يعتقد السواد الأعظم من الناس وهو الأمر الشائع، أن لكل لون دلالته وأثره النفسي على المتلقي،فالألوان عوالم روحية تقتحم اختيارات الفرد عبر العين، وقوى خفيفة جدا تسمو بكيانه ووجدانه، لكن بين هاته الألوان تباينات جمة واختلافات متعددة، من الصعب فك شيفراتها إلا بالنسبة إلى أهل الاختصاص، والذي لن يكون إلا الرسام، هذا ويتفق أيضا السواد الأعظم أن اللون الأسود من بين الألوان حضورا منذ القديم ،غير أنه أخذ للأسف دلاله سلبية ربما يبدو من الجهل بمكان ربط ما نعتقده حول الأسود بماهية الأسود نفسه، فأية علاقة يا ترى يلبس فيها اللون الأسود هاته الدلالة السلبية التي أعطيناها إياه؟
الألوان تترك فينا انطباعا لا محالة، لكن سيبدو من الغريب أن نقول في هذا الصدد أن كل فرد منا يتمثل اللون الذي يراه، إذ العين هي التي تدرك وليس الدماغ، في مقابل ذلك لا بد من التسليم أن الألوان تعرف تغيرا كبيرا جدا خارج الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وداخل أحلامنا وكوابيسنا أيضا، من المسؤول عن هذا التغيير، الواقع أن اللونين الأبيض والأسود هما اللاعبان الأساسيان في هذا الأمر.
قد لا يهمنا الأبيض في هذا المقام لسبب بسيط هو أننا نعتقد فيه البياض والسلام والنور والجمال أيضا، لكن وفي مقابل ذلك سنحاول إعادة قراءة الأسود على ضوء زاوية المنسي فينا... اللون الأسود لون فرح ولحظة السعي إلى خلق عالم منشود ضمن الواقع، إذ عندما نتلقى دعوة الحضور إلى حفل بهيج، أو لقاء مع الأصدقاء... يرتدي أغلبنا نساء ورجالا هذا اللون الغامض، من ثمة فإن حضوره حضور فرح ولقاء، وليس حضورا للغياب، إنه يعمل على تحقيق الغائب في الحاضر، وعلى إضفاء التذكر في النسيان.
واللون الأسود أيضا لون حلم ولون خيال، ولون ذاكرة تسبح خارج كل الضرورات، الأسود يلعب لعبته الصامتة في حالة التذكر، وعندما نكون بصدد التفكير في كتابة شيء ما، إننا نخطط في الأسود سعيا لإخراجه إلى حيز المرئي، وإلى مشاركة ذلك مع من نعرف، كما لا نتردد في القيام بكل شيء في الأسود، من ثمة قد نعتبره تلك الحرية الممنوعة، وتلك الترجمة المناسبة للطبيعة الطبيعية للإنسان، وعليه فلا شك أنه لون بوح غير محدود، من خلاله نقترب كثيرا من إنسانيتنا بمعزل عما فرضته علينا الأخلاق والأديان والقوانين الوضعية... إن الأسود والبوح سيان، إنهما صديقان حميمان، حيث يستغلهما الطبيب النفسي لإنجاح حصصه مع المرضى الذين يجدون متعة كبيرة في تذكره ما تم نسيانه، كما يستغله الأحبة في غرف النوم عند لحظات اتخاذ كبرى القرارات.
لوننا لون فن وجمال بكل المقاييس، حيث السينما أسود في أسود، إذ كلما ازداد سوادها كلما عظمت سينمائياتها، واتسعت علاماتها الفنية، وسَمَتْ جوانبها الغامضة فينا، فنسبح في الأسود كما لو ولدنا من جديد، ومعه نقف مشدوهين أمام الزمن المتقلب فينا، حيث نصنع لأنفسنا أزمنة خارج هذا الزمن، وأمكنة خارج هذا المكان، وبما أن الأسود كذلك فإنه لون الكينونة المنسية ولون الوجود الأصيل بلغة فيلسوف الغابة السوداء هايدغر، إنه لون تذكر الوجود كغياب، ولون الإحساس بنسيانه كحضور.
الأسود أيضا لون حبر لا ينمحي، والحبر إخراج للفكرة من الغياب إلى الحضور، من النسيان إلى تذكر النسيان، ومن الذي لا يَنْقال le non dit إلى الذي يسهل قوله بالخط، إنه كتابة للذي لم نتمكن من كتابته قبلا، مثلما هو رسم وتجسيد للمجرد الذي يسكننا على نحو مجرد، حيث تصبح لغته لغة إحداثيات وخطوط تترجم الجانب الصوفي فينا، ومجال من مجالات ألعاب الحياة، ومنفذا يسافر بنا من فكرة على أخرى، فيستحيل الأسود من هذا المنطلق كلمة تحمل بين طياتها عوالم لا حصر لها، وتحمل حيوات لا متناهية أبدا سرمديا وأزليا.
والأسود أيضا حياة باذخة وأنيقة جدا، إنه يقربنا مع من نحب في أيام الأعياد وفي لحظات الفرح، حيث يلبس ثوب الهدية كما يرتدي عباءة الدنو والاقتراب، لهذا قد لا نستغرب عندما تكون أغلب هدايانا سوداء سواد أناقة حبنا لمن نحب، إن الأسود إذن تعبير عن اللامعبر فينا، واحتواء للجانب الفارغ منا، ومنه فالأسود انفلات من الرسمي ومن الإرادة المهيمنة، إنه صنع لعالم الإنفلاتات المتكررة، وعود أبدي للاختلاف وقتل جامح للتكرار...