مدخل:
استلهم جاك ديريدا الآلة النيتشوية للكشف عن الفاني من التاريخ، لا البحث عن النفس الخالدة وبذلك أصبحت الميتافيزيقا هدفا للتهجم، لتحطيم أصنامها لمّا تعطلت مقولاتها اللغوية، فالميتافيزيقا تسكن اللغة وتهيمن على العقل البشري بتعالي خطابها على اللغة ذاتها وهي تهيمن بفرض خطابها واعتباره صادرا عنها لا عن البشر، وقد أطلق ديريدا على هذا الطابع ميتافيزيقا الصوت بسيادة الكلام على حساب الكتابة.
- فهل استكنه ج. ديريدا سلطة الصوت لوضعه قائما بين الوعي والحضور؟
- هل كان لجينيالوجيا الكلام عنده امتدادات همّت المساءلة المتجذرة للحداثة الغربية؟
- هل كشف البحث في اللوغوس عن الطابع الاصطناعي القاصر للمفاهيم؟
- هل فكك تاريخ الميتافيزيقا بما هو خطاب مهيمن يفكك شجرة المعنى ويحتقر الكتابة عبر كبت النص بمحو سواده؟
- كيف يمكن لبياض نص اللوغوس من تقديم نفسه في تاريخ الفلسفة؟
- ما هي دلالة الكتابة عند جاك ديريدا بما هي حركية لتجلي الجسد الديريدي عبر الإنصات إلى كلام الذات؟
إن التبسيط والاختزال هو عدو المنهج الحديث، لهذا كانت ماهية التفكيك déconstruction في مستواه الدلالي العميق يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبُؤر الأساسية المطمورة فيها"([1])
وقد قام ديريدا بمساءلة الأسس المنطقية التي يقوم عليها الفكر الغربي، كما ساءل مجموعة المفاهيم المرتبطة بحقائق ثابتة اكتست على مرّ الزمن صبغة المقدس لدى الفكر الغربي، وعند تسليط جهازه التفكيكي عليها حاول خلخلة أسسها الميتافيزيقية واللاهوتية، واعتبر بذلك أن بين نزعة العقل المركزية المسلّطة على الوعي الغربي و"نزعة الصوت المركزية Phonocentrisme: تقارب مطلق بين الصوت والوجود، بين الصوت ومعنى الوجود، بين الصوت ومثالية المعنى" ([2])
فديريدا يرى أنه"يتعين الابتعاد عن كل فكر متمركز حول العقل، بل إنه يجمع كلا من الدلالية والمثالية والتمركز حول العقل في السياق نفسه الذي يضع فيه التصور الأحادي الخطّي للتاريخ والفكر" ([3])
1- الوعي والحضور التفكيكي عند ديريدا
أ- سلطة الصوت بين الوعي والحضور.
إن مفهوم الكتابة عند ديريدا لا ينفصل كليا عن الصوت باعتباره الناطق عن الداخل والمتجلّي في علاقته بالمعنى كأحد التصورات الميتافيزيقية المبنية على الحضور الذي باستطاعته تكرار ذاته لمأسسة الوجود الواقعي. إن حضور الواقع على صورة متكررة يشحن بخصائص، الوعي بها لا ينهي إمكانية ميتافيزيقا الحضور على نبذ الأنموذج المؤسس كحضور مثالي. فالكتابة الصوتية عند ديريدا بهذا المعنى تنزع إلى تذويب وجودها المادي تحت ضغط الحضور الواقعي إلى حضور المعنى، هذا الحضور المثالي الذي ينقلب إلى انتفاء الحضور وغيابه عن الإمكان.
وعندما تحقق الكتابة الصوتية حضورها كوعي على اعتبار أن الصوت يسمع ذاته داخل النص ولا يستمع إلى كاتبه، فمعنى ذلك أن غياب العالم، أو نسيان الدال، كنسق مادي للذات لا يبعد التفكيكية عن الميتافيزيقا. فعندما يشكل الصوت سلطته عبر الرجوع إلى عقلانية اللوغوس الأولى واعتبار ماهية هذا الرجوع هو ما يربط الحضور بالحدوس التي يمثلها الشعور كحضور مبدئي غير أمبريقي، فهذا الحضور للصوت كوجود مثالي يمثل نوعا من الحضور الدائم يعتبره المعنى جسده المادي للتحقق، من هنا انطلق ديريدا لاعتبار ظاهراتية هوسرل في فهم المعنى والدلالة بربطه بمعنى الحياة كفلسفة وتجربة معيشة.
فإمكانية تحقق الدلالة أو قيام المعنى لا يمكن أن تستوعبه سوى الثنائية الترنسندنتالية كلام/كتابة، لإبراز الاختلاف بين المعنى داخل الصوت الذي يتيح للغة شرط وجودها كنظام دلالي يقول ديريدا في كتابه "الغراماتولوجيا" "كنّا نقول "كلام" للحدث، الحركة، الفكر، تعبير، شعور، لا شعور،تجربة، إحساسات الخ، والآن نرمي إلى القول"كتابة" من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى: من أجل تحديد لا فقط الحركات الجسدية وتسجيل الحروف، والأشكال أو التشكيلات، لكن أيضا مجموع ما يجعل الكتابة ممكنة"([4]). فالنسق الصوتي يعطي للُّغة قابليتها لإنتاج الدلالة من غير الإشارة إلى المحسوسات، فهي تُنَمّي حضور المعاني في الذهن عن طريق الحدس المباشر حتّى استحالة العثور على الوساطة اللغوية لفرط تجريديتها بالكتابة الصوتية الشيء الذي يذهب مع ديريدا الى أن يتحول العالم إلى صور لدلالات أوّلية سابقة على وجوده.
إن ديريدا في إطار مساءلته للامفكر فيه والمسكوت عنه ضمن الميتافيزيقا، قد أبان عن نوعية العلاقة بين الحضور أو الوعي والصوت.
ب- جينيالوجيا الكلام أو احتقار الكتابة.
يحدد ديريدا "الكلام" في انتفاء جميع الحدود بين الأجناس الأدبية فهو الفكر والشعور واللاشعور والتجربة وينتقل إلى اعتبار الكلام مرحلة سابقة على الكتابة من حيث أن النزوع إلى هذه التسمية "الكتابة" يشير إلى اعتبار تمظهراتها إضافة إلى تضمين محمولات الكلام فهي تحتوي عموم ما يجعل تلك الخصائص ممكنة، وبذلك يصبح كل من اللاشعور والتجربة والفكر والحركة عناصر معاصرة وحيّة للغة وليست سابقة عليها كما كان مع الكلام، إذ أن تحقق الإمكان عبر الممكن الوجود يسمح به ذلك التلازم الواضح بين النشاط المثالي لدلالة الصوت واللغة التي فتحت إمكانية القبض على المعنى كحضور وارد والسيطرة المتجلية في الإحساس بامتلاكه والشعور به بالرغم من أن اللغة ودون استحضار الدلالة القصدية لها لا تخرج عن كونها علامة متصلة بإمكانية الكلام داخل خطاب لا يستطيع حسب هوسرل ومن بعده ديريدا أن تحتفظ دلالته اللغوية على روح العلامة الواردة في القول أو الكلام يقول ديريدا في كتابه "الصوت والظاهرة": "الدلالة القصدية هي الجانب الروحي من العلامة، بينما تشكل لفظة (sim) الجانب المحسوس منها"([5])
فالحتمية المادية للعلامة بهذا المعنى تصبح مادية تفرضها الكتابة من خارج النص على وظيفة الكلام كجسد منطوق للخطاب، كصوت يجعل النفس تتأمل ذاتها في حوار داخلي مع نفسها، لذلك نرى أن نقول مع ديريدا "يجب التفكير في أن الكتابة هي لعبة الكلام" ([6])
2- علم الكتابة عند ديريدا.
أ- علم الكتابة قبل الكلام وداخله.
إن ديريدا لا يفصل بين الداخل والخارج، بين داخل مثالي مطلق مملوء بالحدوس وخارج يعمل على تعليق المفاهيم ويجعل العالم موجودا في ذاته بينما هو معطى من معطيات الحقيقة عنده والتي إذ تجد تعليلها في ما يضفي عليها دلالة ومعنى تتحول إلى ظاهرة متعالية قابلة للمعرفة والتفكيك.
فالخط الوهمي الذي يفصل بين الداخل والخارج يخضعه ديريدا للتفكيك فتتحطم علاقة التبعية التي يسيطر فيها مصدر المعنى كتعسف ميتافيزيقي على العلامة الإشارية للغة. فابتهاج وإعجاب الخطاب بالكلمة حال دون إيلاء الكتابة الاهتمام الذي تستحقه، من هنا يبدو أن هذا الاعتبار المطلق للكلمة يجب أن يكون حسب ديريدا غير مقصود لذاته حتى تضمن المصادر الأولانية لثقافة ما شرعيتها المثالية وحتى يرتبط تأويل الموجودات بمنطق عقلاني، منطق الفكر المنتج لها كإحساسات متمركزة باللوغوس " أو خطاب أو عقل حاضر في قلب ذاته،لاينفعل إلا بذاته،ولا يحتاج إلى سند أو ضمانة آتية من مرجع براني عليه" ([7]).
إن الزوج المفهومي داخل/خارج الذي تمحورت حوله استراتيجية "علم الكتابة" عند ديريدا قد شغلت الفكر الغربي الميتافيزيقي، فجعل الوجود الحقيقي مجرد فكرة مجردة مُلحقة بعالم الظواهر والأشياء، جعل ظاهراتية هوسرل تعمل على تطهير الشعور من تداعيات العمق الداخلي لأجل تأسيس المعنى الشفاف المنفتح على موضوعه الخارجي.
إن "إرادة القول" التي وضعها هوسرل وجعلها حكما مسبقا ميتافيزيقيا متعلقا بقصدية احتمالية تحرك الفكر نحو الوجود عكستها التفكيكية فجعلت هذه الثنائية قادرة على الحضور بين إمكانية التعبير المثالي وبين العلامة الإشارية، أي جعل قدرة الكلام كداخل تدرك المعنى الموجود خارجه، فالإنصات إلى الذات وهي تتكلم مع اعتبار تفوق العوالم الداخلية على العوالم الخارجية يعكس الحضور القوي لأشكال الحديث الداخلي الذي لا يقيم وزنا للخارج إلا باعتباره دالا تقتضي ضرورة صياغته في انمحائه ونسيانه، من منطلق أن الكتابة لا تفترض الحضور المباشر للمتكلم فهي تتعالى عن التحيين، إذ العلامة المكونة لجسد النص تختلف عن الصوت أثناء التكلم إذ لا يمتلك النص خاصية البقاء، لانمحائه عند نهاية الحديث.
فالكتابة قوة تجعل الفلاسفة يقفون حذرين من تدميرها للحقيقة الفلسفية التي يريدون تقريرها، فالكتابة تلوث الأفكار الفلسفية المجردة. وقد ناقش ديريدا ثنائية الصوت/الكتابة من خلال إستراتيجية أسمتها "بالعنف" من منطق الاختلاف، "ففي الوقت الذي يكون الكلام مشحونا بالحضور يحتل الحضور في الكتابة مكانة ثانوية" ([8]). ويعتبر ديريدا الكتابة موازية للكلام ولهذا فإن "الغراماتولوجيا" ترى أن ليس هناك شيء قبل اللغة أو بعدها "فمفاهيم الحقيقة والعقلانية ما هي إلا من نتائج المجاز والاستعارة" ([9]). ومن ثم كانت الكتابة عنده تقود النص إلى ما لانهاية من توقعاته باعتبار أن الحقيقة كما عند نيتشه وهم تحتاج في تحققها النسبي إلى تجاوز حدود المعاني المعطاة نحو أصل المعنى ولهذا كان النص الميتافيزيقي لا يستمع إلى كاتبه لأن فضاء المعنى المتعلق بالكتابة يبتعد عن المدلول عكس ما يحققه الصوت للمعنى (فكرا أو واقعا)، "فالصوت قريب جدا من المدلول signifié" ([10]).
أما الدالsignifiant فله أبعاد نستنتجها من "الإنصات إلى كلام الذات" فالصوت يسمع ذاته وفي أقرب نقطة من ذاته يساعد الدال على انمحائه المطلق لأن "الدال سيصبح شفّافا على الوجه الأكمل، نظرا للقرب المطلق للمدلول"([11])، ومن خلال هذا النسق الفكري اعتبر ديريدا أن "تاريخ الميتافيزيقا هو الإرادة المطلقة للإنصات إلى الذات "([12]).
- ب- تعالي " الأثر" أو الماضي المطلق.
إن مفهوم "الأثر" عند ديريدا قد استقاه من ليفيناس الذي يتساءل حول تناقض التجربة التي يتركها الآخر كآخر بالنسبة لذواتنا، فغرابة الآخر تحدد تعاليه بما أن العلاقة معه تتضمن تدخلا يأتي من الخارج.
فالحضور كما صاغه ليفيناس يحافظ على العلاقة الترنسندنتالية للإله/الإنسان "إن الحدث المنتظر ينعطف نحو الماضي بدون أن يعاش... في أي حاضر.."([13]). فما لا يمكن اختزاله في بساطة الحاضر هو الذي وضع إمكانية إحالته على "الأثر"trace، فحسب ديريدا "إذا كان الأثر يحيل إلى ماضي مطلق، فمعنى ذلك أنه يلزمنا بالتفكير في ماضي لا يمكننا أن نفهمه في شكل الحضور المُعدّل، كحاضر ماضي" ([14]).
إن المفهوم الميتافيزيقي للزمن يحول من خلال منظور "الأثر- الأساس" archi-trace أي من المدلول إلى دال جديد يتجاوز التلقي البسيط إلى التلقي المركب كما عبّر عنه مونتيني". إن تأويل التأويلات أشق من تأويل الأشياء "حيث أن الكثافة الدلالية للنص لا تجد صلابتها إلا في التأويل" فالصلابة أو الكثافة الدلالية المميزة للنص الميتافيزيقي مصدرها هو ذلك التراكم التكراري للتأويلات. يتعلق الأمر باستعارات مترسبة تسعى القراءة الجنيالوجية إلى اختراقها عبر خلخلة وتفكيك تماسك طبقاتها" ([15])
إن الأثر عند ديريدا لا يحيل الى مدلول ترنسندنتالي وإنما "يمكن أن نسمّي غياب المدلول الترنسندنتالي لعبة"([16]( بما هو حدود اللعبة ذاتها فهي لعبة تتداخل فيها الأجناس الأدبية من السمانتيك إلى علم النفس أو إلى أجناس أخرى، فعلم اعتباطية العلامة هنا يشكل جوهر العلم بلا حركية "الأثر"، علم الكتابة قبل الكلام وداخله، الذي يغطي حسب ديريدا حقلا شاسعا من الداخل حيث يحدد اللسانيات بعزل فضائها الخاص في حدود موضعة النسق الداخلي عند دي سوسور حيث يعيد مقاربته بحذر في أي نسق يهتم بثنائية كلام/كتابة عبر العالم والتاريخ، وعبر" التحويل الذي لا يمكن أن يكون أقل من شفاهي" ([17]). فاستخدام مفهوم "الأثر" للإحالة على ما وراء المعنى هو استخدام ميتافيزيقي عند ديريدا لكلمة لا تحمل في ذاتها شيئا من الميتافيزيقا تجعل التعامل مع الحقيقة بلغة الإشكالية وتقدم نفسها لحقل القراءات المختلفة التي لا تتوقف، بقول ديريدا في "الكتابة والاختلاف". فما من كلمة تكون ميتافيزيقية في ذاتها، بل إن طريقة استخدامها هي ما يكون ميتافيزيقيا" ([18])
3-ميتافيزيقا الحضور ولعبة التفكيك.
أ - تعالي الحضور ولعبة التفكيك.
الفلسفة بما هي زمن الموجود الحاضر والحضور الحاضر تصنع من العلامة الدال الذي يتجاوز الوجود كحضور، ولتعميق لعبة التفكيك عند ديريدا فقد فكّر في اللعبة كغياب للمدلول المتعالي خارج الحاضر، وللتفكير في هذه اللعبة فقد اشترط الانهاك الصارم للإشكالية الأنطولوجية والترنسندنتالية مع التجاوز المتأنّي والصلد لسؤال دلالة الكائن، الكائن بما هو الأصل المتعالي للعالم، مع الانقياد الفعلي إلى نهاية الحركة النقدية لتساؤلات هوسرل وهيدغر وإعطائهما النجاعة والمقروئية. وقد يحيلنا التصور الهيدغري للعالم إلى التصور الجنيالوجي لنيتشه الذي يشخص التفكير الأولي للعبة العالم قبل محاولة معرفة كل أشكال اللعبة داخل العالم، يقول ديريدا "نحن إذن في بداية اللعبة في التطور المؤقت للعلامة"([19]) ويقترح التعامل مع "الأثر" في الغراماتولوجيا باعتباره عملية وليس كحالة أو بنية معطاة يقول : "تطور الأثر يجب الاعتراف به كعملية وليس كحالة، كحركة فاعلة، une dé-motivation، وليس كبنية معطاة" ([20])
وقد شكلت ميتافيزيقا الحضور النواة الصلبة في نقد ديريدا للعقل الغربي المتمركز حول المنطق ويدعو إلى اللامركز والتعدد وعلم الكتابة نحو تأسيس أخلاق لهذه الكتابة التي تشاكس اللغة المنطوقة نحو تأسيس تخطّي لجدار اللغة في اتجاه الكتابة ذاتها، فالاشتغال على ثنائية الحضور/الغياب عند ديريدا من خلال فهم العلاقة الجدلية بين هذين المستويين في جسد الخطاب يجعل "الحضور حسب التفكيك رهينة مرئية، والغياب ظلاله الكثيفة العميقة الغائرة، المحيط المضطرب المتسع الذي لا قاع له ولا شواطئ، وهو المدلول الذي ينطوي على خاصية الانفتاح المستمر على القراءة"([21]).
وفي إطار هذه اللعبة، لعبة الإخفاء والتجلّي هاته" فإذا كان النص لا يقول الحقيقة، بل يخلق حقيقته، فلا ينبغي التعامل مع النصوص من خلال ما تقوله أو بما تنص عليه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده" ([22]). فالنص عند ديريدا" لا يكون نصا إلا إذا أخفى عن النظرة الأولى قانون تركيبه وقاعدة لعبته، وهو يظل لا مدركا على الدوام "([23]). فوفق هذه الإستراتيجية يؤسس التفكيك لتحرير عمل المخيلة وجعل العملية النقدية موضوعه، وبذلك أسس ديريدا لمواجهة "ميتافيزيقا الحضور" التي تكوّنت بفعل "التمركز حول العقل" المعتمد في حقيقته على "التمركز حول الصوت" أي العناية بالكلام على حساب الكتابة.
ب- التدبير العام للنص أو لعبة"الاخـ(تـ)ـلاف ".
لقد ردّ جاك ديريدا الاعتبار لدور العلامة اللغوية في وجودها الحدسي على وجودها المادي وجعلها تحضر في "المثال" الذي يحدد الوظيفة التعبيرية عنده كخطاب صامت في غير حاجة إلى الإشارة. فميتافيزيقا التعبير تدفع بالنص إلى أن يجعل النظام الوظيفي يقف بين ثبوثية نظام العلامات كواقع مادي خارجي والتصور الذي يفعّل تدبير النص كخطاب داخل النفس، يعكس شحنات دلالية ثاوية في استطاعتها تحرير المثال من قبضة الواقع، فالعلامة ليس لها حضور مادي فما هناك سوى لعبة"الاخـ(تـ)ـلاف" لا غير. فالاختلاف يحشد ضمنه دلالات ذات خصائص مكانية وزمانية وصوتية، يترك للمتلقي اقتناء الدلالة الخاصة به.
- فكيف يمكن التيقن أن Différance هي Différence بغير الكتابة؟
إن مصطلح "الاخـ(تـ)ـلاف" يقوم على اصطدام الدلالات وقد أجاب ديريدا في كتابه الكلام والظاهرة "عن كونه يعني بالاختلاف الإزاحة التي تجعل أي نظام مرجعي عام عبارة عن بنية من الاختلافات" ([24]).
فالاختلاف عند التفكيكية نوعان:
1- اختلاف مع الإبقاء على حرف "e" Différence ويمثل أثرا من آثار الاختلاف القبلي، إن النسخة التي تلي النص الأصلي هي التي تؤسس لتسميته بالأصل تدفع بمساره الدلالي نحو الأثر الذي يعدل النص في أصليته فـ"الأصل طريق إلى الأثر مثلما يكون اليوم الأوّل في حياتنا يوما أوّل في اتّجاه الموت في آن واحد معا"([25])
2- اختلاف مؤسس Différance "الاخـ(تـ)ـلاف" يبرز تميزه بالحرف الصامت(a) الذي يظهر في عملية النطق وكأنه الغائب-الموجود، الغائب صوتا والحاضر كتابة ولكنه فاعل داخل الخطاب الميتافيزيقي الغربي. "الاخـ(تـ)ـلاف" يجتاح العلامة محوّلا عملياتها إلى"أثر" لا حضور ذاتي لها تجعل المعنى غير حاضر بشكل مستمر بالنص، فهو معنى مؤجل بشكل لا نهائي، والنص لا يتحدد بالمعنى الواحد الذي يبحث عنه المتلقي الواقع تحت سلطة الحضور العام للنص حيث تهيمن فكرة الحضور. لهذا يولي ديريدا أهمية قصوى للعبة الاختلاف التي تتحكم في عملية تأصيل وتعالي الدلالة. فقد واجه سلطة النص بحرية جعلته يتنقل بين خارجه وداخله حيث يجد المتلقي في رغبة اللغة إمكانية للبحث عمّا هو مُغيّب فيها مما يحقق لقارئ النص عشقا ولذة تدفع بالتفكيك إلى اقتراح قراءة متعددة الأوجه للخطاب.
خاتمة:
إن التفكيك بتأكيده على التعدد" الاخـ(تـ)ـلاف" وإلغاء الحضور والتعالي، يهدف إلى تقويض نماذج الحضور التي تستند إليها الحضارة الغربية بما يسمح بظهور بدائل حضارية تتغاير في نظمها عمّا أرسته الميتافيزيقا الغربية وبذلك اعتبر ديريدا نفسه "امتدادا للفلسفة الهايدغرية ويقرأ التراث المفكرين الغربيين بهدف خلخلة أساسه العقلي والتحرر من الميتافيزيقا للانخراط في عوالم المتخيل والاختلاف والهامش، لكن بالرغم من هذه الفروق فإنهم بقوا سجناء الوعي بضرورة تهديم أسس الوعي" ([26])
المراجع والهوامش
1- عبد الله إبراهيم، سعيد الغانمي، عواد علي، معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 1990 الصفحة:114.
2 -Jacques Derrida, De la grammatologie, collection, critique, les éditions de minuit, 1967, p : 23
3- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"-نموذج هابر ماس-، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، سنة:1998، الصفحة:234.
-4Ibid,p :19.الترجمة منّي
-5 Jacques Derrida, la voix et le phenomene, paris, P.U.F 1967 p :20
6 - De la grammatologie, p : 73.
7- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف"ترجمة كاظم جهاد، مقدمة المترجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1988،ص: 26.
8- معرفة الآخر، ص:133.
9- نفس المرجع، ص:135.
10 -Ibid, p :115, p : 22
11- J. Derrida, La voix et le phénomène, p : 90
12 -Ibid, p :115.
13- De la grammatologie, p : 211
14 -Ibid, p :97
15- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي، سلسلة دراسات وأبحات 11، جامعة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الانسانية، مكناس، سنة:2003، ص:119.
16 - Ibid, p :73
17 - Ibid, p :74
18- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" الصفحة :52.
19 - DE La grammatologie, p : 74
20 - Ibid, p : 74
21- معرفة الآخر، ص:116.
22- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، الصفحة:121.
23 - Derrida (j), la dissémination, seuil, 1972, p : 71أخدا عن الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد ص: 121---
24 - La voix et le phénomène, p :42.
25- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" مقدمة المترجم، الصفحة :31.
26- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"، الصفحة:335-336.
[1]- عبد الله إبراهيم، سعيد الغانمي، عواد علي، معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 1990 الصفحة:114.
[2] - Jacques Derrida, de la grammatologie, collection, critique, les éditions de minuit, 1967, p : 23
[3]- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"-نموذج هابر ماس-، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، سنة:1998، الصفحة:234.
[4]-Ibid,p :19.الترجمة منّي
[5]- Jacques Derrida, la voix et le phenomene, paris, P.U.F 1967 p :20
[6] - De la grammatologie, p : 73.
[7]- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف"ترجمة كاظم جهاد، مقدمة المترجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 1988،ص: 26.
[8]- معرفة الآخر، ص:133.
[9]- نفس المرجع، ص:135.
[10]-Ibid, p :115, p : 22
[11] -J- Derrida, la voix et le phenomene, p : 90
[12] -Ibid, p :115.
[13] - De la grammatologie, p : 211
[14] -Ibid, p :97
[15]- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي، سلسلة دراسات وأبحات 11، جامعة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الانسانية، مكناس، سنة:2003، ص:119.
[16] - Ibid, p :73
[17] - Ibid, p :74
[18]- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" الصفحة :52.
[19] - De la grammatologie, p : 74
[20] - Ibid, p : 74
[21]- معرفة الآخر، ص:116.
[22]- د.محمد أند لسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد، الصفحة:121.
[23] - Derrida (j), la dissémination, seuil, 1972, p : 71أخدا عن الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: 121.
[24] - La voix et le phénomène, p :42.
[25]- جاك ديريدا، "الكتابة والاختلاف" مقدمة المترجم، الصفحة :31.
[26]- محمد نور الدين أفاية"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة"، الصفحة:335-336.