لماذا نخاف من الحقائق أو بالأحرى من بعض الحقائق؟ بل ما هي الحقيقة؟ وهل هناك واحدة أم أن الحقيقة متعددة بتعدد مواضيعها؟ الحال أننا ملزمون أولا بفهم دلالة الحقيقة، ثم بعد ذلك سنحاول الإجابة على الأسئلة المذكورة أعلاه لكن ليس من جانبها الفلسفي الصارم الذي يجرد مفهوم الحقيقة، بقدر ما سنحاول قراءة الحقيقة والخوف من الحقيقة انطلاقا من واقعنا المعيش، معتمدين على الخصوصية التاريخية والثقافية أيضا.
أولا وقبل كل شيء يعرف الفلاسفة الحقيقة بكونها مطابقة الفكر للواقع ــ وإن كان تعريفا بيداغوجيا ربما يفرق أكثر مما يجمع بحسب تعدد المدارس ــ مادام كل ما هو عقلي واقعي والعكس بالعكس، أي أن الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان حسب التراث الإسلامي العربي، من ثمة فإن المستفاد منه مما سبق، يكمن في أن سؤال الحقيقة لا يتحمل وجهان متناقضان، كما لا يؤمن بالخطاب المزدوج، الحقيقة قول صريح لما في الأعماق، والحقيقة أيضا هو عندما يسكن العمق السطح، فيصبح العمق عميقا في سطحه، إنها حذف صريح للثنائيات الميتافيزيقية، كما أنها تعمل على تصديع كل تاريخ يؤمن بما هو رسمي متداول وبما هو سري ليس من حق الجميع الاطلاع عليه، ربما وبانطلاقنا من هاته التعاريف يمكن أن نقبل باستنتاج بسيط أو قُلْ بمنطلق أول، يدعونا إلى استشفافه بناءا على الواقع وبناءً على أسئلته أيضا، من هنا لا بد من الربط بين الإنسان كمنتج للحقيقة وبين الحقيقة كسلاح ينقلب على الإنسان في أية لحظة، بما أن الحقيقة ليست بريئة في كل حال من الأحوال.
قد يكون من المفاجئ بمكان، التأكيد أن الحقيقة تخبئ أكثر مما تفضح، وتعري أكثر مما تحجب، إن الحقيقة إخفاء لما هو حقيقي، والحقيقة أيضا حجاب لا بد منه كي نستمر في العيش، لسبب بسيط هو أن الحقائق تقتل، والحال أن قتلها يتخذ وجهان الأول مادي وذلك عندما نقتل باسم الحقيقة كالحروب الدينية والطائفية، حيث مشكلة من يمتلك الحقيقة؟ ومن هو على صواب؟ أي من هو الذي تطابق فكرته واقعه؟ كما هناك بعض الحقائق التي تقتل رمزيا وهي الأخطر، حيث جعلت من الناس نجرد آلات لا حول لها ولا قوة، تفكر بنفس الطريقة ولها نفس الحلم... الحقائق الأولى أي التي تقتل ماديا هي حقائق ينتجها الفكر كي يتحكم في الواقع، أما الحقائق الثانية فهي التي ينتجها الواقع كي يطمس المعالم الكبرى للفكر، مثل الهوية ومسألة التضامن باسم المشترك، أو العمل على إنتاج إيديولوجيات الغرض منها تحقيق ربح مادي كبير، وضمان بقاء هذا النظام المنتج لها على حساب الأنظمة النائمة الأخرى، هذه هي لعبة التاريخ الذي يتحكم في مصائرنا من حيث لا ندري، حيث تلعب الحقيقة دورا محوريا، وما حقائق اليوم إلا كذب الغد والعكس بالعكس.
الحقيقة حقيقتان، هناك حقيقة الحقائق، وهناك الحقائق المزيفة، حيث تدخل الأولى في صراع كبير مع الثانية، صراع إذا انتصرت فيه الأولى تفضح ومع هذا الفضح يتم الانتهاء من الحقائق التي تزيف، لكن من أجل بناء حقائق أخرى أكثر تزييفا، أما إذا انتصرت الحقائق الثانية وهذا هو ما يسير عليه التاريخ غالبا، فإننا نبتعد كثيرا عن حقيقة الحقائق، ومنه ننتج واقعا جديدا بحقائق جديدة، بيد أن العجيب في هذا الأمر يكمن في أن الحقائق المزيفة هي التي تكون أكثر إجماعا لذا البشر، لسبب بسيط هو أنها تُجَمل الواقع وتضفي عليه مسحة الأمل والاستمرارية والنجاح، لهذا لا بد من القول أن الحقائق الثانية عرفت أن الكذب باعتباره حقيقة هو الضامن الأول لاستمرار الإنسان على وجه البسيطة، فأصبحت تنتج الكذب بما أنها تعرف أن حقيقة الحقائق صادمة وقاتلة أحيانا.
قد نكون على ضلال عندما نعتقد أن العالم يسير وفق نظام منطقي صارم. الحال أنه عندما نقرأ الواقع من جانبه المظلم، والذي لا نرغب في استكشافه، ليس لأننا فاقدي القدرة على سبر أغواره، وإنما انفلاتا من الخوف من الحقيقة كصدمة، نكتشف أن العبث واللامنطق هما ذلك الأساس الذي يقف عليه الواقع، أغلب الناس يعرفون ذلك في المقابل أغلب الناس يتجنبونه ضمانا للاستمرار ليس إلا، وما حقيقة الحقائق التي تخيفنا إلا تجويفا لا غير، حيث أن الحقيقة الواحدة هو أنه لا توجد حقيقة، من ثمة فإنه عندما نُسَلّمُ بهذا الأمر تتبدى لنا الأمور تافهة إلى حد كبير، ومعها نرى العالم مجرد لعبة بليدة نكون نحن كراكيزها ومهرجيها، من هنا تم صنع مفاهيم كلما آمنا بها كلما تجنبنا الوقوع في تلك العدمية التي تعتبر حقيقة الحقائق، كمفهوم الأمل، والإرادة الحرة، والحب، والتضحية من أجل الجماعة، والأمانة، والواجب، والأخلاق، والجمال... فلنقف مثلا عند مفهوم الجمال، جمال سيدة ما، نلخصه في وجهها وكيف أن تقاسيمه مرتبة بعناية ، كأن رساما ما هو من كان وراء جمالها الصبوح، في مقابل ذلك تخيلوا معي لو كان الإنسان أصلا يملك عينا واحدة، آنذاك ستبدو لنا الفتاة الجميلة مخيفة فوق كل تصور، مثلما نشعر بالهلع إذا رأينا شخصا بعين واحدة تتوسط وجهه، بالتالي من الجميل هنا ومن يملك حقيقة الجمال؟
عندما نعود لمجتمعنا اليوم نرى أنه يتأسس هو الآخر على جملة من الحقائق تضمن استمراره، والحال أن كل حقيقة هي إرادة قوة، تنتفي وتضمحل باضمحلال القوة المسيطرة التي تنتجها، إن حقيقة ما كالمواطنة، والمصلحة العليا للوطن ـ التي أصبحت موضة سياسية اليوم ـ وحقائق المؤامرة، وأعداء النجاح... ماهي إلا مبررات نستثمرها لتضليل الناس على فشلنا، وما قوة المنع أيضا إلا محاولة تعبيد طريق جديد تجنبا للاصطدام مع الحقائق القاتلة، التي إذا ما تعرت سنكتشف مباشرة مرتكزات مجتمعنا، بيد أن من يصنع أساليب المنع والحظر والتي يلعب فيها القانون لعبته المفضوحة بما أن القانون ينتجه القوي طبعا، لا ينتبه إلى فكرة أن الممنوع هو المرغوب، من ثمة فإن صنع الحقائق ومنع الناس من الحقائق الأخرى، لا يتم بقوة الدم والحديد وإنما بالمكر والحيلة والخداع.
إن حديث الساعة الآن في مجتمعنا، يدور حول منع فيلم لأحد المخرجين السينمائيين، عندما نعود للفيلم طبعا نجد أنه تغيب عنه مسحات عمل فني يستحق منا قضاء وقت طويل لمشاهدته، بالتالي فالفيلم سينمائيا لا يمت للسينما بأية صلة، ليس لأنه كشف جانبا ما في حياتنا اليومية، وإلا لما فاز فيلم: حياة أديل، بالسعفة الذهبية لمهرجان كان خلال الدورة ما قبل الماضية، وإلا لما وقفنا مشدوهين أمام أعمال فنية يعتبر التعري ديدنها، وهو ما يدل بشكل صريح أن الحكم الجمالي خارج عن كل المعايير الأخلاقية، لنعد مثلا إلى منحوتات ميشيل أنج، حيث الأنبياء موضوع العمل الفني، بأجسادهم العارية، كمنحوتة دافيد وموسى، أو عمل نفس الفنان: "خلق آدم" دون المرور طبعا على أعمال أخرى لا تقدر بالمال كلوحة كوربي المعلومة، وأعمال مارسيل ديشومب، أو إدوارد مانييه في لوحته الشهيرة "غذاء فوق العشب"... من ثمة فإن العراء هو جزء من حياتنا اليومية، وما التصوير له سوى قراءته وفق نظرة فنية، ومن يرفضه فإنه يستهيم به في دواخله حسب مدرسة التحليل النفسي. من جهة ثانية لا شك أن رفض الفيلم هو رفض الحقيقة، لماذا؟ لأن الفيلم بغض النظر على بؤسه الفني والجمالي، يقربنا أكثر من حقيقة الحقائق، أي الحقيقة التي تعري وتصور الواقع كما هو دون مقدمات، وكما نعلم فإن ما يعري الواقع يفضحه أيضا، هذا الفضح سيجعلنا ننبش في اللامفكر فيه، والذي يقوم طبعا على ما نمنعه، بل إن سطوته ستتسع أكثر فأكثر عندما سنتساءل على سبب ذلك، والحال أن سبب الدعارة هو الفقر وسبب الفقر هو الفساد، وسبب الفساد هو بنيتنا الفاسدة، وسبب بنيتنا الفاسدة هم المسؤولون الفاسدون، وعليه فإن الخوف من الحقيقة هو الخوف من المساءلة، حيث المجرم هو من يخاف السؤال بطبيعة الحال
إن أغلب الدارسين للتراث يكادون يجزمون أن تاريخنا الحقيقي، هو تاريخ دسائس وبيع وشراء، ضمانا للمصلحة الخاصة، تاريخنا هو تاريخ تكريس للممنوع خلف الستار، وتاريخنا أيضا هو تاريخ يبوح جهرا بالمقدس، أو ما يعتبره مقدسا، ثم يمارس ما يراه مدنسا في الخفاء، وإن كان يعرف ذلك فإنه يبرره عندما ينتهي منه بدعوى وسوسات القوى الشريرة... وعليه وبناءً على ما سبق فإن المجتمعات المتخلفة هي أكثر المجتمعات خوفا من الحقيقة، لكن ليس يعني ذلك أن المجتمعات المتقدمة لا تلعب ألاعيبها، إن الخوف من الحقيقة من صلب الإنسان، بيد أن مجتمعات العالم الثالث تمنع أفرادها من ذلك بالقوة والقمع، في حين أن المجتمعات التي تسود فيها حرية التعبير تعتمد التضليل سلاحا لإخفاء بعض الحقائق.