تأسست قراءة ميشيل فوكو لمفهوم السلطة على المستوى النظري ضد التصور الماركسي،خصوصا نظرية لوي ألتوسير المتعلقة بــ"الأجهزة الإيديولوجية للدولة"،وضد مجمل التصورات الميتافيزيقية والتقليدية في هذا الصدد.فمن المعلوم أن ألتوسير خصص دراسة لما يسميه الأجهزة الإيديولوجية للدولة التي تعمل في رأيه على إعادة إنتاج نفس نمط الإنتاج وعلاقاته السائدة في المجتمع،ويقصد بذلك أجهزة الدولة ومؤسساتها التربوية والتعليمية والثقافية والجزائية التي تهدف إلى المحافظة على الفوارق الاجتماعية القائمة وإلى إعادة إنتاج نفس العلاقات..أما على المستوى العملي فقد تبلورت أدوات ومفاهيم فوكو انطلاقا من تغير جذري لحق طبيعة العلاقة بين النظرية والممارسة،حيث كان نضال فوكو في صفوف حركة"مجموعة الإعلام عن السجون"خلال بداية السبعينيات من القرن المنصرم من أجل تفادي الانزلاقات التي كانت تهدد اليسار الفرنسي آنذاك بالانجراف نحو العنف وإراقة الدماء..
يفند فوكو في كتاب(المراقبة والعقاب،ميلاد السجن)مقدمات التصور الماركسي لمسألة السلطة داعيا في صفحات معدودات،لكن عميقة ومكثفة،إلى ضرورة التخلي عن الأفكار والمسلمات التي لازمت منذ مدة المواقف التقليدية لليسار في فرنسا أو في غيرها من الدول..وتنطلق مجمل تلك المسلمات من أن السلطة مِلْكِية في يد طبقة معينة،ومتمركزة في الدولة وأجهزتها،وتابعة لنمط الإنتاج،وبأن لها جوهرا يفصل بين الحاكمين والمحكومين،وبأن أشكال تأثيرها تتراوح بين استعمال العنف(القمع)من جهة وتوظيف الإيديولوجيا من جهة ثانية..
تكشف إعادة قراءة فوكو لمفهوم السلطة بأن هذه الأخيرة ليست مِلْكية،بل هي استراتيجية لا تعود إلى امتلاك ما،وإنما إلى حيل ومناورات وتدابير وتقنيات وتكتيكات:"ولا تطعن هذه النزعة الوظيفية الجديدة بطبيعة الأمر في وجود طبقات وصراعات طبقية- كما يقول جيل دولوز-،بل ترسم لها لوحة مغايرة بمناظر طبيعية مختلفة وأشخاص ليسوا نفس الأشخاص،وطرق غير تلك التي عودنا عليها التأريخ التقليدي بما فيه التأريخ الماركسي.."(دولوز:فوكو،ص31).
كما ينتقد فوكو مُسلمة مركزية السلطة أو انحصار موقعها وتميزه التي مفادها أن السلطة تؤول إلى الدولة وباقي الأجهزة التابعة لها،ويؤكد من جهته بأن السلطة لا مركز لها،وبأن الدولة ذاتها مفعول أو حصيلة لمجموع الدواليب والبؤر والآليات الشغالة في الحقل الاجتماعي بلا هوادة..
ويدحض فوكو مسلمة التبعية التي بموجبها يتم اعتبار السلطة تابعة لنمط الإنتاج السائد في مجتمع ما،مبرزا بأن الاقتصاد(المصنع)يفترض آليات السلطة مسبقا،إذ لم يكن من السهولة تنظيم الأيدي العاملة والرفع من مردوديتها لولا توفر تقنيات التأديب وإجراءات الانضباط ووسائل المراقبة.فهناك علاقة مؤكدة بلا ريب بين أنظمة العقاب وأنماط الإنتاج،غير أنها ليست علاقة علة بمعلول..
كما يفند فوكو مسلمة الجوهر والأعراض التي مفادها أن للسلطة جوهرا يميز بين الحاكمين والمحكومين،ويرى من جهته بأن السلطة علائقية في جوهرها تجمع الحاكمين والمحكومين معا،وتنزل من أعلى إلى أسفل بقدر ما تصعد من أسفل إلى أعلى..ولعل التحليل الذي يخص به فوكو"الأوامر الملكية المختومة" له أكثر من دلالة في هذا الصدد،إذ أن تلك المختومة التي كان ملوك فرنسا يصدرونها بطلب من النبلاء والآباء وأولياء الأمر ورجال الدين وكل من يرغبون في حبس من يثير قلقهم ويزعج راحة بالهم،كانت لا تتوجه بالضرورة من أعلى إلى أسفل،بل كانت استجابة لطلب يصعد من أسفل إلى أعلى.إن المرسوم الملكي إذن يصعد من أسفل إلى أعلى في شكل طلب،قبل أن ينزل عبر جهاز السلطة في شكل أمر ملكي مختوم بالحبس أو بالنفي..
وأخيرا وليس آخرا ينتقد فوكو مسلمة أنماط التأثير التي مفادها أن السلطة تستعمل العنف وتلجأ إلى القمع تارة،أو توظف الإيديولوجيا تارة أخرى.وتكشف لنا المقاربة الفوكوية بأن العنف ليس سوى مظهر أو أثر سطحي للقوة المسلطة على شيء أو كائن ما،وبأن العنف والإيديولوجيا لا يفسران مفهوم السلطة،بل يفترضان توفر تنظيم سابق ضمنه يبسطان تأثيرهما.لهذا يعتبر فوكو بأن القمع والإيديولوجيا لا يشكلان معركة القوى،وإنما ذلك الغبار أو "النقع الذي تثيره سنابك الخيل في المعركة"..فتكنولوجيا الجسد السياسية-كما يسميها فوكو-في المجتمعات الغربية تستمد قواعدها وأساليبها وتقنياتها من علوم البصريات والميكانيكا والفيسيولوجيا،فلا حاجة بعدئذ إلى العنف والإيديولوجيا..
يتجاوز فوكو إذن بمقاربته الإستراتيجية جل الأطروحات التقليدية لإشكالية السلطة،بما فيها الأطروحة الماركسية التي تكثر في جهازها المفاهيمي من استعمال مصطلحات الإيديولوجيا والقمع وصراع الطبقات والبنية التحتية والبنية الفوقية.وبواسطة مفاهيم جديدة وفي اتجاه مغاير تماما ينشد فوكو البحث عما يمكن أن يكون أكثر خفاء في علاقات السلطة،وتحليل تلك العلاقات إلى حدود البنيات الاقتصادية،ثم تتبعها ليس عبر أشكالها المتعلقة بأجهزة الدولة فحسب،بل في مستواها الميكروفيزيقي المتعلق بما تحت جهاز الدولة،والتعرف عليها أخيرا في واقعها المادي والحيوي..
مجمل القول إن مفهوم السلطة في فكر ميشيل فوكو لا يستند على فلسفة في التاريخ،أو"رؤيا للعالم"،أو نظرية سياسية محددة،وإنما يرتكز على منظور استراتيجي يركز بالدرجة الأولى على واقع الصراعات التي تخترق الحقل الاجتماعي:"فالسلطة ليست مؤسسة،كما أنها ليست قوة معينة وهبت للبعض:إنها الإسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين"(فوكو،إرادة المعرفة ص123)..