إن أول جميل يمكن أن نسديه للقراءة هو قراءتها كما ينبغي أن يكون عليه الأمر، إذ ما ليست القراءة ذلك الفعل الذي من خلاله نتيه بين الأسطر محققين استمتاعا، لا وليست نشاطا أو عملية نتحكم فيها، حيث نقرأ ما نريد ونطرد ما لا رغبة لنا في قراءته، القراءة قراءتان، قراءة ساذجة يكون القارئ فيها هو المفعول به، والثانية يكون القارئ فيها محاربا، للقراءة الأولى نتائج وخيمة على صاحبها كما للقراءة الثانية معالم ليست تستنبط إلا بفضل التمكن من فعل القراءة.
ليست القراءة عل العموم هبة من القدر أو من الرغبة في القراءة، كما ليست ترفا أو حاجة نقضي بها مآربنا ثم ينتهي الأمر وكأن شيئا لم يكن، القراءة أفعى تبدو أنها ترقص لنا طواعية، في حين أنها تتحين الفرصة السانحة للانقضاض على ضحيتها، حيث نصبح مجرد لعبة في يدها، تحركنا في كل آن وحين، وتلعب بنا أيما لعبٍ، لهذا سنكون أمام نوعين من القراء، القارئ اللعبة والقارئ المغامر، أي قارئ مفعول به وآخر فاعل مؤقتا أو دوما، الأول أي القارئ اللعبة هو الذي يعتقد أن القراءة مجرد تسلية، أو مجرد هواية وترف من خلاله نحصل على معارف ومعلومات نناقش بها من لهم نفس الاهتمام ثم ينتهي الأمر، وبما أنه لعبة فإن قراءته هاته تكون قراءة بليدة جامدة لا غير، على النقيض من ذلك تعتبر القراءة الثانية قراءة متحركة جدا، قراءة يكون القارئ فيها هو البطل، حيث يستغل المادة التي يقرأها فاتحا بذلك عوالم لفائدة أخرى، ومانحا لنفسه فرصة أكبر للفهم والتحليل.
القراءة الأولى قراءة تسليمية وثوقية ودوغمائية، نَصُّها لا يمكن أن نُناقشه كما لا يمكن أن نُحاجَّهُ، إنه نص ثابت يملي أكثر مما يملى عليه، فيعدو هو البطل وقارئه هو السجين أو الضحية، بل إن الأمر يزداد استعصاءً عندما يتحول إلى عقيدة ثابتة تنطلق من سوء فهم كبير، ومن نقص أكبر في تأويل النص المقروء، بيد أن القراءة الثانية هي قراءة لامحدودة المعنى، قراءة لا تقف عند المعنى الواحد كي تحتفظ به، وإنما تستعمل المعنى المؤول لخذمة مصالح القارئ، حيث ما إن ينتهي دورها حتى يكون القارئ قد صنع منفذا في نفس النص، من خلاله يقدم تأويلا آخرا لما قرأه وهكذا دواليك.
والقراءة الثانية أيضا تُعَدُّ مجالا لصنع ألعاب الحياة، حيث نكون أمام قارئ فارس، وليس أمام قارئ رهينة، إذ القارئ الفارس يتمثل القراءة ككذب فقط، أو ينظر إليها كمغامرة وجب التعايش معها ومسايرتها إلى أخر رمق، عندها يصبح فعل القراءة عنده لهوا يجب نسيانه كلما انتهى، وعرسا يحتفل به في انتظار عرس موالٍ وذلك استقبالا لقراءة ثانية وثالثة ورابعة... أما القراءة الأولى فإنها قراءة تخاف من القارئ المغامر، فتفتح ذراعيها للقارئ الرهينة، حيث يصبح رهينة للاعتقاد الثابت، وللتأويل الوحيد الذي قد يقتل من يخالفه، بل إنه يلقن تأويله لمن يأتون بعده، حينها تتحول قراءته إلى دين أو إيديولوجيا ثابتة.
تتغذى القراءة الأولى من النصوص الدينية ومن نصوص القانون، متوجسة من النصوص الفلسفية خاصة الشذرية منها ككتابات برمنيدس أو هيراقليطس أو نيتشه أو دوبرويار، والتي تتمرد على النص الثابت مصدعة ومحولة إياه إلى نص لا متناهٍ تأويله، مثلما تخاف القراءة الأولى أيضا من النصوص الأدبية التي ترسم حيوات ومعالم متعددة في الوقت الواحد، كنصوص كافكا وكامي وأندري جيد وكونديرا، متنطعة هي الأخرى من النص الصارم إلى النص العبثي، هذا ويمكن أن نضيف أيضا القراءة العلمية التي تعتبر القطائع ديدنها، وتلعب النسبية فيها دورا محوريا لا مناص منه، بيد أن الأمور قد تأخذ مجريات منعكسة أحيان، كأن يتحول القارئ الرهينة إلى قارئ فارس عندما يتخلص من تأويل النص الديني أو القانوني، معرضا حياته للخطر، مُتَّهَمًا من طرف القراء الرهائن إما بكفره وزندقته، أو بأنه مثير للفوضى وحرب الكل ضد الكل، في مقابل هذا الشأن، قد يتحول أحيانا القارئ الفارس إلى رهينة، عندما تلسعه أفعى القراءة الساذجة، حينها يجني على نفسه إلى الأبد، محولا النص الفلسفي من طابعه الزئبقي إلى نص فاشي لا يقبل التأويل إلا وقتله، أو إلى أيقونة ناسيا أنه سيمولاكر لا يستقيم على أي حال.
القراءة الأولى أي القراءة الثابتة أو القراءة اليقينية، يمكن أن نمثلها بالإله أطلس الذي كان يتعذب وهو يحمل قبة السماء كي لا تسقط على الأرض حسب الميثولوجيا الإغريقية، بينما يمكن أن يلعب ديونيزوس دور الممثل الكبير للقراءة اللعبة، أو القراءة التي تحب الكذب والنسيان، خارجة عن طاعة الثبات والوثوقية المطلقة، لهذا وبعودتنا إلى الفيلسوف الألماني نيتشه، نجد أنه لمح إلى ضرورة أن يكون الفيلسوف محاربا ومغامرا، لأن الفلسفة أنثى في كل اللغات، والأنثى تحب الرجل المغامر بدل الرجل الذي لا يستقيم طوال حياته سوى على حال واحد، وبما أن إلهة الحكمة أنثى وهي أثينا طبعا ـ أو الإلهة مينيرفا حسب بعض المؤرخين في هذا المجال ـ فقد كانت تجمع بين شيئين متناقضين ألا وهما التسلح المطلق والحكمة، بيد أن في ذلك إشارة كبيرة إلى ربط الحكمة بالحرب أي بإعلان الحرب على كل ما نقرأ وليس بالإذعان لما قرأناه وما سنقرؤه، من ثمة فإن زمن القراءة الأولى هو الماضي الذي ما يلبث أن يعاد دوما، في حين أن زمن القراءة الثانية، هو زمن اللحظة الخارجة من ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل.
وعليه وكجماع لما تم ذكره في هذا الباب، فقد توجب علينا أن نتخلص ولو لبرهة وحيدة من القراءة العمياء، ساعين إلى القراءة اللعبة، كما يفترض من كل قارئ مبدع أن يقرأ النصوص الثابتة بغرض إعادة قراءتها حسب السياق وحسب التاريخ، والحال أن من بين الزلازل التي لا زلنا نعاني من ويلاتها ليست تكمن إلا في سوء فهم الدين وسوء فهم القانون، وهما الناجمان على الامتثال لقراءة القرآن والسنة قراءة دوغمائية، لا تسعى إلى النقد بقدر ما أنها تنحو منحى تسليميا، لهذا ولهذا فقط فإنه لا شك أننا بتنا اليوم وفي أكثر من أي زمن آخر، بتنا في الحاجة إلى القارئ المغامر وليس إلى القارئ البقرة الذي يجتر ما قرأه منذ زمن بعيد محتفظ به تماما، ربما عن طريق هذا الشأن يمكننا أن نتخلص ولو بالنزر اليسير من هاته الحروب التي نخوضها بسبب القراءة المتزمتة للنصوص التي تنظم حياتنا اليومية، أي الامتثال للقراءة الأولى بدل القراءة الثانية.