"إن المعرفة المطلقة حدسيا، هي المعرفة التجريبية بما أنها عِلَّةُ جميع الموضوعات الكونية، حيث يمكن تلخيصها في الفن والعلم"
ـ كيوم دوكام ـ
هل يجب أن نحكم بالدين، أم بالقانون، أم بِهِما معا؟ كيف سننخرط في العالم والحياة اليومية عندما نلخص الإنسان في بعده الثيولوجي فقط؟ وهل يعتبر الحكم بالقانون تملصاً من الدين كمرجعية؟ هل يجب حصر الدين في جانبه الروحاني فقط، أم أن أنه حاضر في كل علاقاتنا؟ سنحاول قراءة ما تم ذكره في هذا المقام قراءة رياضية، أي أننا سنبني قولنا في هذا الشأن عن طريق البرهان بالخلف، سنفترض كل جواب على حدة، ثم بعدها سنرى مالذي سيحصل، بناءً أولا على معطيات واقعنا الحالي، وأيضا انطلاقا من خصوصياتنا التاريخية، على الأقل ما أحوجنا اليوم إلى مناقشة هذا الموضوع مطولا، والشاهد على ذلك هو الأحداث المتسارعة التي بات يعرفها عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه.
لا شك أن هذا الذي تم ذكره آنفا خيض فيه مطولا منذ فجر الإسلام وإن باحتشام مبالغ فيه، ثم سلك طريقه الواضح منذ القرن الثاني الهجري، حيث لبس معطف التسيير والتخيير، أي هل يحكم الخليفة كخليفة أي كإنسان على غرار الجميع؟ أم أن أقدارنا تمت كتابتها قبل انبثاقنا في الوجود؟ بعبارة أخرى: هل ما يحصل لنا هو بمعزل وبمنأى عن إرادتنا؟ ومنه فإننا نحكم بالدين، أم أن لنا جانبا كبيرا من المسؤولية على أفعالنا؟ كلنا نعرف القصة الشهيرة التي حدثت للمعتزلة عندما أخرجوا هذا النقاش إلى العلن، صحيح أنه نقاش فلسفي بامتياز بيد أنه يتأسس على تربة سياسية محضة، شكلت الفتنة الكبرى والحروب بين الصحابة من أجل السلطة ديدنها الرئيسي، وبما أن الفكر الاعتزالي عاش نزرا من الدهر ثم أُقبر بعدئذ، فإن هذا النقاش بدوره عرف أفوله ليؤجل إلى موعد لاحق، والحق أننا بِتنا اليوم نعيش تَبِعاتِ كَبْتِهِ، مما جعلنا نعيش في عصر جديد لكن بعقلية العصور الوسطى، نخلط بين الديني والدنيوي، نفرض على الآخر ما نريد، ونسمح له بما نريد، مما جعلنا أمة معلقة بين السماء والأرض.
عندما نعود لأصل هاته المعضلة، نطرح السؤال التالي: هل كان النبي نبيا فقط، أم أنه زاوج بين السياسة والنبوة؟ أو بالأحرى وضع السياسة لخدمة الدين، صراحة وبمنطق إبستيمولوجي فقد كان لزاما علينا المرور من الدولة الثيوقراطية التي تحكم باسم الدين، احتراما لسيرورة التاريخ أولا، وعدم القفز ثانيا على خصوصيتنا التي تميزت دوما بالانغلاق على نفسها بسبب بنيتنا القبلية الصارمة، من ثمة فإنه ما من أحد وعلى حد معرفتي، دعا يوما إلى قراءة منطق الحكم الذي كان سائدا عند اليونان، والبَيِّنُ من هذا الأمر، هو أن فلاسفتنا لخَّصوا أرسطو في جانبه الميتافيزيقي والإبستيمولوجي ثم الكوسمولوجي فقط، مبتعدين بقصد أو بغير قصد عن قراءة كتاب السياسة بتلك الجدية التي اطلعوا بها على كتاب ما بعد الطبيعة.
تخبرنا كتب التاريخ وانطلاقا من القراءات النقدية والمناهج العلمية المعاصرة، أن النبي لم يقتصر دوره فقط على التبليغ، وإنما تعداه إلى تنظيم شؤون المسلمين، والشاهد على ذلك هو مجموع الأحكام التي وردت في القرآن وفي السنة، من وضع الحد إلى الإرث مرورا بالتنظيم الأسري والتسيير الاقتصادي والاجتماعي، لهذا فخليفة النبي هو خليفة للنبي السياسي وليس للنبي الديني، بما أن النبوة انتهت عند نزول الآية الشهيرة التي تقول :"اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم والإسلام دينا." من ثمة فإن أول جواب يمكن استنباطه مما ورد ذكره هو أن العالم الإسلامي حكم دوما بالدين وليس بالسياسة، وإن كانت هناك سياسة فقد كانت طَيِّعَةً وخادمة للدين ليس إلا، بما أن كل خليفة هو خليفة لله في أرضه، لا يحاسب على قراراته وكلمته تعلو ولا يُعلا عليها.
إن الحاصل مما تقدم، يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن الحكم بالدين قَتْلٌ للسياسة كَفَنِّ تنظيم العلاقات بين الناس فيما بينهم، فلنأخذ مثالا على ذلك مسألة العفو، والتي كانت دوما تضرب في قوة القضاء، بما أن العفو مرتبط دوما بالخصائص النفسية التي يكون عليها الخليفة، والحال أن تفوق الديني على السياسي، مرده إلى تفوق الخليفة على القاضي، وإن عملت السياسة دوما على الفصل بين ما للقضاء وما ليس له، ليستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا حيث الخلط السافر بين الدين والسياسة دون مراعاة لخصوصيات الإثنين، وكما نعرف مسبقا فإن السياسة لا تستقيم على الرأي الواحد، السياسة تتأسس على فن الكذب، تتأسس على صنع الإشاعات، على التمويه وعلى ما يسمى بالنفاق السياسي، تنجح السياسة أيضا بالدسائس والمؤامرات، ربما يعرف الجميع هذا الأمر بيد أن يتغاضون عليه خدمة لمصالحهم وحفاظا على السلطة التي في يدهم، لهذا كان من المنطقي أن نجد العذر للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، عندما رمى ذات يوم القرآن جانبا، ثم قال فيما قاله: "هذا آخر عهد بيني وبينك." بما أن الرجل توصل إلى أن السياسة ستفسد الدين لا محالة.
لا مِرْيَةَ في أن السياسة غرضها هو تنظيم حياة الإنسان دنيويا، في حين أن الدين يسعى إلى تلقين الأحكام والنواهي للإنسان فوزا بالجنة، السياسة زمنها محدود جدا والدين زمنه سَرمدي، السياسة تقف على النسبية وعلى فكرة أن صديق اليوم عدو الغد، في حين أن الدين أحكامه مطلقة، إذ الخير خيرا بإطلاق، والشر شرا بإطلاق أيضا، من ثمة فإن أي جمع بين الإثنين هو إعلان ضمني على غلبة واحدة على أخرى، وهو ما سيخل بالتوازن بينهما، وعليه فلنتخيل أننا سنحكم بالدين فقط، الدين تأويل والتأويل يقف على جملة من الأحكام المتباينة فيما بينها، حيث التأويل المنتصر لا يكمن انتصاره هذا في قوته، وإنما في القوة التي تتبناه، ومنه فإن الحكم بالدين لا يمكن أن يقف على قانون واحد، والحال أم الوقوف على نواميس مختلفة في وقت واحد سيؤدي إلى غياب الإجماع بدل حلوله، فلنتأمل مثلا في تعدد المذاهب والتي لا تحصر في أربعة فقط... أما من جهة أخرى فلنعلم أم الحكم بالدين هو حكم ينطلق من الأعلى إلى الأسفل، على الإنسان أن يطبق ما يجب تطبيقه دون زيادة أو نقصان، مما سيؤدي بنا إلى تطبيق هذا الأمر خوفا وطمعا وليس اقتناعا، على النقيض من ذلك، القانون نَصٌّ متفق عليه سلفا من قبل واضعيه، صحيح أنه وضع هو الآخر انطلاقا من طبيعة الإنسان الشريرة، لكنه أمر كان لا بد منه للعيش بسلام.
عندما نحكم باسم القانون فإننا نؤسس للاتفاق البعدي، وليس للأمر القبلي المفروض عليك سلفا، لا نفرق بين الأشخاص باسم العرق أو الانتماء السلالي، وإنما باحترامهم للواجب وتمتعهم بالحق، لهذا فالقانون يمكن أن يدبر الاختلاف بين الناس بغض النظر على عقائدهم، إنه يخضع لمبدأ العقائد المتعددة وليس للعقيدة الوحيدة، لنعد مثلا إلى بينية الحكم السياسي عند المرحلة القروسطية، حيث الحروب أتت على الأخضر واليابس لابسة ثوبا عقديا محضا، ولسان حالها يقول: إما أن تكون معي أو فستلقى مصير الذين كانوا قبلك، الدين لا يعترف بحرية التعبير بما أنه طاعة فقط، والقانون يعاقب عندما لا نقوم بواجبنا المدني وليس الديني، آنذاك تصبح الدولة دولة ثيوقراطية منغلقة على نفسها، فلا يجد من يخالف طبيعة نظامها نفسه إلا أمام أمرين لا ثالث لهما، إما الانصياع التام أو النفاق التام، لهذا فإنه من العبث بمكان أن نحكم اليوم باسم الدين في عصر باتت تتغير تعاليمه عن بكرة أبيها في مدة زمنية جد وجيزة.