تتحدد طرق وممارسات اشتغال المنهج الأوتوبيوغرافي " AUTOBIOGRAPHIC"في الخطاب الفلسفي من خلال إعادة اكتشاف الأطر الأبستمولوجية والأنطولوجية "للنص الفلسفي" بوصفه –أي النص– علاقة تواصلية جديدة من الناحية الفينومينولوجيةphénoménological ، بين كل من مفهوم الذات subject ومفهوم الموضوع object. ربما هذا هو أهم ما يسعى إليه المنهج الأوتوبيوغرافي ((...الذي يقوم أساسا على كتابة العالم، وعلى ابتكار النص text الذي يُولّد خبرة الذات في العالم، عبر الكلمات (). Understanding Curriculum as Phenomenological and Deconstructed text, Edited By F. Pinar & William M. Reynolds, Teachers College Press, USA, 1992, P. 33
هنا تضعنا الفينومينولوجيا إزاء قانون فلسفي جديد (( يكون فيه التأسيس الموضوعي هو حياة الذات؛ وحيث تصبح فيه معرفة الذات هي معرفة بالذات كعارفة – للعالم، ليس كتعبير عن الذاتية الكامنة، وإنما كمعبر أو وسيط بين هذين الحقلين))Ibid., P.33. والنقطة الأساسية التي نود الإشارة إليها هنا، تتعلق في مدى إمكانية أعادة إكتشاف الجدل التواصلي والفلسفي بين كل ماهو ذاتي/وموضوعي (( اللذان يشكلان بنية الخطاب البيداغوجي/التعليمي للدرس والبحث الفلسفي في آن واحد حينما يستندان على المنهج الاوتوبيوغرافي كمنهج للبحث والتحقق inquiry)) Ibid., P.36. من هنا، نرى أن المنهج الأوتوبيوغرافي أصبح يمثل ابستمولوجيا جديدة للخطاب الفلسفي اولا؛ وللمتلقي السوسيو-ثقافي ثانيا؛ ولتقويض النزعة الوثوقية والأرثوذكسية في الفلسفة التجريبية و المنطق الوضعي ثالثا.
حيث يمكننا ان نشخص مع هذه الأخيرة، كيف جرى تغييب ومصادرة فكرة سوسيولوجيا الذات/وانتروبولوجيا الجسد في عالم القيّم والمعتقدات اليومية، بسبب صعود أيديولوجيا المنطق الوضعي والتجريبي. فجاء المنهج الأوتوبيوغرافي كرد فعل :(( على برادايم المنهج التجريبي التقليدي من خلال التأكيد على ضرورة فعل الرجوع إلى خبرة الأفراد من خلال الأخذ بعين الاعتبار مجمل الخصائص التي لطالما اُسقطت من دائرة العلوم السلوكية: فتواريخنا غير المألوفة؛ وأسسنا ماقبل المفهوم؛ وتبعياتنا السياقية؛وحريتنا الفطرية تعبر في مجملها عن الاختيار والتوجه الذاتي)) Ibid., P.41.
ربما هذا هو ما جعل كلود ليفي شتراوس يؤكد على الأهمية الإشكالية للمنهج الأوتوبيوغرافي، وذلك لما يتفرد به من مزايا تحليلية: ((...تسمح بأعادة تأسيس ثقافة الذات القارّة، وبتحليل الطريقة التي تتمفصل معها وتتداخل من خلالها مع المؤسسات والمعتقدات التي يتحقق منها الباحث. لهذا، يثير إستعمال المنهج الأوتوبيوغرافي مشكلتين رئيسيتين في آن واحد: الأولى ميتودولوجية منهجية؛ والأخرى ابستمولوجية معرفية)) LAROUSSE, Dictionnaire de Sociologie, France loisirs, 1998, P.18. والسؤال الذي نود طرحه هنا هو: ما الدافع الذي يدفعنا إلى إعادة قراءة مفاهيم سيرة الفلسفة وفلاسفتها؟ ألا نتوفر على كتابات ودراسات تبحث في هذه الثيمات الفلسفية؟ وألا يوجد هناك مختصون في مجال الفلسفة والأدب والنقد، هم الأقدر على الخوض في فتح باب الحوار والتواصل بين كل من: بيوغرافيا الفلسفة/والفلاسفة، وبين مناهج النقد والقراءة والتأويل؟
لقد لفت نظرنا، ظهور أكثر من ملحق ثقافي تناول سيّر وبيروغرافيا فلاسفة العراق، أمثال الأستاذ الراحل حسام محي الدين الآلوسي ( ملحق صدر في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013) والأستاذ الراحل مصطفى كامل الشيبي ( ملحق صدر في 10 فبراير/شباط 2011)، إضافة إلى الملحق الأخير عن الأستاذ الراحل مدني صالح. وربما كان أهم ما لاحظناه على أسلوبيات styles كتابة تلك الملاحق، هو وجود فجوة ابستمولوجية كبيرة بين كل من: مفهوم "السيرة البيروغرافية" كما ظهر في فلسفات العلوم والإنسانيات عامة؛ وبين سرد الحكايات والذكريات –اللاإشكالية- عن الفلاسفة الراحلين. ولذلك، رأينا كيف أن الملحق الثقافي الصادر حديثا عن جريدة "المدى" العراقية في الخامس من فبراير/شباط 2015، لم يحفل بطرح إشكالية ثقافية/وابستمولوجية واحدة قط؟ وهذا يعود لعدة أسباب، ربما من أهمها، أن اغلب الكتابات التي تم تقديمها لم تكن بجديدة، ولم يتم التهيئة لها من قبل، فجميعها قد تم نشرها منذ سنوات، أضف إلى أن المشتركين في إعداد الملف لا يتوفرون على ابسط المعلومات الفلسفية، فغالبيتهم لا يجيدون سوى الكتابة الصحفية (التقليدية)، التي تمتاز بسيطرة النزعة الإنشائية/التسطيحية التي لا تجيد فن ابتكار المفاهيم وتأويلها. بل والأنكى من كل ذلك، هو أن حتى الأساتذة المختصون في الفلسفة، ممن ساهم في هذا الملحق الثقافي، لم يعملوا على طرح إشكالية فلسفية واحدة، سيما وهم قد تناولوا سيرة الراحل مدني صالح، بمعزل عن مجمل أطره الثقافية والتعليمية والإشكالية، وكأن الراحل لا ينتمي إلى تلك الثقافة ومشاكلها المزمنة.
من هنا، يمكننا إن نخرج بالاستنتاج التالي، إن أساتذة الفلسفة ومثقفينا، اظهروا عجزهم وإفلاسهم النظري والأبستمولوجي في ابتكار/وإنتاج مفاهيم فلسفية جديدة - باعتبار أن الفلسفة هي فن إنتاج المفاهيم بحسب دولوز- الأمر الذي جعل من كتاباتهم مجرد ولاءات صحفية، تعمل بمنطق "الِسّتْر القيَمي والأخلاقي في طرح الإشكالات الراهنة" بحسب تعبير احد الأساتذة في مجلة الأقلام العراقية؟
-مدخل فلسفي
من هنا، سنعمل على فتح باب المنطق المسكوت عنه واللامُفكَر فيه في تاريخ سيّر فلاسفة العراق، خاصة لاولئك الذين اجتمعت في ممارساتهم الفلسفية والتعليمية، الجانب الحواريّ والجانب التواصليّ في عملية إنتاج وإرسال المعلومة الفلسفية، لاعترافهم بوجود ثمة متلقٍ حقيقي متجسد في العالم، قادر على التواصل والمشاركة في فهم وتأويل الدرس الفلسفي، وهذا ما لم تأتِ على ذكره الملاحق الثقافية المذكورة أعلاه، ولم تتناوله بالنقد والتحليل، وذلك ربما لعدم وصولهم إلى مرحلة الاعتراف الكامل بوجود متلقٍ حقيقي وليس ميتافوريا أو مفترضا أو وهميا. بعبارة أخرى، إن نصوصهم إما أن توجه إلى أربابهم من كهنة وسدنة النشر الصحفي الميتافيزيقي، أو توجه إلى العدم والخواء، فيستوي بذلك وجودها من عدمه.
من هنا، تصبح عملية الكتابة حول مفاهيم مثل "الخراب الفلسفي" و "إصلاح التفلسف"، من أهم الثيمات الثقافية والإشكالية، التي ينبغي الوقوف عندها بالنقد والتحليل و"التأويل الاوتوبيوغرافي" في طروحات كل من: الأستاذ الراحل "مدني صالح"، والأستاذ "عبد الستار الراوي" في مُصنفيهما الفلسفيين الصادرين في عام2007، وهما: (بعد خراب الفلسفة) للراحل مدني صالح و (قطر الندى، أيام الفلسفة في الوزيرية1963-1967) للأستاذ الراوي.
إن بنية "التزامن التأريخي" لظهور كلا المؤَلَفين المذكورين أعلاه، إنما تشير في واقع الأمر، إلى ولادة ما يعرف بـ"أبستمولوجيا النقد الاوتوبيوغرافي لجينالوجيا تعليم الفلسفة في العراق" والتي تُعتبر من أهم المنعرجات في تاريخ تكوين العملية الفلسفية في العراق منذ عام 1949. وهذا يعود في احد أهم أسبابه، إلى فرادة تلك التجربة من جهة؛ ومن جهة أخرى إلى تدشينها لأهم ممارسة اركيولوجية في "نقد وتفكيك" مجمل مستويات وصيرورة العملية الفلسفية، بدء من: بنية الدرس الفلسفي؛ وإنتاج النص الفلسفي؛ وتكوين مهارات التفلسف؛ وتشريح تاريخ الانطولوجيا؛ ونقد تاريخ نظرية المعرفة التقليدي ونظامه المنطقي واللساني المكون له وانتهاء بنقد النظام المؤسساتي والبيروقراطي المسؤول عن إنتاج/وتكوين ذهنية متلقي النص الفلسفي.
-فيصل التفرقة بين خراب الفلسفة وإصلاح التفلسف
قبل الشروع في قراءة أهم الأفكار والثيمات الأبستمولوجية/والأنطولوجية لكلا المؤَلَفين المذكورين أعلاه، علينا التمييز بين مفهوم "خراب الفلسفة" عند أ. الراحل مدني صالح؛ ومفهوم "إصلاح التفلسف" - بحسب اصطلاحنا- عند أ. الراوي. فالمفهوم الأول عند الراحل مدني صالح ارتبط بعملية تفكيك كل من: تاريخ الميتافيزيقا؛ وتاريخ الأنطولوجيا التقليدية؛ وتعرية مجمل أشكال تجلياتهما في العالم اليومي من جهة؛ وبيان زيف كثير من قضاياها من جهة أخرى. أما الآخر، فهو مفهوم وثيق الصلة عند أ. الراوي في كشف العلاقة التواصلية المتضمنة في سياق عملية إنتاج المعلومة الفلسفية ونظامها المنطقي والسيمانطيقي والتداولي؛ وبين ذهنية المتلقي لتلك المعلومة وما تتركه من آثار ابستمولوجية وثقافية، قد تساهم في عملية إنجاح تكوينه البيداغوجي والتعليمي؛ أو قد تكون وبالا عليه بل وسببا من أسباب انتكاساته الفلسفية.
من هنا، نلحظ كيف أن بنية النظام الفلسفي لكتاب (بعد خراب الفلسفة) ظلت منشغلة ومهمومة في مساءلة تاريخ الفلسفة ومعنى حضورها في العالم اليومي وجدوى الاشتغال عليها، ومدى راهنيتها/وعلاقتها بالواقع الاجتماعي والثقافي لكل من: الأستاذ والطالب. وهذا ما دفع الراحل مدني صالح الى إعادة قراءة تاريخ العملية الفلسفية، وتاريخ نظامها السردي/التعليمي الذي تحول إلى "ايديولوجيا اكاديمية" قارّة في بنية نسق السلطة المسيطِر، لذا، فهو نظام ظل مرتهنا لمقررات خطاب الايدولوجيا القبلي، عوضا عن تمثله لمقررات مناهجه التعليمية البعدية. لهذا، نجد كيف أن الراحل مدني صالح قد صبّ جم غضبه على مباحث الفلسفة التقليدية، سيما المتعلق منها بالانطولوجيا والمنطق وتعاليم علم الأخلاق المعيارية/المطلقة وفكرة الواجب المؤدلَجة وغيرها. لأنها لا تتلاءم –حسب رأيه- وبنية "الوجود الأونطي" أي الوجود المتعين هناك في العالم والذي جاء على وصفه في مقالته المحظورة (لائحة حقوق الحمار)، وذلك لان تعاليم الفلسفة التقليدية لم تعد قادرة على تحقيق امكانية التلاؤم مع راهن تحولات فلسفات الوجود وانعراج نظريات المنطق واللغة، الى جانب تطور فلسفات العلوم والأبستمولوجيا، الى الدرجة التي تمنى فيها لو: (( أن كتابه "الوجود" كان في منافع الثوم وفوائد البصل لانتفع به الناس أكثر من انتفاعهم بالوجود )). وهنا، نلمح كيف أن الراحل مدني صالح، حاول إحداث "قطيعة ابستمولوجية" مع مجمل تواريخ الفلسفة التقليدية بوصفها تواريخ من الأخطاء المتوارثة/المتراكمة/الهرمية من جهة، ومع مفهوم "الوجود" الذي تحول الى عبئ لشدة ثقله ولزوجته ومفارقته لطبيعة وجوده ووجود الآخرين من حوله. الامر الذي ادى به الى إشعال فتيل ثورة عدمية راديكالية على مستوى تفكيك تاريخ الأنطولوجيا في الفلسفة العراقية؛ وعلى مجمل مناهج الفلسفة التقليدية ذات الصلة بكل ماهو تقليدي/ايديولوجي قارّ في بنية الدرس الفلسفي، خاصة وهو الذي انتهج نهجا سينيكيا –نسبة الى الفيلسوف سينيكا- ونهجا سفسطائيا ايضا، في عملية تقويضه لــ"دوغما" الدرس الفلسفي الذي اغلق طرق التواصل واشكال الاتصال بينه وبين الفلسفة، فيقول: (( ... وأنا تلميذ في جامعة بغداد كنت ارجو ثقافة وأتمنى فلسفة وجاهة زينة ألقاً فصرت اداري احساسي بالضرر واكتم حتى عن نفسي اني متضررا وأتجاهل وتجاهلت حتى جهلت وارتحت بجهلي بأن الجامعة قد انستني الكيمياء والفيزياء والجبر والهندسة مستوية ومجسمة وحساب المثلثات والبايولوجي نباتا وحيوانا والنحو والصرف والبلاغة والجغرافية والتاريخ والبيان والمعاني والبديع وخلاصة ثقافة الانسان منذ البداية حتى دخولي جامعة بغداد. لقد اصبحت متضررا بالدرس الفلسفي على الطريقة الإستشراقية الملائية )).
لهذا، وجه الراحل مدني صالح نقدا تهكميا لاذعا للبنية التحتية المُعتمَدة في انتاج طرق واساليب تداول وكتابة المفاهيم والمعلومة الفلسفية وكيفية تحويلها من القوة –أي عندما تكون هيولى في ذهن الاستاذ - الى الفعل –أي عندما تتحول هذه المعلومة الى كيان مادي متجسد على ورقة الامتحان، أي حينما تتحول الى "رأس مال بلاغي/ميتافيزيقي" - ،وتجلى ذلك النقد في نصه: (( ان الاساتذة كانوا يحومون في الدرس الفلسفي حول اشياء تشبه الذي كانوا قد سمعوه او كانوا قد قرأوه لكنها لا تطابقه ولا تساويه.. انهم اذن يقرؤون اشياءً ويفهمون اشياء لا تمت الى حقبتها بصلة ويقولون في الدرس شيئا آخر لا يفهم منه الطلبة إلا شيئا يخالفها، حتى اذا ما جاء الامتحان اعادوها الى الاساتذة في الجواب بصيغة لا تشبه الأصل ولا تناسب الاسئلة التي لا تناسب شيئا من الدرس الذي لا يناسب شيئا من الفلسفة في اي من ادوارها في تاريخ الفلسفة الصحيح، وحينها تضاعف الاحساس عندي بالضرر وتأكد عندي ولدي بأني متضرر )).
وهنا، لابد من الإشارة إلى إشكالية ابستمولوجية هامة جدا، طالما تم تجاوزها والقفز عليها عند اغلب من كتب عن فكر الراحل مدني صالح عامة، وعن كتابه (بعد خراب الفلسفة) خاصة، وهي إشكالية "النقد الأنطولوجي للوجود/والفلسفة"، فهي تمثل قطب الإشكالات الفلسفية المطروحة في خطابه الفلسفي، فمن خلالها حاول نقد سيطرة النزعة الوضعية على تاريخ نظرية المعرفة، وعلى مجمل أشكال المنطق التقليدية، سيما البرهاني منها، ربما لاعتقاده النقدي بوجود تلازم جدلي بين نقد المنطق والأنطولوجيا التقليدية المؤسَسة على "بنية لغوية/نحوية جوهرية متعالية للأشياء" تستند على قوانين ومبادئ اولية، كالمبادئ الديكارتية وغيرها. وهذا يعني، أن الراحل مدني صالح، لم يكن ناقدا لتاريخ الفلسفة التقليدي فحسب،بل انه كان ناقدا لتاريخ البلاغة المسيطِرة/والمُشَكِلة لبنية الأنطولوجيا القديمة وبنية الخطاب الفلسفي السائد، مما اضطره الى ابتكار اساليب لغوية/ميتافورية جديدة لم تعهدها الفلسفة من قبل، ولم يألفها منطقها البرهاني ذو البعد الواحد، الذي جاء على وصفه في نصه: (( صرت ارى في اوائل النصف الثاني من القرن العشرين وأنا تلميذ في جامعة بغداد ان المنطق يقوي حجتك وينصرك على خصومك اذا كنت غنيا قويا غالبا قاهرا سعيدا ولا يقوي حجتك ولا ينصرك إذا كنت فقيرا ضعيفا مغلوبا مقهورا شقيا ولا يسعدك ولا يقويك.. بل ولا يصححك إذا أخطأت ولا يدلك على الصواب..وإلا لأنجزنا بالمنطق ما عجزنا عنه بقوى التاريخ ولأصبح التاريخ تاريخ سعادة وسعداء بالمنطق والقياس..."لذلك نجد ان" كل فيلسوف يستطيع ان يثبت انه أكثر منطقية واصح منطقا وقياسا من الاخرين كلما عجز عن الاقتناع بأنه على يقين رياضي طبيعي بديهي غريزي فطري تلقائي لا يصح غيره ولا يجوز سواه ..."ان" التعصب للمنطقي يعني انغلاق عليه وانك تستطيع بأسم المنطق والمنطقي ان تتعصب لغير المنطقي وتنغلق عليه....فأتضح عندي ان المنطق لا يزيدك علما بشيء من حقائق الاشياء ولا يقينا بصحتها كما لا يزيدك علما بخطأك بل ولا يصحح لك خطأ وإلا لصحح لارسطو كيمياؤه قبل لافوازيه وفيزياؤه قبل غاليلو وكوبرنيكوس وديكارت وفسلجته قبل هارفي )).
من الواضح إن الراحل مدني صالح، حاول أن يؤسس لما يُعرف بفلسفة "البلاغة الجديدة"، فلسفة لا تستند على قيّم الكلي والمطلق والعام ومعايير العقلانية الصادقة بالضرورة، بل تتأسس على قيّم البلاغة الحجاجية -غير الاستدلالية- حيث ينبثق منها صور جديدة من التواصل بين كل من: واقع الطالب وراهن الفلسفة. وهذا ما ادى به إلى أعادة النظر في مجمل آليات قبول الطلبة في أقسام الفلسفة والمؤسسة على قيم "المعايير الشمولية"، والتي جعلت من الفلسفة -حسب رأيه- : (( ... معرفة قيادية بالطلبة الذين لم تقبلهم الأقسام الجامعية الأخرى. فالفلسفة لا تزدهر بالنفايات بعد خرابها، وَلَطالب فلسفة واحد قادر عليها راغب فيها، خير من سكان الأرض كلها، وكلهم يساقون إلى الفلسفة وهم لا قدرة لهم عليها ولا رغبة لهم فيها، فكلهم مرغم لا فيلسوف )).
من هنا، يتضح كيف ان كتاب (بعد خراب الفلسفة) مثّل/ولا يزال يمثل بيانا طليعيا لنهاية الفلسفة الرسمية/والتقليدية من جانب، والفلسفات الميتافيزيقية والارثوذكسية من جانب آخر. فمع هذا البيان اعلن أ. الراحل مدني صالح الاستقلال الفلسفي عن بنية ذلك الخراب، من خلال عملية إستنطاق سؤال الفلسفة/وإمكانية التفلسف، واستئناف القول الفلسفي من جديد، لكن هذه المرة ليس بواسطة "لوغوس فيوضات الميتافيزيقا/الجوهرانية/النورانية المطلقة"، بل من خلال لوغوس/وبلاغة "الوجود الأونطي" القادر على طرح سؤال الفلسفة/والوجود من جديد. ففي هذه اللحظة، هبطت "الفلسفة" من علياء السماء إلى قاع الأرض، لتتجول في متاهات المدينة، بعدما تكلست في قاعات الدروس الأكاديمية/الأفلاطونية تحت شعار "الفلسفة حب الحكمة"، لتأخذ شكل ممارسة جديدة لم تألفها من قبل، ولتكون: (( ..الفلسفة صرخة تملأ الزمان، لتؤسس إرادة القول ))، كما تكلم مدني صالح.
كشف النص الفلسفي للراحل مدني صالح، عن محنة مناهج القراءة والتأويل في خطابنا الفلسفي وإفلاسه المنهجي، فعلى ما يبدو أن باب التأويل لا زال مسدودا، وذلك لأن خطابنا الفلسفي ظل يشتغل بمناهج ورؤى وتصورات مرحلة ماقبل الخراب الفلسفي، اي مرحلة التمثل البرهاني والعقلاني للعالم وللوجود، تلك المرحلة التي كان أ. الراوي -الذي يعد من جيل رواد الفلسفة في العراق- خير شاهد ودليل على وصفها وتحليلها في كتابه (قطر الندى، ايام الفلسفة في الوزيرية 1963-1967). فقد حاول ان يشتغل على نقد وتعرية منطق "إصلاح التفلسف" من خلال محاولته الهامة في إعادة مساءلة ذاكرة "الأزمة المنهجية/والأبستمولوجية ذاتها" التي سردها أ. الراحل مدني صالح في بيوغرافيا (بعد خراب الفلسفة). فجاء على وصف بنية الخراب كما هو كائن لا كما ينبغي له ان يكون، خاصة عندما شخّص منطق الأزدواج المنهجي الذي يتعرض له طالب الفلسفة في سنواته الدراسية الأولى في قسم الفلسفة: (( .. اللافت للنظر بأننا لا نُزّوَد بأية معرفة ( منهجية ) أو (نقدية) في غالبية المواد الفلسفية التي تدرس لنا أو تلقى علينا، ونكتشف هذا الفقر المعرفي، حال قراءاتنا اللاحقة في مكتبة الكلية عبر المراجع المتوفرة فيها، ولا ندري هل نحن نخضع لبرنامج تجريبي لم تكتمل ملامحه بعد في القسم الذي يعود تأريخه إلى عام 1949 أم هي تقاليد درج عليها الأولون ومضى على آثارها اللاحقون ؟! )).
-من الجسد المنطقي المركزي إلى الجسد الباثولوجي الهامشيّ ( جدل العقل/اللاعقل )
حاول أ. الراوي في كتابه المذكور أعلاه، التأسيس لجينالوجيا نقدية لذاكرة الدرس الفلسفي، من خلال إعادة النظر في الخطاب التداولي بين الذات/والمعلومة الفلسفية؛ وبين الذات/والأنساق الفلسفية التقليدية المسيطِرة. لذلك نراه كان شديد العناية في تقديم "وصف فينومينولوجي" لتاريخ أفكار الدرس الفلسفي الذي يبدأ من قصة تعريف الفلسفة وعلاقتها بالكائن الإنساني، حيث يجري تعريف الفلسفة على إنها : (( ...علم المعرفة الكلية المطلوبة لذاتها، لأنها تهتم بكل ما يثيره العقل البشري من إشكالات كلية تنصب على الوجود كله في صورته العقلية الشاملة .- مثال : طبيعة الوجود – مشكلة الحرية الخ . وهي ( أي الفلسفة ) مطلوبة لذاتها لأن طلب المعرفة لذاتها أشرف ما يسعى إليه الإنسان معتمداً على التأمل العقلي. 2-الفلسفة هي علم المبادئ الأولى لكل ظواهر الوجود.الفيلسوف يسعى إلى إدراك المبادئ الأولى والعلل البعيدة التي هي بطبيعتها عقلية مجردة ، وإذا تمكن الفيلسوف من إدراك تلك المبادئ الأولى للوجود، يمكنه أن يفسر كافة الحقائق الجزئية المادية، يردها إلى أصولها العقلية الأولى وعللها الحقيقية البعيدة .- مثال : لا يكتفي الفيلسوف بمعرفة السبب المباشر لنمو النبات نحو : ( الماء والهواء والشمس )، وإنما يريد الفيلسوف أن يرتقي لكي يدرك العلل العقلية البعيدة والمبادئ العامة لنمو كل الكائنات الحية.3 - الفلسفة وجهة نظر عقلية. هي وجهة نظر نابعة من خبرات الفرد وحياته الخاصة، وظروف المجتمع .- وهي عقلية لأن الفيلسوف يؤيد وجهة نظره بكل الأدلة العقلية المتاحة )).
أعاد لنا أ. الراوي من خلال النص أعلاه، سرد جينالوجيا الخراب المنهجي والأبستمولوجي الذي تكلم عنه الراحل مدني صالح، فسردية خراب الفلسفة وإصلاح التفلسف لا يبدو إنها قد انتهت، أو قد وقفت عند زمن معين، وذلك يعود في احد أهم أسبابه، إلى أن مفهوم الوجود في تاريخ العملية الفلسفية لم يتعرض بعد، إلى عملية نقد وتقويض لمجمل ابنيته ومبادئه ومنطلقاته القبلية، والتي شكلت فيما بعد المبادئ الأولى والمنطلقات الأساسية لكل نظام شمولي قادم أو من في طريقه إلى القدوم الحتمي، فلا زالت الفلسفة عندنا تعني "حب الحكمة" وليس "نقد الحكمة"، ولا زالت فلسفة تقدس أصولها ومبادئها الجوهرية التي تعلي من فكرة الجوهر المجرد على حساب فكرة الذات المجسدة، ولا زالت الفلسفة عندنا تضحي بالمجموع من اجل فرادتها وتفردها، ولا زالت تضحي بالأفراد المشخصة لصالح المبادئ المطلقة المجردة!!
لقد تحولت الفلسفة بفعل تلك المبادئ والشعارات الدعائية إلى خطاب شمولي، قد يبدو ذلك واضحا من خلال الاتحاد التاريخي بين كل من: سياسة الفلسفة/وفلسفة السياسة/والنظرية السياسية. ربما هذا ما جعل الراوي، ينتقل بنظره من فضاء "الفلسفة العقلانية" إلى فضاء "فلسفة الخطاب"، حيث السلطة /والمعرفة /والأيديولوجيا تمثل كبرى تقنيات الخطاب السياسي التي تعمل على صياغة/وهيكلة الجسد اليومي في بنية المدينة. فجاء أ. الراوي على توصيف تراجيديا الوجود الإنساني وتشخيص ظواهر انتهاك العقل وتحطيم العقلانية وسحق مبادئها، عندما سرد لنا هذا المشهد الفلسفي/العيّادي/الفوكوي بأمتياز: (( .. تجربة إنسانية فريدة وغريبة في نوعها ومضمونها، فما أن ولجنا هذا العالم المنسيّ حتى امتلأ قلبي بالمرارة والحزن والأسى، وليس بوسع أية عبارة موحية أن تأتي على وصف المشهد المأساوي ونحن نطوف بين العنابر والمهاجع وورش العمل وطرقات المستشفى. الإحساس الأول الذي انتابني هو المهانة الشخصية، وبأننا مخلوقات زائفة متدنية، وبأن العالم بلا قلب. وكدنا نصرخ احتجاجاً: أين الإنسانية ؟! أين الحكومة ؟! أين وزارة الصحة ؟! بل أين المجتمع ؟! هذا العبث الذي لا يساويه إلا الفجيعة وهذا التطويق الغليظ الفاقد لأي قيمة أخلاقية يمارسه بوحشية الحراس والموظفون. وغالب الظن بأن ( الحيوانات ) السائبة أفضل حالاً بل أكثر أمناً وسلاماً، من أوضاع هذه الكائنات الشقّية ممن قذفتهم الأسباب القاهرة إلى جحيم الشماعية. هنا تمتلئ العبارات بالمعاني والدلالات: فالغابة السوداء التي صنعها العقلاء بأيديهم لمن يسمونهم: (مجانين ). تكشِف بأن الكثيرين من هؤلاء – المرضى – هم الأقرب إلى العقل السوّي والمنطق والسلامة النفسية. صورة مقلوبة للعالم. الجوع . المرض . القذارة. المستشفى شبيهة بثكنة عسكرية . أو (سجن كبير) تحيط به أسوار عالية . فالقيود صارمة . والحراسة كما المصائد ، أسلاك شائكة . والضرب المبرح حفلة سمر مستمرة يعقبه الصعق الكهربائي المدمّر . انتزع العقلاء الأتقياء؟!! مِنْ هؤلاء المرضى – الحواس – وسلبوهم الإرادة وأطفئوا في نفوسهم المقاومة. جعلوا من هؤلاء الاشقياء أشباحاً هزيلة، ومخلوقات كسيرة، محطمة ، تائهة . ضاع صوت "الأستاذ" وتناءى عن أسماعنا ، ونحن فاغرو الأفواه ، مصدومون ، يملؤنا الرفض والحنق ، والصراخ والاحتجاج ... حاولنا الاقتراب . جلسنا متجاورين ، أفرغنا جيوبنا من النقود والسجاير . لست وحدي الذي تمنى لو انه ينزع ما عليه من ثياب ليستر جسد امرأة شبه عارية، أو رجل لا يجد ما يرتديه . لا أظن أن صنوف البؤس والظلم والقهر التي وقفنا عليها ، في ردهات الشماعية يمكن أن يكون له مثيلاً في كل الدنيا ، ولعل ( ردهة النساء ) نموذجاً إنسانيا مخجلا يشهد على التعسف والوحشية وسقوط القيمة الإنسانية لآدمية البشر . حتى كاد بعضنا من شدة تأثره وانفعاله أن يشتبك مع موظفي المستشفى إذ لم يعد بوسع أي كائن منا أن يحتمل المشاهد المريرة في عموم الشماعية ، كما لم يعد بمقدور أحد إلا أن يردد مع نفسه ؟! أين العدالة ؟! ، أين ولتْ إنسانية الإنسان ؟! ترى من هي الجهة الرسمية أو الأهلية التي تتحمل مسؤولية العذاب المقيم أو الجحيم الذي يكتوّي بناره هؤلاء البشر الذين لا حول لهم ولا قوة . إدارة المستشفى ؟! أم مافيا العاملين ؟! أم وزارة الصحة .؟! أم الحكومة ؟! أم المجتمع ؟! الذي نسيَ أبناءه وتركهم كما الطرائد يتلهى بإقتناصها غلاظ القلوب )).
هكذا تصف لنا بيروغرافيا أ. الراوي النقدية،قصة الفلسفة العراقية، وقصة تحولاتها التاريخية على مدار الحقب السياسية والأيديولوجية، لتغدو الفلسفة هنا، مجرد خطاب عقلاني مبرر لكل ما هو ايديولوجي. وهنا علينا أن نتساءل عن عملية تكرار مشهد إهمال قراءة وتأويل نصوص الرواد الفلسفية والبيروغرافية، سيما ذات التوجه النقدي ؟! فمن المفارقات الفلسفية والثقافية، أن مستوى التلقي لنصوص الراحل مدني صالح و أ. عبد الستار الراوي، لم يرتقِ بعد إلى مرحلة المسؤولية الفلسفية من قبل أساتذة الفلسفة اولا؛ وباحثيها ثانيا؛ وطلبتها ثالثا، بل والمدهش في الأمر، أننا نلاحظ شبه سيطرة لسياسة الإهمال والاستبعاد لهم، فلا تجد دراسة فلسفية وابستمولوجية لخطابهم الفلسفي، ولا قراءة تأويلية لأهم المضامين الإشكالية التي احتوتها عليها نصوصهم ؟! أليس بغريب، أن تبقى هذه النصوص خلف الكواليس ؟! ولماذا لم نشهد ولادة جديدة لنصوص أخرى على غرارها ؟! ولماذا نشهد ولادات لامتناهية لنصوص فلسفية ما انزل الله بها من سلطان ؟! ولماذا لم يتم تخصيص كتاب فلسفي واحد على الأقل، من قبل الأكاديميات الفلسفية عندنا، التي تطبع نصوصا فلسفية سئم منها العود الأبدي لفرط تكرارها واجترارها اللامتناهي، ولا تجازف بطبع عمل جماعي تناقش فيه أعمال رواد الفلسفة العراقية ؟! هل لان الفلسفة لا زالت "خاضعة لبرنامج تجريبي لم تكتمل ملامحه بعد" بحسب أ. الراوي ؟! أم لأننا فعلا نحيا في مرحلة بعد خراب الفلسفة على طريقة ألاستاذ الراحل مدني صالح (رحمه الله) ؟!
(*) باحث من العراق - مختص في فلسفة خطاب الدراسات الثقافية/ومابعدها