبات، وتقويض للنموذج الواحد لصالح النماذج المتعددة، وخلخلة للمركز نحو العودة إلى الهامش، ودحض للخطاب الوحيد نحو الخطابات المتعددة، وتفكيك للنص المستبد لصالح النص المنفتح المتغير، وهدم للطمأنينة إرساءً لمنطق الانتقال والترحال نحو المجهول، ربما لهذا الأمر يخاف منها المفكر التوتاليتاري، مثلما يتوجس منها العاجز عن التفكير، وبقدر ما يرتعب منها حارس وقاضي الفكر، بقدر ما توقظ مضجع الجاهل فكريا، ومنه فقد توجب التذكير بأنه كلما عم الجهل غابت الفلسفة، وكلما ساد التخلف كنا بحاجة إليها، وكلما حلمنا أكثر كلما كان حضورها أكبر.
الفلسفة لا نختارها، وإنما تختار نفسها بنفسها، إنها قدر الأقدار ومنالٌ لمن تَمَكَنَ من السمو بنفسه، وحوار مع الذي يصعب التحاور معه، وإلا فلماذا اقترن ظهورها عند الإغريق بظهور نمط جديد من الحياة؟ وعليه فلنعد مثلا إلى فيتاغورس كي نكتشف معه أن العدد سر العالم وجوهره، وقد لا نفاجأ عندما نرى اينشتاين يردد قائلا: tout est calculé، ولنرجع أيضا إلى جدل هيراقليطس وإلى النار كأصل للعالم، كي نكتشف اليوم أن الفيزياء الذرية تشتغل وفق قانون الجدل، وأن اكتشاف النار ثورة كبرى في تاريخ الإنسان، وأن الشعوب التي عبدت النار على مر العصور عرفت التجريد قبل ظهور التجريد، دون المرور طبعا على زينون الإيلي وبراهينه حول الثبات والحركة، وهي نفس البراهين التي اشتغلت عليها النسبية العامة وفيزياء الحركة خاصة، من ثمة فالبدء الأعظم مع الإغريق ليس إلا تعبيرا عن وصولهم إلى ما وصلوا إليه من تقدم وازدهار على كل الأصعدة.
في نفس السياق، قد يقول قائل ما، أن الإعلان عن موت الفلسفة ونهايتها لم يأت إلا من عند أهلها، فهذا الفيلسوف الألماني الكبير فتغنشتاين يتوقف في كتابه: tractatus logico philosophicus على نهايات التفكير، طارحا السؤال الرئيسي في هذا الكتاب: هل يمكن معرفة الحقيقة؟ peut- on connaître la vérité ? إذ عمد وبشكل كبير على تحوير الفلسفة من جانبها التأملي إلى جانبها الرياضي، لسبب بسيط يكمن في مشكلتها الكبرى التي تمثلت دوما في الوصول إلى الحقيقة دون تحقيق ذلك، عكس المنطق الرياضي الذي تمكن من التأسيس للحقائق اليقينية، ومنه فإنه لا يمكن لأحد العثور على حقيقة ما خارج الفكر الرياضي عكس الفكر الفلسفي، والحال أن ما قاله الرجل جاء نتيجة اشتغالاته المضنية في الرياضيات والفلسفة معا، والنتيجة من كل ذلك أن الفلسفة ماتت ولم يعد لها أي دور سوى الحفاظ على الصمت.
أن يعلن فيلسوف عن نهاية الفلسفة وعدم جدواها، ليس كمن يعلنها شخص من العامة، لسبب بسيط أن الإعلان عن نهايتها مشروط بفهمها أولا، عكس الرجل العامي الذي لا يعرفها لكنك تراه يطلق عليها حكما يكاد يصنف ضمن الأحكام المسبقة، لهذا فنهاية الفلسفة حسب بعض الفلاسفة ليست إلا الإعلان عن ضرورة الاحتكام إلى فلسفة أخرى، إنه تعبير عن ذكاء ودهاء منقطع النظير يعطي للفلسفة شحنة إضافية، ومعنى آخر من خلاله تعود الفلسفة إلى مساءلة نفسها، ومنه فموت الفلسفة فلسفيا ليس سوى ولادتها من جديد.
إن الخوف من الفلسفة هو إساءة للعقل والإنسان على حد سواء، كما أن رفضها ليس ينم إلا عن جهل كبير بما ينبغي أن يكون عليه حالنا، على العموم ليست الفلسفة في حاجة إلى من يدافع عنها، كما ليس بمقدور أي كائن كان قتل العقل في الإنسان، وإن تحقق مبتغاه مع فئة معينه فإنه لن يعم الإنسان برمته، ومنه فلا بد من التذكير أن للفلسفة دورين رئيسيين، الأول عملي محض والثاني نظري تجريدي، الأول ينتجه الفيلسوف ويقدمه كوصفة للعامة تحريرا لتفكيرها، وزرعا لإعمال العقل فيها، وتشجيعا لها على التخلص من كل قصور ومن كل تبعية للآخر، بينما الثاني خاص بأهل الفكر كنقاش داخلي، لهذا فسؤال ما الأنوار؟ الذي صاغه كانط إنما وجهه إلى الجميع، بينما وجه ثلاثيته النقدية مثلا إلى أهل الاختصاص، والحال أن تطاول شخص من العامة على ما يُكتب لأهل الاختصاص يجعله يحكم على الفلسفة بالعقم بينهما يجهل طبيعتها وجوهرها، كما أن كل حشر للأنف في ما لا يفهم بتلك السهولة التي نعتقد، إنما سيؤدي بنفس الشخص إلى العودة إلى قصوره والاعتقاد أنه الحقيقة عينها.
مجتمعنا في حاجة ماسة للفلسفة، لأنه بواسطتها سيتخلص من كل أشكال التبعية ومن عقمه الفكري، كما ستساعده على رسم حدوده في علاقاته مع الأشخاص ومع الأشياء، وبقدر ما ستلقنه مبادئ منطق التدبير العقلاني للأمور، بقدر ما ستفتح أمامه باب الابتكار والخلق، لكن شريطة ألا نَقُصَّ منها بعض الأجزاء أو نضعها تحت الرقابة، إذ الفكر حر بطبعه، والرقابة عمياء جاهلة، وما الجمع بينهما إلا صنع لقنابل إنسانية قد تنفجر في أية لحظة دون التمكن من السيطرة عليها.