"لا يوجد للإنسان أي شيء ذي أهمية سوى التفكير في أن المستقبل الذي سيعدو أفضل من الحاضر، أو أفضل بكثير من الماضي."
ـ وليام بفاف ـ
" أيها المواطنون، اعلموا أن القرن التاسع عشر قرن عظيم، بيد أن القرن العشرين سيكون قرنا سعيدا."
ـ فكتور هيجو ـ
" نسيان التقدم سيصبح تقدما في حد ذاته."
ـ بيير أندري طاكييف ـ
لا يمكن للعالم اليوم ـ نتحدث عن العالم المتحكم في كبريات القرارات ـ ألا يمر عليه يوم واحد من دون ذكر مفهوم التقدم le progrèsمئات ومئات المرات، وكأن هذا المفهوم لا يمكن إلا أن يضفي طابع الرخاء والفضيلة على العالم، فلنعد مثلا لخطابات جل كبار رجال السياسة نحللها ونستشفي خبايا سطورها، كي نستنتج إما بسذاجة مفرطة أو ذكاء مبالغ فيه، أن هذا الخطاب لا تدور رحاه إلا على فكرة التقدم، فهذا برتراند تفرنيي يؤكد في أحد تدخلاته على شرف لقاء حضره آنذاك وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي في السادس والعشرين من أكتوبر 2002 عندما قال وبعبارة لا تخلو من دلالات إيديولوجية: "إنه إقتراب، وتقدم يحمل كبير اعتبار." (1) مادامت غاية السياسة في نهاية الأمر تحقيق التقدم على كل المستويات، في معرض آخر قد لا يكاد يأخذنا العجب عندما نلفي أنفسنا أمام قول آخر حول فكرة التقدم، والذي ليس إلا من مفكر من عيار ثقيل ألا وهو جون ماري غويو، حيث يرى أن "الاعتقاد في التقدم هو اعتقاد حاط من قيمة الماضي لصالح الحاضر والمستقبل."(2)، إنه ذلك الوعد الذي يساعد العالم في تخطي معضلاته ومشاكله، أما بدونه فإن الجميع سيسقط في العبث وغياب كل الخيوط التي من شأنها تنظيم حياتنا نحو تحقيق الأفضل.
الحملات الانتخابية في كل دول المعمور، وبرامج الرؤساء والمرشحين في كل المجالات لا تنفك كلها تتفق على نقطة وحيدة ألا وهي تحقيق التقدم، سواء كان في الحزب أو النقابة أو الشركة، بل وحتى في التجمعات غير الشرعية كالعصابات الإجرامية... إذ لا غاية لكل هؤلاء سوى السير على خطى التقدم المرتبط حسب اعتقادهم بالنجاح، لكن هل يعني هذا دوما أن التقدم هو تحقيق الإزدهار، وما علاقة التقدم بسيرورة التاريخ؟ وكيف حاولت الفلسفة أن تعيد مفهوم التقدم إلى مجهر التأمل والتمحيص والتحليل؟ وما هي العلاقة التي ربطت التقدم بالمجالات الكبرى للإنسان من سياسة ودين وعلم...؟ وهل يمكن للتقدم أن يحمل صيغة إيجابية فقط، أم أن سلبياته لها هي الأخرى نصيبا كبيرا منه؟
بعودتنا إلى التاريخ بحثا ونبشا في أهم مرحلة أو بالأحرى أهم حقبة تنزل فيها التقدم منزلة الأس من البنيان، نكاد نتفق أنه تم ذلك إبان عصر النهضة الثالث، لدرجة أن مفكري تلك الحقبة تملكهم مرض ترديد مفهوم التقدم، وذلك بفضل اكتشافهم لملكات العقل من جهة وأيضا لتفوق الإنسان على كل الأشياء بما فيها الطبيعة من جهة ثالثة، دون المرور مر الكرام على أبرز التغيرات التي لحقت العلم من خلال إعادة الشك في البديهيات العلمية، بما أن " التفكير العلمي عُرف بكونه الشكل الوحيد القادر على التفكير في التقدم."(3) ناهيك عن مسألة الإصلاح الديني التي كان لها كبير أثر هي الأخرى في تبلور هذا المفهوم عن طريق دحض مسلمات لصالح أخرى، مما عجل حينئذ بتحرك التاريخ ليس عودة إلى الخلف وإنما تقدما إلى الأمام، هذا التقدم جعل العصر الحديث يكتشف نفسه مرة أخرى، بروح خلاقة انبهرت أيما انبهار بقدرات الإنسان اللامحدودة.
والحال أن أوربا التي مرضت بمفهوم التقدم إبان الحقبة الحديثة، بفضل تضافر عوامل عدة، هي نفسها أوربا التي أعادت ترتيب العالم آنذاك، مجددة كل مظاهر الحياة وعلومها وفنونها، مانحة بذلك نفسا جديدا لروح الكون، مختصرة المسافات الطويلة، محققة في ظرف قرون معدودة ما لم تستطع عديد الأمم تحقيقه في أكثر من ذلك، ولا شك أن اللحظة البايكونية ـ نسبة إلى فرانسيس بايكون ـ هي اللحظة التي نال فيها مفهوم التقدم حظوته الكبيرة، بل إنها " اللحظة التأسيسية لمفهوم التقدم."(4). حيث تمكن الإنسان من زرع روح أخرى في التاريخ مفتخرا بملكاته النائمة التي حان لها الوقت أن تستيقظ، وحيث "أمل الإنسان بدأ في الشعور براحة القوى التي وهبته إياها إنجازاته المعرفية."(5)، لهذا فعلى هذا الكائن إن أراد أن يفعل في الطبيعة، عليه أن يعي قدراته الخارقة، وعليه أن يعلم علم اليقين أن العالم ليس يمكن له التوقف على معنى واحد، وأن التغير نحو الأفضل هو من صميم الطبيعة الإنسانية، مستفيدا بذلك من كل ما سيقدمه له الفكر والمعرفة على حد سواء، ما دام أن "العلم والإرادة الإنسانيين يسيران جنبا إلى جنب، لأن الجهل بالأسباب يعزل النتائج."(6).
لقد تعددت أسباب تبلور فكرة التقدم كما رأينا، مستفيدة من مجموع اكتشافات عصر النهضة الأول والثاني، حيث عاش العالم آنذاك سيناريو التغير والتقدم، بفضل الاكتشافات الجغرافية الكبرى وقبلها الثورة الكوبرنيكية التي قدمت رسالة للجميع، مفادها أن لا شيء مطلقا، وأن للإنسان إرادة يمكن بواسطتها أن يحقق ما لم يحققه أجداده وهكذا دواليك، إن العالم عندما يتقدم فالتاريخ هو الآخر يعرف تقدما، وتقدم التاريخ نفسه هو من صميم تقدم المعرفة، لأن جميع التحولات الكبرى التي شهدها الإنسان جاءت نتيجة تقدمها، فخذ بنا مثلا إلى فلاسفة العقد الاجتماعي أنفسهم وفكرة معالجة هذا المفهوم أنثروبولوجيا،، حيث التقدم تقدم من حالة الطبيعة إلى حالة التحضر، والحال أن هذا التقدم هو الذي حول الإنسان من حال إلى حال آخر، بغض النظر على حكمنا عليه، فإنه يبقى تحولا نحو الأفضل وإلا لساهمت حرب الكل ضد الكل في انقراض الإنسان منذ زمن بعيد وإن كانت حالة مفترضة، فإنها لا يمكن إلا أن تحمل بين طياتها روح التقدم كعامل للسير نحو الأمام، والواقع أن هذا السير قُدُما يجعلنا نكتشف أشياء ونغيب أشياء أخرى، بقدر ما يضعنا في رحى الإمكان بدل سجن الجمود. "سعادة هاته الحياة ليست تكمن في الراحة والجنوح نحو روح راضية ومطمئنة، لأنه لا يوجد في الواقع هدفا نهائيا، ولا هدفا ساميا، كما نراه في كتب الأخلاقيين الأوائل."(7)
من خلال ارتكازها على فكرة التقدم، استخلصت الفلسفة خلال بداية الحقبة الحديثة درسا رئيسيا، مفاده أن التاريخ لا يمكن له أن يسير إلا نحو التقدم، صحيح أن للعلوم كبير أثر على هاته الخلاصة، بيد أن فهم التقدم كمحرك للتاريخ تأتى بفضل الفلسفة عن طريق العلم، وليس العكس، إذ لولا أبحاث الفلسفة في نتائج العلم لما تمكن الإنسان من الوصول إلى هذا المعنى، أما من جهة ثانية فلا شك أن حمى التاريخ التي ضربت أوربا إبان القرن التاسع عشر اتفقت جلها على خلاصة مفادها أن التاريخ وبفضل قانون الديالكتيك ينحو إلى التقدم وليس إلى التراجع، مستفيدة من خلاصات النتائج التطورية مع سبنسر وداروين ولامارك، وبما أن الطبيعة لا تتوقف على حال واحد فإن الإنسان هو الآخر يخضع لنفس القانون، بيد أننا نتساءل في معرض آخر: هل كل تقدم هو تقدم نحو الأفضل؟
التقدم هو إصلاح للخطأ، محاولة منا لتجاوز ما لا يعجبنا، استجابة إلى جشعنا وإلى مرضنا الذي لا يتوقف عند حال إلا ليتجاوزه، هذه هي روح الإنسان التي لا يختلف عنها اثنان، هذا ولا شك لأن السقوط في فكرة التقدم يجعل الإنسان ينظر إلى الطبيعة كأداة طيعة له، على الأقل بتنا نعيش اليوم نتائج سقوطنا في النزعة التقدموية التي تحصر العالم والتاريخ والإنسان والطبيعة في منطق تقدموي لا قاعدة له سوى زيادة السرعة كلما انتقلنا من خطوة إلى خطوة، ولا شك أن لمكر التاريخ دورا في هذا الشأن، مثلا كان للإنسان رغبة في قطع مسافة معينة في ظرف زمني وجيز، والحال أنه لما تأتى له هذا الأمر لم تقنعه تلك السرعة التي كانت قبلئذ غاية أنموذجا يحتدى به، فابتدع لنفسه وسائل جديدة والتي ما إن استأنس بها حتى أصبحت شيئا ينبغي تجاوزه، باحثا بذلك على أشياء أخرى وهكذا دواليك، هذه هي فكرة التقدم، تنظر للماضي يعين البدائية، وللحاضر بعين عدم الرضى متطلعة لمستقبل أفضل، والذي ما إن يصبح بدوره حاضرا حتى يقع له ما وقع للماضي وللماضي البعيد، أي أن "كل تغير ليس اكتمالا كما أنه ليس تحسنا."(8) لأن التقدم لا غاية له بما انه لا يقف على نموذج واحد، كما أنه تحقيقا للرغد والرفه بما أن كل ما نراه نافعا لنا، عندما يتم تحقيقه يتحول إلى شيء ينبغي تجاوزه.
بعودتنا إلى العالم الذي تحدثنا عنه آنفا، نلاحظ أنه بات يدق ناقوس الخطر بسبب ما كان يراه تقدما، التقدم سيرورة غير منقطعة كما أنه صيرورة ثابتة، إنه يستعبد الطبيعة إلى أبعد حد، وينحو إلى شيء أو قل إلى غاية هو الآخر لا يعرف جوهرها، التقدم هو تقدم نحو السديم والكاووس le chaos، والحال أن العالم الذي سقط في فخ التقدم، هو العالم الذي يبحث اليوم عن بدائل تقيه من أخطاءه غير المنقطعة، لقد فرض العالم سابقا فكرة التقدم على الجميع، وهاهو يفرض اليوم علينا فكرة إعادة النظر في التقدم، ـ أتحدث عن التقدم نظريا وليس التقدم العملي ـ لهذا وبوعي كبير منا فإننا لا زلنا في حاجة كبيرة إلى أن نمرض نحن كذلك بفكرة التقدم، مستفيدين من أخطاء هذا المرض، بعبارة أخرى علينا أن نعيش تاريخنا الخاص لا تاريخ الآخرين بما أنه بيننا وبينهم عشرات السنوات للحاق بهم، والحق أنه كلنا نتفق وفي أكثر من أي وقت آخر أننا نعيش وفق إرادات من هم أقوى منا، لدرجة تطبيق إملاءاتهم بحذافيرها، فكيف يا ترى وجب أن ننخرط اليوم في إعادة النظر في مفهوم التقدم دون أن نعرف معناه؟
________________
1- Bertrand Tavernier, cité par Cécille calla, “le débat sur la double peine relancé” le Figaro, 28 octobre 2002, p :2
2- Jean-Marie Guyau, la morale d’Épicure et ses rapport avec les doctrines contemporaines 1878, 3eme ed ; revue et argumentée, paris 1886, p : 154
3- Pierre-André Taguieff ; le sens du progrès, ed: Flammarion 2004, p : 36
4- Ibid, p : 37
5- Ibid
6- Francis bacon, novum organum 1620, livre 1er, aphorisme 3, trad. Fr. : M. Malherbe et J-M. pousseur, ed :puf, 1986, p : 157
7- Thomas Hobbes, Leviathan, Paris Sirey 1971, p : 95
8- Pierre-André Taguieff ; op, cité, p : 22