ليس ثمة ما يدعو إلى الشك في فكرة تقول أن الإنسان هو دوما في حاجة كبيرة لشيء يردعه على تصرفاته، وإلا لما ألفينا أنفسنا أمام هذا الزخم الكبير من كل أساليب الردع والمعاقبة والمراقبة في كل أشكال وأنماط حياتنا اليومية، من كاميرات مراقبة، ونصوص قانونية، وجهاز مخابرات، ومحاكم، وسجون، ومراكز للإدماج...
عندما نحاول فهم ما قلناه آنفا، سنرى أننا إزاء مظاهر بقدر ما تحاول إعادة الإنسان إلى التوازن، بقدر ما تكشف من حيث لا تدري على طبيعة الإنسان، ولسان الحال يقول: لو كان الإنسان خيرا وطيبا لما احتجنا إلى أشياء تردعه وتحد من همجيته ووحشيته، لحد الساعة سيبدو لنا الامر عاديا أن لم نقل بديهيا بناءً على اتفاق بين أغلب الناس حول هذا الشأن، لكن وفي مقابل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن محاولة وضع رادع للإنسان يلزمه أولا فهم هذا الإنسان من جوانب مختلفة، سيكولوجية بداية، سوسيولوجية تثنية، وتاريخية تثليثا، لكن تحت فهم فلسفي محض، يقدم لنا الطرق الناجعة والميكانيزمات الذهنية التي ستساعدنا على إيجاد أنجع السبل في ما تم ذكره.
والحق أنه لم ننتبه إلى أسلحة أخرى خفية، تحاول في غير ما مرة أن تصنع الإنسان وفق قالبها، إذ من فكر منا ذات يوم في الدور الخفي للمدرسة، للإشاعة، للأمراض المصنوعة، لدَوْرِ النقود كذلك، لصراع الحضارات وللدين أيضا؟ للإيديولوجيات المختبئة تحت لباس البراءة والحيادية، وللقيم التي نحاول ترسيخها؟ ربما قمنا بذلك خوفا من هَيَجانِ الإنسان وطمعه في الاستحواذ، وكذلك في محاولة جد مدروسة لصنع طرق الوهم ومسارات التضليل، حيث لعبت المجتمعات الحديثة دورها الوحشي فيها، لهذا كان لازما الوقوف عند أول الأشكال ردعا للإنسان قبل أن تصنع هاته المجتمعات ما صنعته، حيث لن نقف سوى أمام الدين والسياسة، علما أنه من الصعوبة بمكان الجزم بأسبقية من، والحال أنه لن يُهِمَّنا في هذا المقام، بقدر ما أن السؤال الإشكالي بينهما تأسيسا على بنية واقعنا الحالي، هو من سيحظى بحصة الأسد.
لقد كانت العلاقة بين الدين والسياسة كعلاقة المد بالجزر، كل واحد في حاجة إلى الآخر رغم أن طبيعتهما متناقضة، إذ أن مجال الدين هو العالم الآخر ومجال السياسة هو العالم الذي نعيش فيه، الدين يحكم بواسطة السماء والسياسة تحكم بواسطة قانون مُصوّتٍ عليه، نصوص الدين ثابتة لا تقبل التغيير، ونصوص القانون تعتبر المراجعة ويعتبر التعديل دَيْدَنَها، السياسة ترفض الانتقاء وتعوضه بصناديق الاقتراع، في حين أن الدين أُسِّسَ على منطق الإصطفاء... سيبدو لنا للوهلة الأولى أن هناك صراعا خفيا بين الدين والسياسة، لكن ولمكر التاريخ فإنه داخل هذا الصراع يكمن تكامل مُبْهَمٌ صعب إدراكه، حيث الدين بدون سياسة بمثابة جمع الحطب ليلا، في حين أن السياسة بمعزل عن الدين كالذي يريد قبض الماء بِيَدِهِ، صحيح أن لكل موضوعه ولكل هدفه، بَيْدَ أنه وفي مقابل هذا الامر، لا بد من رسم الحدود بين الدين والسياسة، إذ عندما نحاول تسييس الدين نكون قد ابتعدنا عن الدين دون إدراك السياسة، أما إذا فكرنا في دَنْيَنَةِ السياسة فإننا سنقوم بتقدسي من صوتنا عليهم عندها ستنتفي المحاسبة وسيحل محلها منطق الحكم الأوتوقراطي، سيسمو الذي على رأس الحكم من إنسان يخطئ ويصيب، إلى شيء مقدس لا يمكن أن يخطئ البتة والمطلق.
قبل الدعوة لضرورة رسم الحدود بين الدين والسياسة، تَمَّ الاستعانة بالفلاسفة وقراءاتهم النقدية لتاريخ الإنسان، صحيح أن أغلبها مفترض وهو ما يمثله فلاسفة العقد الاجتماعي، لكن جانبا آخرا منها واقعي أكثر من الواقع نفسه حيث أرسى دعائمه كل من ابن خلدون، وماكيافيل، وكارل ماركس، وكارل شميت، وليو شتراوس، وإيمليو جونتيل... بيد أن الجامع المانع بين كلا الفريقين هو الحِذْرُ كل الحِذْرِ من العلاقة المسمومة بين الدين والسياسة، بالتالي وجدوا أنفسهم أمام ضرورة فهم الغنسان وطبيعته أولا كي يتم تقديم ورسم معالم السياسة والدين.
إن المتفق عليه تقريبا من طرف أغلب هؤلاء الأعلام الذين تم ذكرهم هو التسليم بطبيعة الإنسان التي تنزع إلى فعل الشر والسوء، لهذا وبفضل جهودهم الذهنية الكبيرة تم الكشف عن هذا النقاب الذي وُوجِهَ بانتقادات جَمَّةٍ، حيث لم تستطع أن تدوم طويلا أمام قوة حججهم، الحقيقة تخيف حقا، لكن وجب التسليم بها وبدل رميها بعيدا.
عندما نعود لسؤال السياسة والدين حاليا خاصة في المجتمعات المتقدمة، نجد أنه قد أخذ منعطفا آخرا، غير الذي لازلنا نعيشه نحن في مجتمعاتنا الإسلامية، لقد عاشت أوربا صراعها العقيم هذا منذ أمد بعيد جدا، لكن بانتباههم إلى فراغه وعدمية جدواه انطلقت أولى شرارات الدعوة لفهم هاته العلاقة، على العموم أبدى الفلاسفة نوعا من الذكاء عندما كانت لهم جرأة كبيرة على إعادة قراءة الدين تحت يافطة الإصلاح، ثم التأسيس أيضا لمفهوم الإنسان، الذي يؤمن بالقانون وينفذ واجبه في المقابل يدافع على حقه إلى آخر رمق حتى لو تطلب منه الأمر الذهاب إلى أبعد مدى، هكذا ساهمت أوربا في تحقيق نهضتها...
إن المُتَأَمِّلَ في ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم، سيستوقفه سؤال طبيعة هذا الصراع الذي سكننا دون أن يتوارى، إذ تأسيسا على ما سبق ذكره في هذا المقام، وبرجوعنا إلى طبيعة بنيتنا الراهنة، سنلاحظ أن كل أشكال الحروب والقتل والتعذيب التي يشاهدها العالم برمته كأنها أفلام سينمائية، إنما مردها صراعات طائفية اندلعت منذ الرعيل الأول من الخلفاء الراشدين وهاهي تمتد وتعيش بين ظهرانينا أكثر فتكا من ذي قبل، وأيضا لم تنفك من أن تلبس لبوسها السياسي، والحق إذا وضعنا هذا الشأن تحت مجهر الفهم ربما أمكننا عَمَلُنا من استخلاص نتيجة غير مفهومة إذا ما تجرأنا وطرحنا سؤال الكيفية وسؤال الماهية، ما سبب هذا الصراع؟ وإلى أي منحى سيأخذنا؟ ولماذا نسيء فهمنا للدين؟ وهل نحن قريبين من السياسة أم أن بعدنا عنها بمثابة بعد الشمس مع الأرض؟
إننا في حاجة إلى مفكرين من طينة اللاعبين الكبار، في التاريخ، وفلسفة الدين، والقانون والسوسيولوجيا، كي يقدموا لنا تشريحا لمجتمعنا، ولسبب تعصُّبه هذا، كما بات من اللازم أيضا إعادة قراءة الدين وإصلاحه، لكن بعيدا عن السياسة وبعيدا أيضا عن العاطفة، على قوانيننا أن تؤسس للإنسان، كما على الدين أن يصلح حال هذا الكائن، لا أن يكون وسيلة رادعة بشكل متطرف، علينا أن نربي الأجيال أن الدين مجال للتقرب من الإلهي وليس سلاحا فتاكا أشهره في وجه من يخالفني، بعبارة أخرى نحن في أمس الحاجة إلى فهم الدين وإعادة قراءته وفق طبيعة العصر.
ما لفت انتباهي أيضا وأنا أكتب هذا المقال، هو حدث الساعة في بلادنا والذي يكمن في تعديل القانون الجنائي، صحيح أن المشرع يملك من المؤهلات ما تجعله مشرعا، لكن وضع القوانين بمعزل على قراءة بنية المجتمع قراءة تاريخية فلسفية وسوسيولوجية، ربما من شأنه أن يعيدنا إلى الوراء ويكرس ما جاء في بداية هذا النص، حيث سيصبح القانون رادعا، في حين أننا نسعى إلى قانون نحترمه لا نخاف منه، وهو المُتَبَدِّيِ اليوم بشكل كبير في مجتمعنا، عندما نرى أنفسنا مراقبين نحترم القانون على مَضَضٍ، لكن بمجرد غياب من يراقب تعم الفوضى كأننا لازلنا في عصور الظلمات، من ثمة على من يضع القانون أن ينطلق من الأرضية التي ستستقبل القانون، لا ماهي المواد التي يجب تعديلها، وبحديثنا على سؤال العلاقة بين القانون والدين، وبعودتنا إلى المادة 219، سنلاحظ أن ثمة فهما ملتبسا لتلك العلاقة بين الدين والسياسة، والتي تتجلى أولا في استثمار السياسة حفاظا على الدين وهو ما سيجعلنا أمام دولة دين لا دين دولة كما قال هيجل ذات يوم، وتتأسس ثانيا على تكريس السياسة لمنطق لا يخدم السياسة وإنما يرضي الدين بمعزل على طبيعة الدين، بالتالي فإن السقوط في هذا المنطق سيكون بمثابة مصنع لتفريخ متعصبين كما سيبعدنا على ثقافة الاختلاف، والأدهى من كل ذلك أنه سيطمس فينا حرية التعبير بشتى أنواعه...