سنتحدث في هذا الباب عن الفكر الفلسفي بالمغرب من خلال بعدين رئيسيين، بعد فكري محض، وآخر بيداغوجي تربوي، الأول نحصره في جانبه المعرفي، في مؤلفات مفكرينا وإشكالاتهم كما في قضاياهم التي تنزلت منزلة الأس من البنيان في كتاباتهم، في حين أن البعد الثاني سيتمحور بالأساس حول سؤال تدريس الفلسفة بالمغرب ومجموع نتائج ذلك على ذهنيات الناشئة وطرق تفكيرهم، سنحاول أن نُعَرِّي أكثر مما نُسْهِبُ، كما سنعمل على تكريس خطاب نقدي بدل الغرق في دائرة جلد الذات.
يعتبر جل المستشرقين الذين عملوا على إعادة قراءة تراثنا الفلسفي أن كتابات فلاسفتنا القدامى لم تكن إبداعا فلسفيا كان له كبير أثر على التاريخ الإشكالي للفلسفة، بقدر ماكانت مجرد إعادة تأويل للتراث الفلسفي الإغريقي، خذ بنا مثلا شيخ الفلاسفة المسلمين الكندي نستشف مشروعه الفلسفي، أو قل مشكلته الفلسفية ولنعرج إلى ما كتبه الشيخ الرئيس أو المعلم الثاني، حيث الإشكالات الأنطولوجية هي هي، والفلسفة السياسية لم تستطع إلا أن تعيد ما قاله كل من أفلاطون وأرسطو، أما فيلسوف قرطبة فإن كتاباته لم تبرح منطق الشرح والتفسير والتعليق، سواء مع فلسفة المعلم الأول، أو نحو الفلاسفة المسلمين ناهيك عن المتكلمين وفي مقدمتهم المعتزلة والأشاعرة، إذا قرأنا هذا الشأن بحياد مطلق يمكن أن نسير في ما سار فيه المستشرقون، حيث تغيب الإشكالية الفلسفية ومعها يغيب أي إبداع فلسفي، حيث تتغذى كل فلسفة بإشكالاتها وليس بترفها.
لقد ساهمت عدة عوامل في هذا الفقر الفلسفي، حيث لم نكن في حاجة إلى تفسير فلسفات ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، بقدر ما كنا أيضا في حاجة إلى تعنيف تاريخ الفلسفة لإنتاج الفلسفة، وبما أننا أخلفنا هذا الأمر فقد كانت حضارتنا تربة خصبة للسقوط في الانحطاط المزمن وهو ما حدث نهاية الأمر، في نفس المعرض ساهم سوء فهم الفقهاء للفلسفة في نبذها، معتبرين إياها إلحادا وزندقة وكفرا، دون أن تكون لهم دراية ولو متواضعة بهذا الفكر. وبما أن خطاب الفقهاء كان هو الأقرب للعامة، فقد نجح التأليب الذي دُبِّرَ بقصد، دون مقاومة للفلاسفة الذين انبطحوا عند أول مواجهة تفاديا للتنكيل الذي يمكن أن يطالهم مثلما طال سقراط وهيباتيا... في نفس السياق لا شك أن الفلسفة كانت دوما ابنة المدينة. فالمدينة هي التي خلقت الفلسفة السياسية، والمدينة هي أيضا من وضعتنا أمام سؤال الأخلاق، المدينة تكون قابلة دوما لتغيير الأفكار والقناعات، بينما كانت ولازالت بنيتنا القبلية تعتمد على التعصب والجهل، ونبذ كل ما هو دخيل، وبما أننا لم نعرف مدينة بكل ما تحمله هاته الكلمة من قيمة ومعنى، فقد استعصى على الفكر الفلسفي أن يتوغل في بنية العرب الذهنية، الفكر الفلسفي شجاعة، شجاعة في القول وأخرى في الفعل، والفكر الفلسفي أيضا مغامرة فكرية لا يستوي والبنية الضيقة التي كان المطلق أسلوبها في العيش.
عندما نشر الغزالي كتابيه الرئيسيين مقاصد الفلاسفة، ثم تهافت الفلاسفة، فلا شك أن بعد لحظته تم طرق آخر مسمار في نعش الفكر الفلسفي الإسلامي، صحيح أن رد ابن رشد خاصة في فصل المقال، وتهافت التهافت قد شكل مساهمة محترمة وتصحيحا لهفوات الغزالي، فإنه ومع ذلك لم تسلم أمتنا من السقوط في الانحطاط في أقصى صوره، والدليل هو أن ابن رشد لم يخلف مدرسة قائمة بذاتها سواء في الغرب الإسلامي أو في مشرقه، لهذا وانطلاقا من اعتبارات تاريخية عدة فإنه لا ينقصنا إلا أن نعتبر أن آخر محاولة في التفلسف كانت مع فيلسوف قرطبة، حيث غبنا عن كل إبداع فكري إلى أن تعرفنا مرة أخرى على الغرب المُعَمِّرِ الذي ذكرنا بأهمية السؤال وبأهمية النقد، وأن الإنسان لا تكتمل إنسانيته إلا بإعمال العقل ولا شيء غير العقل، بيد أننا لا زلنا لحد الساعة غير قادرين على الاستفادة من دروس وعِبَرِ الماضي، فلنعد إلى الأطروحات المكدسة في جامعاتنا باحثين فيها على مثيل لأطروحات لايبنتز وكانط وهيجل وفوكو ودولوز ودريدا، أو فلنبحث عن ما مدى مساهمتنا في الفكر العالمي. ربما ليس فكرنا في حاجة إلى معلقين على مؤلفات الفلاسفة الكبار وشرحها، كما أنه ليس في حاجة إلى إعادة اجترار إشكالات الفلسفة الغربية، فكرنا في حاجة إلى مُشَرِّحين وليس إلى شارحين، كما أنه في حاجة إلى متمكنين من فهم بنية تفكير مجتمعنا، وليس إلى استلهام إشكالات غيرنا، فكرنا أيضا يجب أن يتخلى على مستنقع إشكاليات الهوية والتاريخ... لصالح سؤال تدبير الاختلاف، وكيفية إعمال العقل، وحوار الحضارات، والإصلاح الديني... عندها نكون قد تخلصنا ولو بالنزر القليل من الكتابة فيما كتب عنه، والحال أن اجترارنا هذا هو من كان السبب في عدم تحريك عجلة التفكير إلى الأمام، بما أن الفكر تقدمي بطبعه وليس تراثيا، لكننا بوعي منا أو بغير وعي نعيد قراءة الفكر الفلسفي تراثيا، مبتعدين عن الأسئلة الحالية الكبرى، من ثمة فإن ما قمنا به ولا نزال نقوم به هو إساءة للفلسفة من أهلها وأصحابها، فما بالك بخصومها الذين يحكمون عليها دون معرفة لها.
قرر النظام التعليمي المغربي، اعتماد تدريس الفلسفة خلال نهاية الحماية الفرنسية على المغرب، قدوة بالدول المتقدمة، وأيضا سعيا إلى تحرير العقل من القيود الجاثمة عليه، انتصارا للحداثة على حساب مجتمع أثقله الجهل وأثقلته الأمية، لهذا فقد فتحت ثانوياتنا وجامعتنا أبوابها أمام فكرة تدريس الفلسفة، حيث لعبت دورا كبيرا من طرف المدرسين الذين ساهم انتماؤهم الإيديولوجي في تحويل المادة إلى سلاح مهم للتربية على النقد وإعمال العقل إعمالا قويما، حيث لا زال التلاميذ القدامى يتحسرون على تلك الدروس الرائعة، وإشكاليات العقل والنقل، وسحر اكتشاف الفكر الاعتزالي، والصراع الشهير بين المثالية والمادية، إضافة إلى دروس علم النفس والفلسفة الماركسية... لكن وبدل أن تكرس الدولة حس النقد هذا مشجعة على حرية التعبير وعلى التفكير الحر، كانت قد غردت خارج السرب، معتبرة أن كل تفكير حر هو بمثابة تهديد مباشر لكيان النظام السياسي، عندها عادت مرة أخرى إلى التعتيم على الفلسفة وإلصاق التهم بها، وإن كانت قد نجحت في تخدير أجيال بأكملها فقد ساهم هذا التخدير أيضا في عودتنا مرة أخرى إلى انحطاط مقصود، أصبحنا اليوم نعيش نتائجه، حيث أن من بين أكبر أسباب التطرف الذي بات يهددنا اليوم هو العمل على تغييب الحس النقدي فينا، لكن ونظرا لمكر التاريخ، فقد فكر نظامنا التعليمي ابتداءً من الاعتداءات الإرهابية على مدينة الدار البيضاء في ماي 2003، فكر في اعتماد تدريس الفلسفة بداية من الجذع المشترك، حيث نقرأ اعترافا كبيرا من طرف القائمين على الشأنين التربوي السياسي، بأهمية الفكر الفلسفي كسلاح ضد التطرف، وكمقاومة للجهل، بيد أنهم قفزوا على المنطق الذي تسير به الفلسفة، إذ ليست الفلسفة أداة وقطعة غيار نستعملها وقتما شئنا ونرفضها أيضا عندما نريد، الفلسفة قدر رغما عن الجميع، كما أنها تيار جارف يعري عجزنا وفسادنا وخوفنا من السؤال، من ثمة فلنتشجع على تقبل أخطائنا برمتها ثم بعد ذلك نفكر في اعتماد الفكر الفلسفي كأساس لهذا البلد، والحال ان كل تغريد خارج هاته الدائرة، سيسقطنا في سوء فهم الفلسفة ومنه قد نجد أنفسنا في تطرف من نوع آخر.