في أن أحلامنا ليست لنا ..
يقول "جي ديبور" في مؤلفه الشهير "مجتمع الفرجة "، بأن هدف الاقتصاد هو تطوير ذاته، غاية التصنيع مزيد من التصنيع، هدف الرأسمال مراكمة الرأسمال ، و دفع الناس في اتجاه أن يكونوا مجرد متفرجين سلبيين،حشودا من الخاضعين الضائعين، الهادئين، المتواطئين مع الأقلية المالكة للرأسمال و لوسائل الإنتاج ضد بعضهم و ضد أنفسهم أيضا،،،الفرجة عند "جي ديبور" تبدو عندما يتحلق الناس حول رغبات مشتركة، يعتقدونها رغباتهم ، فإذا هي معدة سلفا من قبل الماسكين بخيوط اللعبة، بمعنى أن "النماذج "و "المثل"، سواء كانت أشخاصا أو أنماط عيش أو أفكارا و مواقف و قيم ، يتم تسييدها، تقحم في صميم الحياة اليومية للناس، في صميم "متخيلهم "، تفرض عليهم فرضا..يتخيل الناس بعد إغراقهم في بحر الصور ما يراد لهم أن يتخيلوه ، و يحلمون بما يسمح لهم بأن يحلموا به، تذوب الذوات الفردية في قوالب فتصير شبيهة ببعضها..تعيش الوهم و تعتقده واقعا، و لا تحدد بدقة الفيصل بين الواقع الفعلي و ما يصور أنه الواقع، تتعطل إمكانية بناء وعي طبقي أو وطني،فتهزم الأحزاب و الإطارات المناضلة ، و تستريح الرأسمالية إذ يقدس الناس ما تروجه من وهم و تعيش هي الواقع الفعلي، تهاجم قوت الناس و رؤيتهم للعالم و للوجود ، تضخم إحساسهم بالانتماء إلى ما لا ينتمون إليه فعليا، و تقزم شعورهم بالانتماء إلى بعضهم، تخلط في عمق إحساسهم بين الصديق و العدو، تخلق ضبابية الوجود ، الفوضى العارمة ،الاستيلاب ، لذلك فالمجتمع الصناعي حسب "جي ديبور" يشتغل بالأساس على الصور و تكرار الصور ، يشتغل على بناء متخيل الناس و أحلامهم ، و على إبعاد الناس عن الواقع و عن أحلامهم و متخيلهم الخاص ، الذي يشكلونه بأنفسهم و لا يقترحه عليهم أحد .
الأحلام تفرض و لا نختارها حسب "ديبور "، نكون فيها متفرجين على تفاهتنا. في هذا السياق يستحوذ على الذهن سؤال كبير ، كيف نحول الحلم و التخيل إلى فعل فردي إرادي يخدم واقعنا الفعلي، و نصمد من خلاله أمام إرادة تحويلنا إلى حشود تعيش خارج التاريخ؟
يرى جاستون باشلار _فيما يرى_ عند بحثه في "شاعرية أحلام اليقظة" أن الأحلام ليست من طبيعة واحدة ، الأحلام أشكال و ألوان .
أحلام النوم و أحلام اليقظة حدثين بتفاصيل مختلفة. أحلام النوم ليست لنا. إنها خاطفة. تنسى كأنها لم تكن. أحلام الليل من دون حالم و لا سارد، شخوصها بملامح غريبة و من أزمنة متفرقة و غريبة، إنها لاواعية ، مرعبة أحيانا و مفرحة أحيانا ، نجتهد لنستعيدها و لا نستعيدها كما هي و لو اجتهدنا ، أحلام الليل هي سطوة الخوف الذي يسكننا نحو الواقع الفعلي أو هي تحقق واهم و زائف لرغبات تسكننا نحو الواقع الفعلي...أحلام النوم تحتاج لتفسير، لذلك فالآخر يعطيها دلالة و معنى، إنها ليست لنا اذن ، هي لمن يعطيها دلالة و معنى...لنا الأحلام التي ننسجها و أعيننا شاخصة ، لنا أحلام نهارية نبدعها و نختار شخوصها و تفاصيل الأحداث، لنا أحلام ننتقي الكلام و نلبس الراوي ما نشتهي ، نختار العقدة و الحل و نختار الأزمنة و الأمكنة و الديكور و الاكسسوارات الدقيقة المعنى . أحلام اليقظة واعية لأن الحالم واع ، الحالم هو أنا و أنت و نحن ،الحالم يترك نفسه للحلم فينفتح على الوجود كما يشتهيه، و ينفتح عليه العالم كما يشتهيه، يحلم لا ليهرب من واقع معطى كما قد يعتقد بل لكي يعيش الواقع المعطى، لنا أحلام ننسجها عندما نختلي بأنفسنا، عندما نمنح لأنفسنا فسحة للشرود و لا يصفر علينا أحد .. لا رقابة في الحلم النهاري ، إننا نحلم لنغير وجه العالم أو على الأقل لنجمله كي يصير محتملا..حيث لا يمكن تغيير واقع دون فهمه و رسم الاستراتيجيات المنطقية .
إن الحلم بهذا المعنى هو شرط إمكان الوجود ، و هو نقيض الحنين فهو شرط تدميره ، الحلم مفتاح سعينا نحو تملك العالم و نحو التعايش معه، لذلك يتدخل الرأسمال لإفساده أو لرسمه على مقاسه، و الحنين انغماس في الماضي و رغبة في استعادة زمن لا يعود ، الحنين دليل عدم اقتناع الشخص بحياته الواقعية و صعوبة الاندماج في الراهن ، هو إيمان بأن العالم كما تصورناه في الطفولة و المراهقة خال من اللصوص و المنافقين و الفقر و الحاجة مستحيل جدا ، في الحنين نكتشف عزلتنا فندخل عوالم سوداوية و قاتمة ، الحنين ارتكان للماضي ، الحلم النهاري اندفاع نحو تحقيق الذات ، نحو تحقيق طفولتنا المشتهاة ، الحلم سعي نحو التحقق و الحنين استعادة و بكاء و ندم ...و هنا يشتغل الرأسمال ، انه يخلق الإحباط و يزكي الحنين ، إحباط رجل أو سيدة لا تستطيع تحقيق حلم ابنتها بفستان سهرة و لا أن تحقق حلمها في تقاعد مريح ، فيصير الأبدع على الإطلاق هو ما كان .
إن ما ميز الإنسان عن باقي الموجودات بالمعنى الباشلاري أنه حالم ، انه لا يقنع بوجوده في العالم كمجرد معطى طبيعي بل توقه إلى ذاته التي يرسم ملامحها و يسعى خلفها باعتبارها مشروعه و باعتبار قابليتها للتحقق الفعلي. يبدو الإنسان في الواقع تائها هائما متعجلا مرتبكا يفتش في تفاصيل حياته عن" النموذج المثالي" الذي يريد أن يكونه _كما يقول فيبر _ فيرسمه، يرسم صورة المرأة التي يشتهي،متأنقة و متألقة، و ترسم الرجل كما تشتهيه ،ذكيا و حنونا و عذب الكلمات ، يرسم الدين كما يشتهيه ، يرسم بيته فسيحا و أطفاله كالملائكة بصحة جيدة و عافية فكرية، يرسم السياسة كفن و علم و السياسيين يقتحمون الواقع و لا يخشون التماسيح، يرسم الحب يحيطه ، يرسم المدينة بعلاقاتها و بتفاصيلها ، ينزوي بعيدا يفكر في كل شيء و في لا شيء ، يتكتك حياته و يدرس الاستراتيجيات . يتدخل الحلم لانتشالنا من قهرنا لأنفسنا في كل مرة إن نحن استدعيناه ، و إن نحن منحنا أنفسنا لحظة لنا نناجي الطفل الساكن فينا. يقول باشلار بأن أهمية الحلم النهاري تبدو عندما نكتشف في أعماق الحياة و غالبا متأخرين ، عزلاتنا الطفولية، عزلات الطفل الذي كنا، و عزلاتنا المراهقة ، نفهم متأخرين أنا كنا نوجد على شاكلة و نحلم بوجود مختلف، نفهم أنا في زمن الطفولة الأولى كنا نحلم بطفولة أخرى، بالانسيابية و العفوية و العذوبة التي طمرت و انتزعت منا، " في عزلة الربع الأخير من الحياة نفهم عزلات الربع الأول ." ، نفهم متأخرين كل ما نفهمه ، نفهم متأخرين كل شئ ، نفهم متأخرين أنا اغتصبنا و حرمنا الحياة و نعرف هذا النقيض الذي حرمنا الحياة ،الحلم النهاري يجعل وعينا الطبقي يطبخ عل نار هادئة ، نكتشف أننا بدل أن نحيا حياتنا ، متنا قبل أن نحيا حياتنا أو أنا عشنا حياتا بإيقاع لم نختره ، نفهم أن التوفيق غاب عنا فحاصرتنا انكساراتنا من كل صوب، ارتسمت صورة العالم أمام أعيننا قاتمة و حالكة . تضاعفت إمكانيات ضياع الذات و إمكانيات تثبيت القائم و تخليده فابتدأت الرتابة و الاكتئاب و ما رافقها من جلد للذات و تحقير لها...كبرت الرغبة في الانتحار و الطلاق و التنلص من كل شئ ، فانتعش الرأسمال و هو لا ينتعش _على كل حال _ إلا عندما يضيع الجمع الغفير ذاته فيبني له ذاتا مستعارة إلى حين ...بالحلم النهاري نتصدى لارادة تبضيعنا و تضييعنا و تسليعنا إذ نرسم لأنفسنا هوية و مسار حياة .
احلموا تصحوا هو شعار المرحلة