مثلما اكتسح "اللوغوس" حلم "الميثوس" وبخس أحلام الشعراء مقيما جمهورية تتفاضل فيها الفئات بحسب طبائعها ومعادنها، ووفق خصائصها النفسية، أو بحسب جنسها ذكرا أو أنثى ،فإنه قد كرس عنصرية بين الحضارات وفق مقياس تمدنها أو توحشها.
كما أقام تفاضلية معرفية بحسب مدى معيارية تلك المعرفة وبحسب درجة تخلصها من سجن الجسد وعروجها إلى عالم الأفكار والمثل. وازتها تفاضلية عملية، من خلال وضع حدود بين مختلف الصنائع، النظرية والعملية، وبين الحرف الشريفة والخسيسة، وتفاضلية قيمية تتحرر من نفعية الإنسان العادي وانفعاليته وتحقق التجردية وتنسلخ عن تجربة الحياة اليومية لتسكن محراب التأمل ولا يستطيع نيلها إلا من أوتي الكمال.
نفس السيناريو سيتكرر خلال القفزة الثانية في ظل انبثاق العصر الحديث مع الفارق الزمني والثقافي.
إذ سيعمل فلاسفة الفترة الحديثة على تكريس تسلطية اللوغوس من خلال النهوض أولا بعبء إعادة شحذه وصقله وتطهيره من كل ما علق به من أوهام، سواء منها، ما ارتبط بالذات والجسد من انفعالات وأهواء وميولات.
لذلك يجب التخلص من المعرفة الحسية مادامت حواسنا تخدعنا ومن كل ضروب التمويه والخداع التي تمارسها المخيلة. أو تلك التي ارتبطت بالاكتساب وبتجربة الإنسان في حياته اليومية وعلاقته بالآخرين أو ما يسميه فرنسيس بيكون بالأوهام الأربعة (أوهام القبيلة- أوهام الكهف- أوهام السوق- أوهام المسرح) .
هكذا سيتم تحرير اللوغوس من نزعته التأملية كما كان مع الممارسة اليونانية ومن لبوسه الديني كما ترسخ مع المسيحية وتحويله إلى سلاح لاختراق الكائنات واحتواء الموجودات والتحكم في الكون والطبيعة وترويضها وتسخيرها لخدمة الإنسان.
مما سيؤدي إلى قلب جذري في منظور الإنسان ورؤيته لذاته وللكون وللآخرين. فلم يعد الكون مصدرا للإلهام والإيحاء والتناغم أو تعبيرا عن كمال الهي بل سيتحول إلى نظام من العلاقات وخزانا من الطاقة ومتهما أمام محكمة اللوغوس ( العقل الاداتي) يحاكمه ويستنطقه، وتعبر عبارة جاليلي عن ذلك التحول بوضوح " إن الطبيعة قد كتبت بلغة رياضية وهي عبارة عن أشكال هندسية ومعادلات رياضية لا يفهمها إلا من كان رياضيا" .
بعد تحرر اللوغوس سينطلق في مغامرة تعقبه للظواهر والوقائع طبيعية كانت أو إنسانية محاولا استنطاقها واكتشاف قوانينها. بالفعل سيتحقق له ذلك، وسيتمكن من التمرد على حلم اللوغوس كما تداولته مختلف المدارس اليونانية وتحويله إلى فعالية لاختراق الظواهر والتحكم فيها وكذا تجاوزا للحلم الكنسي وقلب له بحيث أصبح مشرعا ومدركا للحقيقة ومستقلا بذاته.
بالرغم من كونية حلم اللوغوس الذي تدعيه الحداثة فان البناء المفاهيمي الذي يسنده ك" الموضوعية والضرورة والعلمية والحقيقة، ليست حيادية ومطلقة بل تعبر عن رؤية للكون، ومنظورا تأويليا للحياة وتعكس نزوعات للهيمنة والتحكم في كل ما هو حيوي .
كما تشكل عتادا قهريا تتوسل به الفئات المهيمنة في صراعها المميت من اجل السيطرة وبسط النفوذ.
إن مفاهيم الحقيقة وضرورة تحري الموضوعية في التعامل مع الوقائع بدورها تحولت إلى أسلحة لحسم الصراع بين مختلف اشكال الانماط المعرفية التي تختلف جوهريا عن منطق اللوغوس .
إذ تبدو الحقيقة كرهان لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية. "لكل طبقة أو فئة اجتماعية حقائقها، ولا وجود لتاريخ موضوعي لكن فقط تاريخ للمضطَهِد والمسيطِر ولا تاريخ للمضطهدين والمسيطر عليهم.
يعتبر المنطق ( اللوغوس) سلاحا في يد البورجوازية المثقفة والمتعلمة تحارب به مختلف أشكال التعبير وأنماط الحساسية للفئات العريضة المحدودة الثقافة والتعليم "*.
هكذا ستكتسح فعالية حلم اللوغوس الطبيعة وستنزع عنها طابعها السحري والشاعري وتعمل على تحويلها ، وحتى تتحقق عملية التحويل يستلزم ليس فقط توفر عتادا نظريا وتقنيا بل استجلاب رأسمالا بشريا سيتم استثماره وتوظيفه لخدمة المشروع الارستقراطي.
لذلك سيقلب حلم اللوغوس نمط الوجود وسيتحول الارستقراطي الحامل له إلى مشرع وقاضي للكون والى تقني يتحكم في الظواهر ويحولها ويبرمجها ويعيد برمجتها بما فيها الظواهر الإنسانية.
إلا أن دعوى كونية حلم اللوغوس ستؤدي إلى نتائج كارثية ستدفع باقي الشعوب الأخرى ضريبته وستنعكس آثاره على الكون والظواهر الطبيعية تمثلت في تدمير منابع الحياة واستنزاف لمصادر العيش و تجريد فئات عريضة من أحلامها وهويتها ومن كرامتها ومقوماتها الإنسانية وتحويلها إلى آلات وعبيد تحت رحمة برامج اللوغوس وفتوحاته.
كما أن تمرد حلم اللوغوس على مختلف أحلام الحضارات الأخرى سيؤدي إلى احتقانات خطيرة والى ردود أفعال عنيفة نجم عنها انفجار مريع لمختلف الأوهام والأحلام التي راكمتها البشرية طيلة مسيرتها والتي تتخذ شكل اضطرابات نفسية وانحرافا اجتماعيا وعصابا جماعيا وأصوليات مغرقة في التطرف والعدوانية والتي تؤذن بتصدع صرح اللوغوس وآفاق أحلامه.
* Steiner George ;nostalgie de l’absolu ;p 80-81 ;édition 10/18 ; 2003